محمود السمرة يستودع المدى إيقاعه الأخير

محمود السمرة يستودع المدى إيقاعه الأخير


12/11/2018

ودّعت الأسرة الثقافية والأكاديمية الأردنية السبت الماضي العلامة محمود السمرة، أحد أبرز أعلامها الذين أثروا المسيرة العلمية والفكرية العربية قبل رحيله عن 94 عاماً في العاصمة الأردنية عمّان، خرّج خلالها أجيالاً من الأكاديميين عبر رحلة طويلة في عالم الكتاب والتعليم الجامعي الذي كان شغفه الذي أخلص له لأكثر من خمسين عاماً. 

ولد محمود السمرة في 20/4/1923، وفق موظف الإحصاء، الذي كان يحضر كل سنتين أو ثلاث إلى مسقط رأسه قريته الطنطورة التي ترتبط بالطريق الساحلي بين حيفا ويافا، وأرتأى أن يزيد في عمره عاماً واحداً استناداً إلى حجم جسمه كما روت له والدته!

اقرأ أيضاً: ما لا تعرفه عن سيرة المفكر الفلسطيني هشام شرابي

نشأ السمرة وسط أسرة من سبعة أفراد، وكان ترتيبه الثاني بين الأشقاء، بعد أن أنهى الصف الرابع في مدرسة القرية سجّله معلمه الأثير إلى نفسه "فرج" في مدرسة الحكومة بحيفا بعد أن قطع الغلام وعداً أن يظلّ ترتيبه الأول في كل فصل، فإنه –بنظر الوالد- إن لم يكن كذلك فهو فاشل لا يصلح للدراسة، وظلّ هذا السيف مسلطاً على رقبته طوال سنيّ دراسته حتى الدكتوراة بعد أن ولّد لديه كما يقول "عقدة نفسية مفيدة".

أمضى الفتى المتحمس للعلم الذي زرعته فيه أمه الأمية البسيطة ست سنوات من "الصبر المرّ" في غربته الأولى بحيفا

أمضى الفتى المتحمّس للعلم الذي زرعته فيه أمه الأمية البسيطة ست سنوات من "الصبر المرّ" في غربته الأولى بحيفا رغم أنّه أصبح يعرف عند أهل قريته بـ"الأستاذ" بحكم أنّه "ليس فوق علمه علم في رأيهم".

في العام 1941 التحق بالكلية العربية في القدس وكانت لا تقبل إلا أوائل الثانوية العامة، وكان ينوي أن يستكمل بالفرع العلمي لولا قسوة معلم الرياضيات عليهم، مما جعله يغيّر مسار حياته العلمية إلى عالم الأدب، وخلال تلك الفترة تعرف في رحلات عودته إلى قريته إلى فتاة جميلة من حيفا ابن محام معروف ستغدو شريكة حياته.

امتدت رحلته بالجامعة الأردنية سبعة وعشرين عاماً

بعد إنهاء دراسته في الكلية قضى عامين معلماً للغة الإنجليزية في مدرسة طولكرم الثانوية حتى سنحت له فرصة الحصول على بعثة لدراسة الأدب العربي في جامعة فؤاد الأول (القاهرة)، وكان ذلك قبل أشهر قليلة من صدور قرار تقسيم فلسطين العام 1947، لتسقط بعد أقل من عام قريته في أيدي الصهاينة من بين الأراضي التي استولوا عليها العام 1948، ولم يكن أمامه إلا الاستمرار في الدراسة ونفسه مشبعة بالمرارة التي لم تفارق أبناء جيله ممن ذاقوا مأساة التهجير ولم يجدوا بدّاً من توريثها لأبنائهم.

اقرأ أيضاً: محمد طُمّليه في ذكراه العاشرة: لسان عذب وساخط مصاب بالسرطان

في الجامعة زامل صديقه الأثير إحسان عباس الذي كان مؤنسه في تلك الأيام الصعبة، وكان ممن درّسه شوقي ضيف وأمين الخولي وأحمد أمين، في العام 1950 أنهى دراسته الجامعية الأولى، وكان أهله استقروا لاجئين في مدينة طولكرم، ولم يطل به المقام في ذلك العام حتى كان قد تعاقد وهو في دمشق ليعمل مدرساً في الكويت لمدة 6  أعوام، التي عاد إليها 6 أعوام أخرى بعد استكماله دراسته في بريطانيا.

بعد حصوله على الدكتوراة من جامعة لندن عاد للكويت ليُعين في دائرة الإرشاد والأنباء

بعد حصوله على درجة الدكتوراة من جامعة لندن (SOAS)، عاد إلى الكويت ليُعين في دائرة الإرشاد والأنباء (وزارة الإعلام لاحقاً)، وفيها تعرف إلى المفكر المصري المعروف أحمد زكي الذي أسس مجلة العربي وليصدر معه في كانون الأول (يناير) 1958 العدد الأول من الدورية الشهرية العربية الأشهر بوصفه نائباً له في رئاسة التحرير، واستمر السمرة مع "العربي" حتى العام 1964 بعد أنّ ألحّ عليه حلمه الأثير بأن يكون أستاذاً جامعياً، وهو ما تحقق له بالتحاقه بالجامعة الأردنية بعد تأسيسها بعامين.

اقرأ أيضاً: فؤاد زكريا مؤذّن العقل في مالطا التعصب

امتدت رحلة "أستاذ الأجيال" في أمّ الجامعات الأردنية ببصمته الأكاديمية المهيبة سبعة وعشرين عاماً تولّى منها بين عامي 1973 و1989 منصب نائب الرئيس ثم رئيساً لها حتى العام 1991، قبل أن يصبح وزيراً للثقافة حتى العام 1993 الذي شهد تأسيس جامعة البنات الأردنية الخاصة (جامعة البترا حالياً)، فتولى رئاستها حتى العام 2003 بعد أن قضى فيها أكثر من 9 أعوام.

تولى رئاسة جامعة البترا حتى عام 2003 بعد أن قضى فيها أكثر من 9 أعوام

خلال مسيرته العلمية الحافلة أصدر السمرة مجموعة من الكتب تأليفاً وترجمة وتحقيقاً، منها: مقالات في النقد الأدبي، أدباء الجيل الغاضب، في النقد الأدبي، دراسات في الأدب والفكر، سارق النار (طه حسين)، متمردون: أدباء وفنانون.. إضافة إلى سيرته الذاتية "إيقاع المدى" التي أصدرها العام 2006.

ظل منزله يحتضن لقاءً فكرياً شهرياً استمر سنوات يجمع نخبة من الأكاديميين والمفكرين جلهم من تلاميذه المخلصين

تقديراً لمكانته حصل الدكتور محمود السمرة على عدة أوسمة وطنية ودولية منها وسام الحسين للإبداع والتميّز العام 2002 ووسام الكوكب الأردني من الدرجة الأولى العام 1993، ووسام القدس للثقافة من منظمة التحرير الفلسطينية العام 1991، والوسام السويدي العام 1989، كما نال عضوية مجمع اللغة العربية الأردني منذ تأسيسه العام 1976.

حتى بعد تحرره من عمله الإداري بقي السمرة وهو في الثمانين من العمر على وفائه لعشقه في العمل الأكاديمي، فاستمر ما سمحت له صحته في إعطاء محاضرات لطلبة الدكتوراة والإشراف على رسائل بعضهم لبضع سنين.

اقرأ أيضاً: حمد الجاسر: أول طالب سعودي في كلية الآداب بالقاهرة

وظلّ منزله بعد تقاعده يحتضن لقاءً فكرياً في السبت الأول من كل شهر دام سنوات يجمع نخبة من الأكاديميين والمفكرين جُلّهم من تلاميذه المخلصين الذين خرّجهم أستاذ الأجيال، قبل أن يقعده المرض عن الحركة والكلام في آخر أيامه تاركاً المدى مشبعاً بالصمت بعد أن استودعه إيقاعه الأخير.

الصفحة الرئيسية