محصّلة الدّيمقراطية الدينيّة... فرار العقول من إيران

محصّلة الدّيمقراطية الدينيّة... فرار العقول من إيران


22/08/2022

يوسف بدر

تقدم لنا إيران نموذجها السياسي بصورة النموذج المثالي الذي يقوم على قاعدة الديموقراطية الدينية (مردم سالاري ديني) في مقابل الديموقراطية الغربية العلمانية؛ حتى أننا وجدنا داخل مجتمعاتنا العربية مَن يطالب بتكرار تجربة إيران، بخاصة بين أوساط التيارات الدينية، والشيعية منها على وجه الخصوص.

بل إن في فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، ظهرت ما تُسمى بتيارات الغضب وتيارات الإسلام السياسي التي كانت تضج شوارع العواصم والمدن العربية بتظاهراتها؛ وكانت تطالب باستلهام النموذج الإيراني من أجل الخروج من التبعية الغربية والخلاص من إرث الاستعمار، على غرار إيران التي طردت ثورتها الشاه عام 1979، ودخلت في عداء وتحد مع الإمبريالية الأمريكية ونفوذها في العالم.

والهدف من كل هذه الضجة التي ما زالت مستمرة داخل أوطاننا العربية من جانب بعض الموالين لنظام ولاية الفقيه، هو الادعاء بتحقيق العدالة والرفاة والحرية والديموقراطية للشعوب العربية. 

فهل إيران النموذج المُلهم استطاعتْ بالفعل تحقيق أي من ذلك؟

والإجابة هنا، تكمن في الحديث عن النخبة وعلاقتها بالسلطة الحاكمة. 

فالنخبة هي المجموعة الأكثر قدرة ونفوذاً، ربما على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي. وداخل أي بلد يمكن فهم طبيعة النخبة المؤثرة من طبيعة النظام الحاكم؛ فالسلطة هي التي تحدد أي نخبة يمكن أن تقترب منها، وأي أخرى تبتعد عنها وتفر.

كذلك أيضاً، فإن النخبة المقربة هي القاعدة الاجتماعية التي تعزز أركان النظام السياسي وتضمن استقراره.

تبدل النّخبة

في إيران أيام حكم الشاه، كانت السلطة الحاكمة تقوم على أساس ملكي، وبالتالي كانت النخبة تتشكل من طبيعة هذه السلطة، حيث كانت نخبة طبقية أرستقراطية قائمة على قوة المال والوجاهة الاجتماعية والولاء للعرش الملكي.

بينما كانت هناك طبقات فقيرة محرومة ومهمشة لا تتمتع بأي شيء، فضلاً عن وجود نخبة مرفوضة ومعاقبة؛ لأنها لا تحمل الولاء للعرش؛ بسبب أفكارها السياسية، فهي تدعو إلى الاشتراكية أو نظام الجمهورية أو السلطة الدينية. 

لكن مع ذلك، كانت هناك مساحة نسبية للتعايش ولاحتواء كل التيارات والنخب؛ لأن قاعدة الحكم كانت باسم الأمة والقومية الإيرانية.

ثم جاء أحد زعماء ثورة 1979 في إيران، وهو الإمام الخميني، ليستفرد بهذه الثورة ويؤسس نظام الجمهورية الإسلامية الذي قام على رؤية خاصة جداً؛ لأن هذه الرؤية لم تكتف بالإسلام قاعدةً للحكم؛ بل التزمت بثوب التشيع وبنظرة ونظرية رجل الدين الخميني التي فَصّلتْ دولةً كاملة على مقاس الولي الفقيه.

وهنا تبدلت النخبة من حيث الشكل؛ لكنها حافظت على قواعد تشكلها نفسها؛ لأن طبيعة النظام هي التي تحدد نخبته المقربة والمُبعدة، إذ إن نظام ولاية الفقيه الذي تأسست عليه الجمهورية الإسلامية، رفع رجل الدين إلى رأس هرم السلطة، وبالتالي فقد تشكلت النخبة في كل مواقعها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على أساس الاقتراب من صورة رجل الدين والولاء لأفكاره الخاصة جداً.

حتى وجدنا الرجل السياسي أو العسكري أو الاقتصادي أو الاجتماعي يسبّح بحمد الولي الفقيه وببركة نظام ولاية الفقيه؛ وكل ذلك من أجل ضمان الحصول على المناصب والامتيازات والاقتراب من السلطة.

إذاً، الديموقراطية الدينية حددت نخبتها في مساحة خاصة جداً تصلح في إطار جماعة دينية، وليس في إطار دولة متعددة الأطياف والطوائف والقوميات والمشارب، لأن الديموقراطية الدينية التي تأسست على قاعدة ولاية الفقيه تقول بأن السيادة للشعب في إطار نظرية ولاية الفقيه. وهذا يعني أن السيادة ليست لكل الشعب؛ بل للأشخاص الذين تربطهم علاقة الولاء لنظام ولاية الفقيه.

وهذا ما يفسر لنا دور مجلس صيانة الدستور في إيران الذي يفرز المرشحين لأي انتخابات على أساس مبدأ الولاء لهذا النظام؛ وإلا فلن تكون هناك فرصة لأي سياسي مهما كانت شعبيته في الوصول إلى صناديق الاقتراع.

ويفسر أيضاً، لماذا النظام الحالي عاجز عن ضمان سلامة الأراضي الإيرانية ووحدتها؛ وهو ما يدفع جانباً من المعارضة إلى الدعوة إلى عودة النظام الملكي بصورة دستورية؛ ضمانة لوحدة إيران؛ لأن طبيعة النظام الحالي لا تتجاوز حكم الجماعة الدينية.

هجرة العقول والنّخبة

قال المرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي، في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2021، "إن الذين يشجعون الشباب على الهجرة من إيران، هم خونة وأعداء للوطن". 

كان خامنئي يقصد في كلامه قضية تعيشها إيران منذ الأشهر الأولى للثورة وهيمنة الإسلاميين على مفاصل الدولة، قبل أكثر من 40 عاماً، وهي قضية هجرة العقول والنخب، حيث تقف إيران في أعلى إحصائيات هذا النوع من الهجرة في العالم؛ إذ يهاجر ما يصل إلى 18 ألف سنوياً من العقول والنخب، بما يعادل خسارة 50 مليار دولار أميركي؛ وبما يؤثر في تنمية إيران ويهدد كذلك بإفراغ مجتمعها من النّخب العلمية.

والسبب لا يقتصر على العقوبات وسوء الوضع الاقتصادي وعوامل الجذب الغربية كما يروّج النظام الإيراني؛ بل يرجع أيضاً إلى النظام البيروقراطي وسوء السياسات وانعدام الفرص وسوء المناخ السياسي والتضييق على الحريات؛ حيث الفرص والحلول تأتي من الولاء للنظام أولاً.

لقد دافع الخميني صراحة عن هجرة العقول وعن أن هذا الوطن لا يسع الجميع، بعدما بدأت التيارات المعارضة لطبيعة النظام الجديد في ترك إيران، قائلاً: "يقولون إن العقول تفر، لتفر إذاً، إنها لم تكن عقولاً علمية بل هي عقول خائنة؛ وإلا لماذا يفرون من وطنهم إلى أميركا وبريطانيا؟!".

والآن بعدما تفاقمت الأزمة، يبحث الساسة في إيران عن حل لها، فالرئيس الحالي، إبراهيم رئيسي، قال في 4 تموز (يوليو) 2022: "لا بد من أن ينعكس اتجاه هجرة النخب إلى إيران، وأن يدرك الذين هاجروا أن الظروف باتت مهيّأة للعمل داخل بلدهم!". 

ومع أن إيران أنشأت المؤسسة الوطنية للنُخب عام 2005؛ إلا أن ذلك لم يستطع إيقاف هجرة العقول؛ لأن من الواضح في تصريحات رئيسي أو غيره، أن النظام الإيراني لا يدرك أن أسباب الهجرة لا تتعلق بالأسباب المادية فحسب؛ بل في طبيعة النظام الحاكم والسائد نفسه.

الولاء الولاء!

تقوم السياسة الداخلية في إيران على أساس الولاء والبراء؛ وعلى ذلك، يعتبر النظام أن أصوات الصندوق التي أتت به إلى السلطة، أعطته تفويضاً مطلقاً لتنظيم العملية السياسية بالقواعد التي يحددها؛ فلا مساحة للتعبير عن أي رفض لهذا النظام، وإلا يصبح ذلك انقلاباً على الشرعية.

حتى أن هذا النظام لم يتحمّل البيان الذي وقعه عشرات الفنانين في حزيران (يونيو) الماضي، تحت عنوان "نحِّ سلاحك جانباً" (تفنگت را زمين بگذار). وذلك في مطالبة منهم بعدم استخدام العنف ضد المتظاهرين بعد انهيار برج "متروبول" بسبب الفساد في مدينة عبادان في محافظة خوزستان. ثم ضغطت الاستخبارات الإيرانية على هؤلاء الفنانين لسحب توقيعهم؛ وإلا يعاقبون بالمنع من السفر وعدم القدرة على مزاولة مهنتهم. 

حتى أن الممثلة الإيرانية الشهيرة ترانه علي دوستي، كتبت على "أنستغرام": "تمنعوننا من دون محاكمة أو جريمة، تمنعوننا من ماذا؟ إن فعلكم هذا هو الظلم بعينه!".

لا يفهم النظام الإيراني كلمات هذه الممثلة لأنه لا يفهم إلا الولاء ثم الولاء حتى النخاع. حتى أن أنصاره لم يشفعوا للاعب الكرة الإيراني الشهير على كريمي، انتقاده للإسراف في مراسم عاشوراء، فقد كتب يقول: "ننفق المليارات على النذور؛ بينما ندعو لمريض يموت بسبب الفقر"، رغم كل الأعمال الخيرية التي يقدمها كريمي لمجتمعه والصورة المشرفة التي قدمها كلاعب كرة يطلق عليه مارادونا آسيا.

بينما على النقيض، كان الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي، يتقرب من مغني الراب، أمير حسين مقصودلو، الشهير بإبراهيم تتلو؛ من أجل كسب معجبيه في صناديق الاقتراع؛ بينما كانت الوشوم تغطي جسم تتلو، ومن الصعب على المحافظين أن يتقبلوا مثل ذلك.

المحصّلة

إن الديموقراطية الدينية في إيران تنبع من قيم رجال الدين، لا من قيم الإسلام؛ ولذلك لا يمكن لهذا النوع من الديموقراطية أن يحقق أي نوع من العدالة، كما يروّج المهووسون بالنموذج الإيراني داخل مجتمعاتنا العربية.

لقد تشكلت النخبة في إيران بعد ثورة 1979 على أساس الولاء لنظام ولاية الفقيه؛ وعلى ذلك لا يأكل النظام أبناءه؛ إلا مَن تمرد منهم عليه. وهذا يفسر لنا لماذا يتفشى الفساد بين هذه النخبة.

تواجه إيران أعلى معدلات هجرة للعقول والنخب؛ لأن هؤلاء شعروا بأن البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية داخل إيران، ليست سوى مقبرة لكل مَن لا يسبّح بحمد هذا النظام وفضله.

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية