ما الذي يمكن أن يقوله فوكوياما عن الحرب في أوكرانيا؟

ما الذي يمكن أن يقوله فوكوياما عن الحرب في أوكرانيا؟


02/03/2022

ترجمة: محمد الدخاخني

حذّر فرانسيس فوكوياما، في الصّفحات الختاميّة من كتابه الذي كثيراً ما يُستشهد به "نهاية التّاريخ"، قائلاً: "كان للملل من السّلام والازدهار عواقب وخيمة جدّاً في الماضي".

 كتب فوكوياما ذلك في أعقاب انهيار الاتّحاد السّوفيتي، مُحاججاً بجرأةٍ، بأنّ المعارك التّاريخيّة الكبرى حول أفضل شكل من أشكال التّنظيم الاجتماعيّ قد تمّت تسويتها الآن بشكل فعّال.

اقرأ أيضاً: هل خدمت الحرب في أوكرانيا مفاوضات النووي الإيراني؟

بالنّسبة إلى فوكوياما، ظهر نموذج الغرب للرّأسماليّة الدّيمقراطيّة باعتباره الشّكل الأكثر استحساناً للحُكم. وهكذا، حاجج بشكل مثير للجدل بأنّ "التّاريخ"، باعتباره ساحة معركة للمُثُل العُليا، "انتهى" الآن فعلياً بانتصار الغرب.

لكن ما كان يُقلقه هو احتمال انتشار الكسل والرّضا عن النّفس وسط حقبة غير مسبوقة من الازدهار والسّلام في الغرب. بصفتي آسيوياً نشأ خلال فترة ما بعد الحرب الباردة، فقد ترعرت مع صورة لأوروبا تُشبه جنّة فوكوياما، حيث حلّت المادّيّة السّلميّة محلّ الأرواح القتاليّة.

لكن خلال مؤتمر ميونخ للأمن هذا العام، الذي نُظِّم في ظلّ صراعٍ متصاعدٍ على أعتاب أوروبا، لم أرَ مشكلة في الجنّة فحسب، بل رأيت أيضاً تحالفاً غربيّاً متجدّداً وموحّداً في مواجهة التّعزيز العسكريّ الرّوسيّ.

قارة تُكافح مع الصّراعات

فجأة، بدت أوروبا مكاناً مألوفاً أكثر، قارة تُكافح مع الصّراعات والشّكوك نفسها، التي دمّرت الكثير من عالم ما بعد الاستعمار منذ نهاية الحرب الباردة. حتّى فوكوياما كان قد أدرك أنّ "نهاية التّاريخ" الخاصّة به لن تحقّق الاستقرار أو الازدهار في كثير من أجزاء العالم غير الغربيّ، حيث تستمرّ قوى القوميّة والديماغوجيّة في مطاردة عددٍ لا يُحصى من الدول.

أعاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بثبات بناء القدرات العسكريّة لبلاده، بالتّالي، أعاد تأكيد مناطق نفوذ موسكو من آسيا الوسطى والقوقاز وصولاً إلى أوروبا الشّرقيّة

في الأطراف المتقابلة من آسيا، أصبحت حركات التّمرّد والحروب بالوكالة والصّراعات بين الدّول عنصراً أساسيّاً في الجغرافيا السّياسيّة اليوميّة. في الواقع، تُعدّ العديد من المناطق، من القوقاز إلى شمال شرق آسيا، موطناً لنزاعات مجمّدة تعود إلى فترة الحرب الباردة.

إنّ أماكن مختلفة راديكالياً، مثل تايوان وكوريا الشّمالية، تتصارع بالمثل مع الإرث المدمّر لصراعات القوى العظمى في القرن الماضي. لعقود من الزّمان، كان بقاء الحكومات في هذه الأماكن نتيجة للرّعاية الإستراتيجيّة من قِبل الغرب أو الشّرق.

 

اقرأ أيضاً: استفزازات إيران ترفع درجة التوتر مع إسرائيل: هل تندلع المواجهة؟

لكن، خلال مؤتمر ميونخ للأمن، أصبح من الواضح تماماً أنّه حتّى أوروبا لم تتحرّر بالكامل من إرث الحرب الباردة. بالعكس، ما يكمن في قلب الأزمة المستمرّة في أوكرانيا هو تصميم الرّئيس الرّوسي، فلاديمير بوتين، على التّراجع عن النّظام الجيوسياسيّ الذي انبنى على أنقاض الاتّحاد السّوفيتي.

وكان بوتين قد أعرب عن استيائه خلال خطاب وطنيّ، عام 2005، قائلاً: "أوّلاً وقبل كلّ شيء، يجدر بنا الاعتراف بأنّ زوال الاتّحاد السّوفيتي هو أعظم كارثة جيوسياسيّة في القرن (العشرين)".

"انهيار روسيا التّاريخيّة"

وقد كرّر النقطة نفسها تقريباً في خطاب رئيس العام الماضي، حيث وصف نهاية الحرب الباردة بأنّها "انهيار روسيا التّاريخيّة".

شاحنات وحافلات عسكرية روسية على جانب طريق في منطقة روستوف جنوب روسيا، المتاخمة لجمهورية دونيتسك الشعبية المعلنة من جانب واحد

ردّاً على ذلك، أعاد بثبات بناء القدرات العسكريّة لبلاده، بالتّالي، أعاد تأكيد مناطق نفوذ موسكو من آسيا الوسطى والقوقاز وصولاً إلى أوروبا الشّرقيّة. وفي مقال واسع الانتشار بعنوان "حول الوحدة التّاريخيّة للرّوس والأوكرانيّين"، صوّر بوتين أوكرانيا بشكل فعّال على أنّها جزء من روسيا الكبرى.

بعد أن راقب، بلا حول ولا قوة، التّوسّع المستمر لحلف شمال الأطلسيّ من بولندا (1999) إلى مقدونيا الشّماليّة (2020)، رسم بوتين الخطّ الأحمر حول أوكرانيا.

هذا الشّعور بالاستياء، هذا التّوق إلى التّبرير التّاريخيّ، له صدى لدى كثيرين في آسيا؛ ففي النّهاية، القارة هي موطن لمجموعة كاملة من الحضارات الفخورة والمستعمرات السّابقة التي عقدت العزم على إعادة اكتشاف مكانها في الشّمس.

مؤشرات

برزت مجموعة مؤشرات خلال مؤتمر ميونيخ للأمن:

 أوّلاً، وقبل كلّ شيء، تصميم أوكرانيا المستمر على الحفاظ على حقّها في تقرير المصير، بما في ذلك هدفها الدّستوريّ المتمثّل في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسيّ، بالتّالي، الغرب في المستقبل.

اقرأ أيضاً: هل يؤدي الاتفاق النووي مع إيران إلى تصدع العلاقات الأمريكية الإسرائيلية؟

في خطابه الجريء في ميونيخ، حذّر الرّئيس الأوكرانيّ، فولوديمير زيلينسكي، الغرب من "التّهدئة"، وتعهّد بـ "حماية بلدنا بدعم أو من دون دعم شركائنا (الغربيّين)". هذا هو نوع الخطاب الذي يحقّق نجاحاً جيّداً في العديد من دول شرق آسيا الأصغر التي ترى، عن صواب أو خطأ، تحدّياً متزايداً من جانب القوّة العظمى المجاورة لها، الصّين.

تايوان وكوريا الشّمالية، تتصارع بالمثل مع الإرث المدمّر لصراعات القوى العظمى في القرن الماضي؛ حيث كان بقاء الحكومات فيها نتيجة للرّعاية الإستراتيجيّة من قِبل الغرب أو الشّرق

ثانياً: فاجأ وزير الخارجيّة الصّينيّ، وانغ يي، كثيرين أيضاً، عندما قام، بدلاً من الوقوف بحزم إلى جانب الحلفاء في موسكو، بتمديد غصن الزّيتون إلى الغرب، داعياً إلى "الحوار" و"التّواصل"، على أساس النّوايا الحسنة والتّفاهم المتبادل. بشكل حاسم، أكّد الدبلوماسيّ الصينيّ على الحاجة إلى الحفاظ على وحدة أراضي وسيادة جميع الدّول القوميّة، وعلى أنّ "أوكرانيا ليست استثناء".

هذا يفسّر جزئيّاً لماذا بعد بضعة أيّام، عندما وافق بوتين على نشر القوّات الرّوسيّة في المناطق التي يسيطر عليها المتمرّدون في شرق أوكرانيا، كرّرت الصّين على الفور الحاجة إلى الحوار والدّبلوماسيّة. باختصار، أشارت الصّين إلى تناقضها مع موقف روسيا المتطوّر في أوروبا، إن لم يكن استياءها منه.

وفوق كلّ شيء، على كلّ حال، ما برز بالنّسبة إليّ هو أنّ بوتين قد أنهى بمفرده "نهاية التّاريخ" في أوروبا، ممّا أدى إلى إخراج حلف شمال الأطلسيّ من حالة الرّضا الإستراتيجيّ، كانت السّرعة والحيويّة اللتان اتّحدت بهما القوى الغربيّة في مواجهة روسيا الحازمة مذهلة.

 

اقرأ أيضاً: رفع العقوبات عن إيران، رسائل خاطئة أم مؤامرة مقصودة؟

خلال الكلمات الرّئيسة في ميونيخ، حذّرت نائبة الرّئيس الأمريكيّ، كامالا هاريس، من ردّ "سريع" و"شديد"، بينما دعا رئيس الوزراء البريطانيّ، بوريس جونسون، حلفاء شمال الأطلسيّ إلى ضمان "أنّ روسيا يجب أن تفشل في نهاية المطاف وأن يُنظر إليها على أنّها فاشلة"، كما كان المستشار الألمانيّ، أولاف شولتز، وهو رجل شديد الصّمت عادة، حازماً بشكل غير معهود، داعياً الغرب إلى "حشد القدرات" لتفادي حرب جديدة في أوروبا. وبعد أيّام، أمر بالتّعليق الفوريّ لمشروع "نورد ستريم 2"، وهو حجر الزّاوية في التّعاون الألمانيّ الرّوسيّ في مجال الطّاقة.

 

اقرأ أيضاً: ما العقوبات التي رفعتها أمريكا عن إيران؟ ومتى ستُستأنف مفاوضات فيينا؟

للمرة الأولى في الذّاكرة الحديثة، يحتجّ الغرب بشدّة على شيء ما، ولا يعدّ سلامه ولا ازدهاره أمراً مفروغاً منه، يمكن وصف ما رآه العالم في ميونيخ بأنّه ليس أقلّ من إعادة إحياء للتّاريخ، صدام متجدّد حول المُثُل العليا التي تحكم النّظام الجيوسياسيّ في أوروبا وخارجها. بعيداً عن كونها استثناء، أصبحت أوروبا مثل آسيا: قارة يسير الازدهار فيها جنباً إلى جنب مع الصّراع وعدم اليقين.

مصدر الترجمة عن الإنجليزية:

ريتشارد جواد حيدريان، ذي ناشونال، 24 شباط (فبراير) 2022

https://www.thenationalnews.com/opinion/comment/2022/02/24/the-worlds-superpowers-are-taking-the-cold-war-out-of-the-fridge/




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية