
هي واحدة من أعظم روائع الأدب العالمي بشهادة نابكوف، الرواية التي جعلت افتتاحيتها، ماركيز بجلال قدره في عالم الأدب، يسقط من فراشه دهشةً، إنّها الرواية التي أوصى صاحبها أن تُحرق بعد موته هي وجملة أعماله...، فما الجديد والمختلف في رواية المسخ؟.
اختلاف الرواية يأتي من كونها تُقدّم عبث الوجود الإنساني في قالب فنتازيا، دون أن تُشعرنا بأنّنا أمام تخيل لا مألوف، بل تجعلنا نُصدق أنّ تحول بطل الرواية إلى حشرة، هو حدث حقيقي، وليس خيالاً موسّعاً من الكاتب، أو مُشابهاً لأدب ألف ليلة وليلة، التي يتحول شخوصها إلى حيوانات وشياطين ومسوخ، وإنّما هو تحول حقيقي، يفرض داخل القارئ أحاسيسه، ويفرض داخل رأسه صوراً ذهنية وأخيلة لـ (غريغور سامسا) في مرحلته الحشرية.
لقد صوّر كافكا الاغتراب الإنساني أعظم ما يكون التصوير، إذ نواجه شخصاً عادياً مثل الملايين من البشر أمثاله الذين أكلتهم روتينية العمل وعبثية الوجود، الذين لم يقيموا علاقات محبة مع العملاء أو الزملاء، لأنّ العمل التجاري، ويرادفه في عصرنا الحالي تحقيق "التارغت"، ليس هو ذلك النوع من العمل الذي تُبنى فيه روابط إنسانية، تخفف من قيود البيئة الوظيفية وأجوائها. لقد صدق العقاد حين وصف الوظيفة بأنّها عبودية القرن العشرين، وصدق من قال إنّ الوظيفة هي الأجر المدفوع لك كل شهر، مقابل التخلي عن أحلامك، لقد كان غريغور أعظم مثال على الإنسان المُستعبد، الذي استيقظ ذات يوم فوجد نفسه حشرة. هو تجسيد للإنسان الذي لم يتغيب عن عمله يوماً واحداً طوال أعوام، والذي بذل نفسه من أجل تسديد ديون والديه، ومن أجل أن يُحقق رفاهية العيش لأسرته، لقد اتكأ عليه الجميع واتكأ عليه عمله، حتى انحسر شيئاً فشيئاً وجوده الإنساني، وأصبح وجوده الجديد كحشرة، هو تمثيل لمعنى العمل المتواصل دون غاية، تمثيل الوجود المبذول لمن لا يقدره، للاحترام المشروط بمدى الاستفادة منك.
الأحداث في القصة لا تتصاعد بالقارئ حتى تبلور الفكرة التي تقوم عليها، ثم تبدأ الرؤية تتضح شيئاً فشيئاً، ثم يريحك الكاتب في نهاية الأمر بتحقيق العدالة، ويصل بك إلى فردوس العالم المفقود. لم يفعل هكذا رائد الكتابة السوداوية، لقد وضع كافكا نهاية القصة في أول سطرين، ثم شَرع في إزاحة الستائر عن الأسباب التي جعلت الحالة الإنسانية تنحل في جسد غريغور، دون أن يُخل أو يُخفت السرد من صدمة أول سطرين. غير أنّ ما يُمكن أن نسميه "المظهر الإنساني" الذي تبدل بالمظهر الحشري، لم يصحبه أيّ تبدل للوجود الإنساني الداخلي، فقد ظل سامسا يفكر ويشعر كإنسان، على الرغم من تغير الشكل والحركة ونوعية الطعام.
الغريب أنّ سامسا بدلاً من أنّ يحاول الصراخ من هول صدمة تحوله، وبدلاً من أن يرفض أو يبكي أو يئن، تقبل وجوده الجديد وراح يتكيف معه. فقط كل ما كان يُخيفه من هذا الوجود الأكثر غرابة وتعاسة، غضب صاحب العمل منه، وخوفه من فقدان وظيفته التي يعول بها أسرته، ويهبُ بها نفسه طواعية للآخرين، فيظل يؤثرهم على نفسه حتى بعد أن جعلته استراحتهم الظالمة على أكتافه لأعوام تُنهي وجوده الإنساني تماماً، وحتى وهو يتكشف له واحدة واحدة، أنّه كان مُستغلاً من أسرته طوال تلك الأعوام، وخاصّة والده الذي كان بإمكانه أن يُحرره من نير تلك الوظيفة وهذه الحياة، لكن عوضاً عن ذلك اختاروا جميعهم: والداه وأخته، أن يكونوا مُدللين من ذلك الشقي.
تتكشف المأساة بصورة أعمق في مرحلة سامسا الجديدة، فبعد أن أصبح عديم الفائدة للأسرة، استُثقل وجوده، وسحبت الأغراض والأثاث من غرفته، وصار حضوره ولو على مستوى الذهن يُسبب الضيق، وإن كان الرفض يأخذ شكله الصريح مع الأب، وشكله المتواري والخجل مع الأم والأخت؛ ليموت في نهاية الأمر سامسا نافقاً كالحشرة، أو حشرة بالفعل تنطوي على إنسانية مُستلبة، يموت وبعض الجروح على ظهره، والتفاحة المضروب بها متعفنة في ثناياه.
إذا كان كافكا يصور اغتراب الإنسان في القرن العشرين بهذا الشكل القاسي، فكيف يصور الإنسان المُستلب من العمل والمجتمع والعصر الرقمي وضغوط الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي، الذي يُهدد الرزق، والتضخم والحروب والمشكلات الاجتماعية والتفكك الأسري؟.
لقد نجح كافكا في المزاوجة بين واقع المدينة التي تحدث فيها القصة، وبين العالم الداخلي الكئيب والفارغ للبطل، فقد وصف مدينته بأنّها مُغيمة، ونافذة حجرته تُطل على ضباب، وصف القطارات والحركة والعمل، العمل دون أدنى ممارسة هامشية تخص روح الإنسان، لم يكن هناك أيّ لمحات جمالية أو شاعرية تحيط بسامسا، حتى حضور المرأة في حياته كان على مستوى مُتخيل ورمزي وبعيد جداً، فقد كانت المرأة في حياة كافكا بورتريه تمّ وضعه في غرفة نومه، لسيدة على الأرجح ليست حقيقية، كانت هناك لمحات من الشاعرية تظهر في حرصه على الإنصات لأخته وهي تعزف على الكمان، لقد كان هذان الحدثان العرضيان، هما فقط اللذان يُثيران الشفقة المرة على الوجود الجمالي والإنساني في حياة سامسا، ويبقى السؤال البعيد في خلفية تلك الرواية، هل عبّر فرانتز كافكا عن نفسه في بطله غريغور سامسا؟
إنّ الوزن الواحد الذي يظهر في نطق الاسمين، كفيل بأن يردّ بأنّ سامسا كان واحداً من وجوه كافكا السوداوية المتعددة، وواحداً من وجوه الإنسانية المسلوبة في كل مكان، هذا التشابه في حضور الأب القاسي، وعبثية الوجود وغياب المعنى، هما أبرز المُتشابهات في حياة كافكا وبطله.
سيظل مشهد نهاية سامسا واحداً من أحزن نهايات الأبطال على مرّ تاريخ الأدب ماضيه وحاضره ومستقبله، سيظل مشهد الحشرة الإنسانية النافقة واحداً من أعظم تعبيرات الأدب عن الإنسان واغترابه، سيظل سامسا بطلاً يجسّد معاني الإنسانية المهدورة تحت وطأة العمل والعلاقات، ويظل كافكا رائداً لأدب مذاقه حُلو وصعب.