ضمن أحداث العام 1735، ذكر المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي حادثة وصفها "بالغريبة"، قائلاً: إنّه "في يوم الأربعاء، الموافق 24 ذي الحجة 1147هــ، أشيع في الناس بمصر أنّ القيامة قائمة، يوم الجمعة في السادس والعشرين (منه)، وفشا هذا الكلام في الناس قاطبة، حتى في القرى والأرياف، وودع الناس بعضهم بعضاً، فكان الإنسان يقول لرفيقه: بقي من عمرنا يومان، وخرج الكثير من الخلق، ومن المخاليع إلى الغيطان والمتنزهات، وهم يقولون: دعونا نعمل حظاً ونودع الدنيا قبل أن تقوم القيامة، وخرج أهل الجيزة، نساءً ورجالاً، وصاروا يغتسلون في النيل، ومن الناس من علاه الحزن، ومن قال لهم خلاف ذلك، أو قال هذا كذب لا يلتفتون إلى قوله، ويقولون بل هذا صحيح، وقال به فلان اليهودي وفلان القبطي، وهما يعرفان في الجفور والزايرجات (جداول سحرية تنجيمية)، ومضى يوم الجمعة، وجاء يوم السبت، وهم يقولون: إن فلاناً العَالم قال: إنّ سيدي أحمد البدوي والدسوقي والشافعي تشفّعوا في ذلك، وقبل الله شفاعتهم".
أغلب الأساطير القديمة البدائية قام على ثنائية الحرب بين الخير والشرّ وإنّ العنف كان سمة أساسية نتيجة هذا التناحر المستمر
بالطبع، ستبدو هذه الرواية خرافية وساذجة ومضحكة، بالنسبة إلى نمط تفكير إنسان القرن الواحد والعشرين المتمدن، في ظلّ تقدمه التكنولوجي المهيب، وتزايد حدة إنكار المجال الميتافيزيقي، ونحن هنا لسنا بصدد جدلية ذلك الحكم، ولا مدى واقعيته من عدمه، وإنما ما يهمنا هو تتبع مسار وكيفية عمل هذا النوع من التفكير الأسطوري في اللاوعي البشري، دون إدراك أو اعتراف به بشكل مباشر، لا سيما أنّه في حالة سيرورة، لكن يتم التعبير عنه بشكل متوارٍ وبأوجه مختلفة؛ إذ توجد عناصر ثابتة فيما بين الاختلافات السطحية البادية للعيان.
يقول الإناسي فرانز بواس: "وكأنما كُتب على العوالم الأسطورية أن تتناثر بُعيد تكوّنها، كي تعود فتولد من أنقاضها عوالم جديدة"، وبمنطق ليفي شتراوس، فالذي يبدو خرافياً وعبثياً وبدائياً سيعاود الظهور، وفي حالة التكرار ينبغي ألّا يؤخذ بصفته عبثاً؛ لأنّ الميثولوجيا سكونية ثابتة؛ إذ نجد أنّ العناصر الأسطورية نفسها يتم دمجها عدة مرات، لكنها دائماً في نسق مغلق.
معنى ذلك؛ هل تكررت القصة التي ذكرها الجبرتي بوصفها غريبة؟ يجيب عن ذلك بعض القرويين الذين عاصروا حرب السادس من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1973، لكنهم لم يذهبوا إلى ساحات المعارك، إنما أخبِروا بها من خلال الكلام، والمدهش أنّهم قالوا: "كنّا نسمع أنّ القيامة ستقوم في هذه الأيام، واعتصم بعض الناس بالمنازل انتظاراً للنهاية"، وبالتفكير الأسطوري نفسه؛ استقبل الناس نفسهم أخبار إعصار تسونامي المدمّر، الذي ضرب جزيرة سومطرة عام 2004.
لقد باتت نبوءة نهاية العالم عنصراً أساسياً ضمن نبوءات كلّ عام جديد، يخبر بها قسيس أو عالم فيزيائي
وعلى نحو لافت للتأمل، شقّ ذلك التفكير طريقه إبان ثورة كانون الثاني (يناير) في مصر عام 2011؛ حيث تداول بعض الناس في الريف، سيما حين احتدت أعمال العنف وبلغت الأقاليم، أنّ يوم القيامة اقترب، وعلى الناس أن يكونوا على أهبة الاستعداد للقاء الله؛ بل وكثرت أحلام بعضهم بحروب نهاية العالم.
وبمناسبة هذا النمط من التفكير، لا بدّ من أن نتذكر قصة ظهور السيدة مريم العذراء، بحيّ الزيتون بالقاهرة، في نيسان (أبريل) من عام 1968؛ أي في أجواء هزيمة 5 حزيران (يونيو) 1967، وهنا يطرح السؤال نفسه؛ ما الرابط بين تلك القصص وعلاقتها بالرغبة في الخلاص؟ بل ما علاقتها بالحرب والإعصار والهزيمة؟
بداية؛ لا بدّ من أن نحدد عناصر البنية الكلية في التفكير الأسطوري هنا، وهي (كوارث طبيعية/ عنف، الإله، خطيئة، هزيمة، نهاية، شفاعة، خلاص مؤجل)، ثم نشير إلى طبيعة عمل اللاوعي البشري الذي لا يجيد التعامل مع المعياريات الضبابية، إنّما كلّ أحكامه نابعة من مفهوم ومعيارية الثنائيات الضدية؛ (خير/شر، دنس/ طهارة).
وبالرجوع إلى منطق التفكير البدائي، الذي يعدّ كلّ كارثة طبيعية، أو وقوع عنف، أو اضطرابات غير معتادة، نذير شؤم وغضب إلهي يستوجب التكفير عن الخطيئة بالتوبة أو تقديم القربان، وإلا ستكون نهاية الحياة، إن لم يتدخل وسيط للشفاعة، الذي قد يكون (وليّاً صالحاً أو قديساً)، تقديم قربان، عودة المخلّص الذي يقيم العدل وينهي الظلم شرط استدعائه بالرغبة البشرية، ومنه ندرك مدى العلاقة بين ما ذكرناه.
لكن، كيف يعمل اللاوعي البشري من أجل هذا الاستدعاء؟
يمكن القول: إنّ الأساطير القديمة البدائية، أغلبها قام على ثنائية الحرب بين الخير والشرّ، وإنّ العنف كان سمة أساسية نتيجة هذا التناحر البشري المستمر، وكان تدخل الآلهة والتحالف معها مشروطاً بحالة التمايز الواضحة والحاسمة بين قوتي الخير والشر، بالتالي؛ فهذا اللاوعي دائماً في حالة تحفّز حال وقوع أية اضطرابات أو أعمال عنف، ليبدأ عملية الفرز بين: مَن الخيّر، ومَن الشرير؟ ومن ثمّ استدعاء القوى الإلهية، وفي حال هزيمته أو اشتداد أزمات واقعه، يشعر أنّه قد خذل من إلهه نظراً لخطاياه التي اقترفها، وبالتالي أصبح دنساً يستحق العقاب بالنهاية والخلاص من واقعه المؤلم، في حال عدم تدخل الوسيط أو الشفيع.
في مطلع الألفية الجديدة، وفي ظلّ إخفاقات النظريات الإنسانية التي ابتدعها الإنسان لتحقيق السلام على الأرض، وتزايد حدة التوترات، والعنف الذي طال كلّ مكان، مع الكوارث الطبيعية من زلازل وبراكين وأعاصير واضطرابات مناخية، بات الإنسان الحديث رهن مخاوفه اللاشعورية الأسطورية؛ هذا اللاشعور الذي لا يعبّر عن كينونته في اللحظات العصيبة فحسب؛ بل ويعبّر عنها بتقنيات وعلوم ما بعد الحداثة.
تكشف ذلك أفلام نهاية العالم التي تابعها ملايين البشر باهتمام، والتي استمدت موضوعاتها من عدة أساطير وتصورات دينية مختلفة، انتظاراً للخلاص بوقوع المعركة النهائية التي قد تتمثل في "هرمجدون"، و"يوم الدينونة" و"الأبوكاليبس"، أو "يوم الهلاك" في أسطورة شعب المايا.
كما لم يختلف محتوى فيلم (Seeking a friend in the end of world)؛ الذي تمّ إنتاجه عام 2012، من حيث بنية الموضوع، عن رواية الجبرتي.
هذا التفكير الأسطوري تستغله وتغذيه قوى اليمين المتصاعد في العالم، سيما تلك التي ترتكز على نصّ ديني تأسيسي
وبالتالي؛ أصبحت تلك الأفلام وعاءً لاحتواء قلق الإنسان الوجودي، تعويضاً عن الفعل، ومحاكاة لما هو مطمور في اللاوعي؛ كأن يرى ذاته منعكسة في موضوع، يُجّنبه ويلات حدوثه واقعياً أو يؤهله لما هو آت؛ أي عملية إزاحة وإبدال، لكن إلى متى ستظل تلك الانزياحات آمنة؟
لقد باتت نبوءة نهاية العالم عنصراً أساسياً ضمن نبوءات كلّ عام جديد، يخبر بها قسيس أو عالم فيزيائي، وحتى وقت كتابة هذا المقال، يطالعنا خبر مفاده أنّ عالماً أزهرياً يقول إنّ خسوف القمر، من علامات نهاية العالم أو "بروفة ليوم القيامة".
واللافت للانتباه هنا؛ أنّ اللاوعي الجمعي البشري، في تعاطيه مع هذه التصورات، ينحي اعتقاداته الدينية جانباً وبشكل عفويّ؛ فالمسلمون مثلاً في رواية الجبرتي صدّقوا المنجمين اليهود والمسيحيين، رغم الاختلافات العقدية، هذا غير الإيمان بأنّ قيام الساعة غير معلوم، وله علامات واشتراطات خاصة في المخيال الإسلامي، وبالنهج نفسه كان التعامل مع النبوءات التي ظهرت مؤخراً، وإن أخذها البعض على منحى المزاح.
هذا التفكير الأسطوري تستغله وتغذيه قوى اليمين المتصاعد في العالم، سيما تلك التي ترتكز على نصّ ديني تأسيسي؛ حيث لا مفرّ من إحداث العنف، كأن يتخلص الإنسان من العنف بالعنف؛ بتقديمه القوى الشريرة قرباناً لله من جديد في سبيل تحقيق الخير، يقول رينيه جيرار في كتابه "العنف المقدّس": "إنّ أعظم الأرجاس يمكن غسلها طالما الطاهر والمدنس متمايزان، أما متى امتزجا، فلا يعود بالإمكان تطهير أي شيء على الإطلاق".
هنا قد نفهم مدى التناقض الكامن في الكيان الإنساني المعولم الآن، فمتى امتزجت كل العناصر، لجأ اللاوعي البشري إلى إحداث التمايز من جديد، لتكون هناك دائماً قوتان في حالة تضاد، كل ما في الأمر هو الاختلاف في الكيفية التي ينبثق بها هذا اللاوعي في الوعي.
وحين يقول مرسيا إلياد: "الأسطورة قصة حقيقية جرت في بداية الأزمنة، وتُستخدم كنموذج للسلوكيات البشرية"، نستنتج أنّ اللاوعي الجمعي دائماً ما يكون في حالة سعي دؤوب لتحقيق الخلاص، ومنتظراً له؛ بل ويغذيه التقدم التكنولوجي، فوسائل التواصل الاجتماعي المختلفة تزكيه وتمنحه وتيرة أسرع، عبر المشاركة المعولمة في فضائه، بل ويصبح هذا التفكير الأسطوري مفرغاً في التعبير العامي المتداول بين البشر بشكل عفوي غير مدرك، فدعوة الله بأن يصيب الأرض بنيزك أو مذنب لينهي حالة الضباب والارتباك العنيف التي يعيشها العالم الآن، هي في الواقع رغبة في الخلاص الذي يتطلب شرّاً كاملاً أو سلاماً.
كما أنّ التصورات الخيالية التي يتوقعها الإنسان ما بعد الحداثي، التي تتضمن مجيء كائنات فضائية وأسطورية، تستحوذ على الأرض ومقدراتها وتقتل الإنسان، هي تفكير أسطوري مبطن يدعو إلى إسراع وتيرة المعركة الحاسمة بين الخير والشر، وإلا ستأتي تلك الكائنات بالإنابة عنه لتخليص هذا العالم من خطاياه، وتقدم الإنسان نفسه قرباناً للقوى العليا التي تحكمه.
إنّه الدين، أو المجال الميتافيزيقي الذي كلما أنكره الإنسان تجسد له بكثافة وبنوع من الإغفال، من عمق بطانته الوجدانية التي يسكن فيها الإحساس الدائم بالخطيئة، ومخزونه اللاشعوري الهائل المتوارث من أسلافه، ليعود القربان البدئي أو الأسطوري في ثوب ما بعد حداثي، يقدّم نفسه على أنه منتهى العقلانية.