ما رسائل تركيا من الاعتداءات بحق المدنيين في شمال شرقي سوريا؟

ما رسائل تركيا من الاعتداءات بحق المدنيين في شمال شرقي سوريا؟

ما رسائل تركيا من الاعتداءات بحق المدنيين في شمال شرقي سوريا؟


21/01/2024

ما تزال المسيّرات التركية تقصف البنية التحتية بمناطق شمال وشرقي سوريا، ممّا يتسبب في سقوط مدنيين فقط. وقد قتل (6) مدنيين في قصف تركي قبل أسابيع قليلة، وفق ما أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان، ومقره لندن. وقال مدير المرصد رامي عبد الرحمن: إنّ "غارة تركية طالت مطبعة في مدينة القامشلي، وأودت بحياة (4) عمال مدنيين".

وتابع: "أسفرت غارة طالت مطحنة قرب المدينة عن مقتل مدني، وقتل مدني في منشأة توزيع أسطوانات غاز".

لا تُعدّ الهجمات التركية على المناطق الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية جديدة، بل إنّ هناك سوابق عديدة لاعتداءات مماثلة، لا يدفع ثمنها سوى المدنيين، بحجج ملاحقة أو بالأحرى الانتقام من هجمات حزب العمال الكردستاني على تركيا، بحسب مزاعم الرئيس التركي. في حين أنّ خرق السيادة العراقية والسورية، بدعوى محاربة الحزب المعارض لتركيا، والذي يخوض ضدها حرباً منذ ثمانينات القرن الماضي، تثير الامتعاض والسخرية، حيث لا تعني هذه الحجة وتلك المزاعم سوى أنّ الرئيس التركي يواصل انتقامه من المناطق الكردية في محيطه الإقليمي بمفهوم عدائي، يجعل من الكردي "إرهابياً" بالضرورة، ومنتسباً قسراً إلى الحزب القائم في جبال قنديل.

فوبيا تركية من الأكراد

في حديثه لـ (حفريات) يقول زارا صالح، الباحث السياسي في دراسات السلام وحل النزاعات الدولية في جامعة كوفنتري ببريطانيا: إنّه بداية لا بدّ من التأكيد على "العقدة" أو "الفوبيا التركية" من القضية الكردية، نظراً لأنّ أنقرة ترى في الكرد وقضيتهم خطراً على وجودها. لهذا فتركيا بفكرها "الإيديولوجي العنصري الشوفيني، تعادي أيّ طموح كردي، بغض النظر عن الأسباب والحجج التي تقدمها وتتذرع بها"، فهي لا تفرق بين الأطراف السياسية والمدنيين، والدليل أنّها تحارب الكرد في كافة أجزاء كردستان وليس فقط في تركيا، وهي تحاول ألّا تتكرر تجربة إقليم كردستان العراق في سوريا، ولذلك تستشعر "الخطر" من أيّ طموح كردي، وما تفعله تركيا وما تشنه من "حرب إبادة" ضد الكرد، تأتي في سياق تضخيم "الفوبيا التركية" من القضية الكردية.

وثمة أهداف أخرى تبرز من الهجمات التركية شبه المنتظمة على المناطق في شمال شرقي سوريا، يمكن تحديدها بالإشارة إلى تعمد ضرب المواقع النفطية، والتي تُعدّ أحد المرتكزات الحيوية للاقتصاد في المنطقة، وتتسبب في شل مقدرات "الإدارة الذاتية"، وتعطيل محاولاتها في مواصلة الحكم وتأمين سياستها واستقرار سلطتها؛ إذ إنّ الجانب التركي يعي حتماً أنّ الفوضى المحتملة في تلك المناطق سوف يترتب عليها صعود "داعش" مجدداً، والعناصر الإرهابية الكامنة من فلول التنظيم الذي هزم في معركة الباغوز عام 2019 على يد القوات الكردية (قسد)، بينما يطل برأسه أحياناً في شكل "ذئاب منفردة"، وينفذ عمليات مباغتة. وكل ذلك ستكون حصيلته أن يمتد النفوذ التركي وميليشياته إلى باقي المناطق في شمال شرقي سوريا كما يحتل مناطق شمال غرب سوريا.

 زارا صالح: لا بدّ من التأكيد على "العقدة" أو "الفوبيا التركية" من القضية الكردية، نظراً لأنّ أنقرة ترى في الكرد وقضيتهم خطراً على وجودها

وبالعودة إلى الباحث السياسي في دراسات السلام وحل النزاعات الدولية في جامعة كوفنتري ببريطانيا، زارا صالح، يوضح نقطة أخرى تُعدّ سبباً آخر في استهداف تركيا للمدنيين، سواء في شمال شرقي سوريا، أو إقليم كردستان العراق، وهي أنّ تركيا منذ أكثر من عام فشلت في الحصول على الضوء الأخضر الأمريكي الروسي  للقيام بعملية اجتياح مرة أخرى في المناطق الكردية؛ بحجة محاربة حزب العمال الكردستاني، ولذلك فهي تقوم كبديل عن هذا الاجتياح بالقصف الجوي أو بالمسيّرات لاستهداف المدنيين والبنى التحتية لمناطق شمال شرقي سوريا، وهي بذلك لديها هدف استراتيجي، وهو استكمال مشروع التغيير الديموغرافي من تهجير الكرد، كما حصل في عفرين ورأس العين/ سري كانييه والمناطق الأخرى؛ أي محاربة المناطق الكردية وتجويعها بغية تهجير سكانها.

 

زارا صالح: تركيا بفكرها الإيديولوجي العنصري الشوفيني، تعادي أيّ طموح كردي، بغض النظر عن الأسباب والحجج التي تقدمها وتتذرع بها

 

 

بالتالي، نحن بصدد عملية (إبادة جماعية) ممنهجة، على الرغم من أنّ المنطقة يوجد فيها قوميات وطوائف أخرى من العرب والسريان وغيرهم، كما أنّ "الإدارة الذاتية" لشمال شرقي سوريا لا تعرف عن نفسها كإدارة كردية، وإنّما هي إدارة سياسية متنوعة، وتعبر عن كافة طموحات وحقوق أبناء المنطقة، كما أنّ أفكار الإدارة غير "قومية"، مع أنّ الرأي العام الكردي ليس مع مشروع الإدارة الكردية، ويريد إقليماً فيدرالياً كردياً، وهو ما يدحض أيّ مزاعم لتركيا بشأن محاربة مشروع كردي على حدودها.

إصرار تركي على العدوان

الدولة التركية رغم ذلك تواصل هجماتها على مناطق شمال وشرق سوريا "بحجج واهية لا تستند إلى أيّ معايير، راغبة في إنهاء وجود المشروع الديمقراطي الذي يضمن الحقوق المشروعة لكافة المكونات في المنطقة، وتسعى أنقرة إلى "تأجيج الصراعات والاستفادة من التطورات الإقليمية والدولية، واستثمارها لمصالحها؛ لتنفيذ توجهاتها العدوانية ونهجها الإبادي، خاصة ضد مناطق الأكراد التي تناضل ضد الإرهاب، وتسعى لبناء نموذج مجتمعي مرتكز على أساس وحدة الشعوب ونضالها الديمقراطي"، وفق بيان الإدارة الذاتية الأحد الماضي.

وتشير الإدارة الذاتية إلى أنّه قد "تمّ رفع سوية الهجمات التركية الإرهابية الفاشية، خلال الأسبوع الفائت وبدايات الأسبوع الجاري، حيث استهدفت تركيا في عدوانها الهمجي هذا الكثير من المدنيين ومنازلهم"، فضلاً عن صوامع القمح في كوباني، وطواقم الإطفاء، ومحطة تحويل الكهرباء في عين عيسى وكوباني؛ ممّا أسفر عن قطع الكهرباء عن كوباني و(300) قرية حولها، وضرب محطة الكهرباء في عامودا، وكذلك ناحية الدرباسية وريفها، بما فيها مركز التموين. وأدت الهجمات العدوانية إلى إصابة طفلين وامرأة؛ بسبب استهداف منزلهما في ريف الدرباسية، كذلك أدت الهجمات إلى خروج عدة مؤسسات خدمية عن الخدمة. هذه السياسة المتبعة هي سياسة الإبادة، والتهجير وإفراغ المنطقة، كذلك محاولة الهروب إلى الأمام، نحو توجيه الرأي العام التركي وخداعه، وصرفه عن فشل حكومة أردوغان داخلياً وتصعيده غير المبرر خارجياً.

الدولة التركية رغم ذلك تواصل هجماتها على مناطق شمال وشرق سوريا "بحجج واهية لا تستند إلى أيّ معايير

إذاً، القوات العسكرية التركية لا تهاجم أيّ عناصر "إرهابية"، كما يزعم الرئيس رجب طيب أردوغان، بل إنّها تفاقم الوضع الإنساني بالمنطقة؛ نتيجة استهداف قطاعات حيوية مثل الكهرباء والمستودعات والمنشآت النفطية. 

نهاية الأسبوع الماضي، نفذت تركيا قصفاً جوياً على مناطق مختلفة في شمال العراق وسوريا. وقال أردوغان في اجتماع أمني: "لن نسمح أبداً بإقامة منطقة إرهابية على حدودنا الجنوبية تحت أيّ ذريعة أو لأيّ سبب".

مبررات تركية واهية

يمكن القول إنّ شن قوات النظام السوري هجمات على مناطق شمال غرب سوريا، وتحديداً في إدلب التي تقع تحت سيطرة (هيئة تحرير الشام) بقيادة أبو محمد الجولاني، تبدو ضمن الأسباب الخفية وغير المعلنة، للضغط على حكومة دمشق التي تزعزع استقرار أحد وكلاء تركيا في المنطقة.

وقالت وزارة الدفاع التركية: إنّها قامت بـ "تدمير (25) موقعاً، وتحييد "قتل أو اصابة أو أسر" عدد كبير من الإرهابيين في عملية جوية ضد تنظيم (بي كي كي) "حزب العمال الكردستاني" شمالي العراق وسورية"، بحسب وكالة (الأناضول) التركية، لافتة إلى أنّ الغارات الجوية "جاءت بهدف القضاء على التهديدات الإرهابية وخطرها على السكان "في تركيا"، وعلى قوات الأمن، انطلاقاً من شمال العراق وسورية، عبر تحييد إرهابيي تنظيم (بي كي كي)، والعناصر الإرهابية الأخرى". وأكدت أيضاً "تحييد" (57) عنصراً من حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، وشمال شرق سورية خلال عمليات القصف.

 

تركيا تستغل انشغال العالم بحرب غزة، وكذلك من أهمية وجودها الجيوسياسي الذي يتم توظيفه من قبل أمريكا أو الناتو أو روسيا، وتحاول دائماً إيجاد عدو وهمي وربطه بحزب العمال الكردستاني.

 

وذكرت الإدارة الذاتية في مدينة كوباني شمالي سوريا أنّ "الهجمات التركية تُعدّ جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وهي انتهاك للقوانين والمواثيق الدولية، واعتداء سافر عبر الحدود" .وتابعت: "تركيا تحاول من خلال هذه الهجمات القضاء على سبل ووسائل العيش للسكان، وتدمير مؤسسات الإدارة الذاتية التي تعمل على تحقيق الأمن والاستقرار في هذه المناطق، وتسعى إلى بث الرعب والخوف وإنعاش تنظيم (داعش)".

وطالبت الإدارة الذاتية المجتمع الدولي والمنظمات الأممية بضرورة "القيام بمسؤولياتها لوقف الهجمات التركية، وفتح تحقيق بتلك الجرائم المرتكبة بحق سكان مناطق شمال وشرقي سوريا".

وقد شهدت سوريا ارتفاع وتيرة عمليات القصف بين أطراف النزاع خلال كانون الأول (ديسمبر) بنسبة 25%، مقارنة مع تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بحسب وكالة (نورث برس). وعاودت تركيا خلال الشهر الأخير من العام 2023 تصعيد هجماتها بالطائرات المسيّرة والحربية والمدفعية على الشمال السوري؛ ممّا أودى بحياة مدنيين ووقوع مصابين، إلى جانب تضرر مشاريع إنتاجية صغيرة للمدنيين.

وبلغ عدد ضحايا القصف على منطقة الإدارة الذاتية (50) شخصاً، قتل (12) منهم وأصيب (49) شخصاً، بحسب الوكالة، وتعرّض (177) موقعاً في منطقة الإدارة الذاتية لـ (334) ضربة، وتعرّض (145) موقعاً لاستهدافات تركية ازدادت خلال هذا الشهر، بعد انخفاض وتيرتها نسبياً خلال تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.

وتعرّضت (6) مواقع في المنطقة نفسها لـ  (6) ضربات من مجهولين (لم يتم تأكيد مصدر الضربة ولم تتبناها أيّ جهة)، و(6) مواقع لـ (6) ضربات من جهة فصائل الجيش الوطني الموالي لتركيا.

في المحصلة؛ تركيا عملياً فشلت في حل القضية الكردية، والقضاء على الحزب العمال الكردستاني، وهذه الحرب ممتدة لـ (40) عاماً، وما تتذرع به تركيا بحجة محاربة الحزب المعارض في المناطق الكردية بالعراق وسوريا، أمر لا أثر له في الواقع؛ لأنّ هذه الحرب "حرب الدولة التركية ضد الكرد مستمرة" منذ عقود، وعملية الربط بأنّها تحارب حزب العمال هي مجرد حجة لتنفيذ أجندتها "ضد الوجود الكردي، ولهذا تقوم باستهداف المناطق الكردية"، وإذا كانت تركيا جادة في محاربتها للحزب الكردي، فهي تستطيع محاربة حزب العمال الكردستاني على أراضيها، وإيجاد حل لهذه القضية، كما قال زارا صالح لـ (حفريات).

بالتالي، فإنّ تركيا تستغل انشغال العالم بحرب غزة، وكذلك من أهمية وجودها الجيوسياسي الذي يتم توظيفه من قبل أمريكا أو الناتو أو روسيا، و"غض الطرف" من الأطراف الأخيرة عن أفعالها نتيجة المصالحة والأجندات المشتركة الأخرى. وتستغل كل هذه الظروف، وتحاول دائماً إيجاد عدو وهمي وربطه بحزب العمال الكردستاني. وبتقدير زارا صالح؛ لا بدّ من "التأكيد على أنّ تركيا هدفها القضاء على الطموح الكردي، فضلاً عن أنّها تبعث برسائل إلى الداخل التركي، فكما نعلم أنّه في الأزمات، وخاصة تركيا تعيش عدة أزمات من اقتصادية وسياسية وقرب الانتخابات البلدية، تحاول كسب أصوات الأتراك القوميين الشوفينيين العنصريين، بدعوى أنّها تحارب الحزب الكردي على عدة جبهات، و"الكرد الانفصاليين"، وقطع الطريق أمام المعارضة التركية".

وهنا، بتقدير زارا صالح، على الحزب الكردي أن يتحمل جزءاً من المسؤولية ممّا يحصل حالياً، نظراً لأنّ تركيا تتحجج بحزب العمال الكردستاني لإعطاء نفسها ذريعة لاستهداف المناطق الكردية في سوريا والعراق. وبالتالي يجب ممارسة السياسة والعقلانية في التعامل مع مثل هذه العقلية "الطورانية"، ومحاولة عدم إعطاء هذه الذرائع لتركيا، سواء بتواجدها في مناطق إقليم كردستان العراق، أو بالتلويح بصور عبد الله أوجلان، ورفع أعلام حزب العمال الكردستاني في مناطق شمال شرقي سوريا، بغية تجنب منح أيّ ذرائع لتركيا.

مواضيع ذات صلة:

سوريا والعراق: صندوق الرسائل السياسية في زمن الصراعات الإقليمية

احتجاجات السويداء... بوصلة قد تحرك مسار العملية السياسية في سوريا




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية