ماذا ستطلب لو التقيت بجنيّة الأمنيات؟

ماذا ستطلب لو التقيت بجنيّة الأمنيات؟


12/01/2020

ماذا غير الأمنية يمكن لها أن تدغدغ بخدرٍ جناح المخيّلة؛ مِنَ الحذاء الذي تمنّيناه صغاراً، يُخبّئ العَدوَ والقفز المدهشين، إلى الدميّة التي تسيل على زجاج متجر الأمنية كقوس قزحٍ لانهائي، إلى أشياء رغم بساطتها إلّا أنّها كان بإمكانها أن تضيء عتماتنا، ولكن في المقابل تستطيع الأمنية أن تميط اللثام عن خللٍ قلّما انتبهنا إليه، إنّها تكشف حجم الحرمانات التي تغذّي واقعنا، وقد يظهر هذا جليّاً عندما تلتبس أمنيات الأطفال بما هو حقٌّ لهم، أو بما يغلّف حقوقهم ويخفيها عنهم.
ربما يتضح ذلك من خلال مجموعة أمنيات لمئتي طفلٍ وطفلة تراوحت أعمارهم بين 12 و13 عاماً، رداً على سؤال ماذا ستطلب لو التقيت بجنية الأمنيات؟ "أتمنى تحقيق أحلام والديّ، أتمنى أن يراني والداي شخصاً جيداً، أتمنى أن أسافر إلى مكانٍ آمن، أتمنى أن أصبح مشهوراً، أتمنى أن يتحسن الوضع الاقتصادي، أتمنى أن تنتهي الحرب، أتمنى أن أعيش بأمانٍ وسلام، أتمنى استبدال الحصص المدرسية بحصص تعنيني مثل؛ (حلّ مشاكلنا والتحدث بأمور حياتنا، عن المراهقة، عن الحب والعلاقات العاطفية، التفاهم الأسري، قيود المجتمع، نقاشات حول الأديان، اضطهاد المرأة، حكايات من الواقع، حصص أكثر للرسم والرياضة)، هذه الأمنيات لم تكن سوى المرآة التي عكست نمط التربية الذي يتعرضون له، وصفاقة الواقع الذي يتمرغون به، والكبت الممنهج الذي يمارس عليهم.

أمنيات أطفالنا لم تكن سوى المرآة التي عكست نمط التربية الذي  يتعرضون له وصفاقة الواقع الذي يتمرغون به

قد تعكس الأمنيات المتعلّقة بالوالدين، النمط العام للتربية في مجتمعاتنا، من خلال مصادرة قرارات وخيارات أطفالنا، ووضعهم في قالبٍ يحدُّ من حريتهم واستقلاليتهم، واختيارنا لما سيكونون عليه، وإلا فهم سيئون وأطفال عاقّون، وليس السفر ـــ الأمنية الأقوى بين الأمنيات ـــ سوى الرغبة بتحقيق ما لم نوفره لهم، وقد يكون أهم ما يُنقصهم إنسانيتهم، فالأمنية التي فقدت أهم خصائصها وهي الفردية، تحوّلت إلى إدانات جماعية صارخة لواقعٍ أصبح اللامعقول عقله الوحيد، والذي جعل من الحقوق التي نصت عليها جميع الشرائع والمواثيق العالمية أمنيات لأطفالنا، ابتداءً من أمنيتهم بانتهاء حربٍ لم يكونوا سوى ضحايا لها، إلى حقهم الطبيعيّ في الإحساس بالأمان، إلى الحياة في سلام، بعيداً عمّا عثناه فيهم من خوفٍ وعتمة.

اقرأ أيضاً: بماذا حشونا وسائد نوم أطفالنا؟
فإذا تفحصّنا الأمنيات المتعلقة بالمدرسة، سنرى بوضوح كيف جعلنا من المدرسة مكاناً فارغاً تسكنه أجسامُ أطفال، عقولهم ومشاعرهم تحلّق في مكانٍ مختلف. وإذا كانت المعرفة هي غاية النظام التربوي والتعليمي، فأطفالنا مسيّجون داخل المعرفة التي نريدها لهم، والتي لم تساهم حتى الآن سوى في تضييق الخناق على حياتهم. أطفالنا يريدون التعرّف قبل المعرفة، أن تستيقظ حواسهم قبل عقولهم، إنّهم يريدون أن يلمسوا وجودهم الذي جردناه وأقصيناه، كما أنّهم يريدون الإفضاء بمشكلاتهم التي لا نستمع لها، فتلك الأمنيات هي حقوقهم المشروعة.

تكشف أمنيات الأطفال عن الصورة الأفدح لما وصلنا إليه حين اقتصرت أمنياتهم أمام كاميرات العالم على وجبة دسمة أو قطعة حلوى

قد تتضح الصورة إذا ما ألقينا الضوء على أمنيات الأطفال في مكانٍ مختلف، فقد تمنّى مجموعة أطفال في ألمانيا تراوحت أعمارهم ما بين 10 و14 عاماً (بيتاً للحيوانات، الذهاب إلى ساحة التزلج، الذهاب إلى السيرك، الحصول على تاب، استبدال البيانو القديم ببيانو جديد، مشاهدة فيلم فروزن الذي يعرض حالياً في السينما).
إنّ مقارنة أمنيات أطفالنا بأمنيات هؤلاء الأطفال قد يمكننا من لمس الفارق  بين الأمنيات والحقوق، فأمنية طفلٍ بالأمان والسلام هي حقّ له، يترتب على غيابها نقصٌ في إنسانيتنا جميعاً، بينما أمنية طفل بالذهاب إلى السيرك، هي شيءٌ مختلفٌ ينجم عن إشباعٍ بالوجود لا الفقر إليه، إنّها الرغبة، وأقصى تأثير لعدم تحققها واقعياً، أن تبقى تدغدغ المخيلة، ولكننا حين نتعاطى مع الحقوق كأمنيات، هذا يعني أنّنا تكيّفنا مع غيابها، وقبلناه، قبلنا بجورب الواقع المهترئ بديلاً عن الجورب الأحمر المعلّق على شجرة الأمنيات.

اقرأ أيضاً: أطفال السوشيال ميديا.. نجومية أم عمالة من نوع جديد؟
وبالعودة إلى مجتمعاتنا ولكن إلى حيث تغرس الحرب بضراوةٍ أنيابها، تكشف أمنيات الأطفال عن الصورة الأفدح لما وصلنا إليه، حين اقتصرت أمنياتهم أمام كاميرات العالم، على وجبةٍ دسمة، أو قطعة حلوى، أو حبة خيار، أو الشعور بالدفء بين جدرانٍ أليفة لبيتٍ بخّرته الحربُ، نعم، لقد حظيت أمنيات أطفال المخيمات والنزوح بالكثير من الألم والشفقة والتعاطف، فأن يتمنى طفل الطعام أو الدفء فهذا أكثر من أن يحتمله أحدنا.

إذا تمعنّا جيداً فيما تمناه أطفالنا سنرى أنّ أمنياتهم هي نفسها الحقوق المُغيّبة التي خرج من أجلها الناس في ثورات الربيع العربي

ولكن طالما عيوننا مسمّرة في حدود الأمنية، فإننا "كمن ينظر إلى إصبع من يشير إلى القمر"، فتقديم وجبة أو قطعة حلوى لن يغيّر شيئاً، سيبقى الطفل جائعاً وبرداناً ما بقيت الحرب تحرق طفولته وتجعل من حقّه أمنية. وإذا تمعنّا جيداً فيما تمناه أطفالنا، سنرى أنّ أمنياتهم هي نفسها الحقوق المُغيّبة التي خرج من أجلها الناس في ثورات الربيع العربي، التي عمّت الكثير من مجتمعاتنا، لقد كانت ثورات حقوق وليست ثورات أمنيات، هذه الحقوق التي تشكّل العتبات الطبيعية للوجود، ومن دونها يصبح هذا الوجود مستحيلاً.
"إنّ حقوق الطفل ليست رفاهية بل هي حقّ يجب الالتزام به"، هذا ما عبر به "راشد الدوسري" المدير التنفيذي لمركز وفاق، بمناسبة احتفالهم بجدارية قطر التي دخلت موسوعة "غينس"، كونها أكبر جدارية في العالم لأمنيات الأطفال، هل هي حقاً أمنيات؟ لقد حوت هذه الجدارية على المطالبة بحقوق الطفل في المأكل والمشرب والمسكن والعيش بأمنٍ وأمان، وحقوق التعلّم والرعاية الصحيّة، الجانب المشرق من هذا العمل الضخم يبدو كخطوة إيجابية تجاه دعم الطفولة، ولكن في جانبه المعتم هو أكبر تأكيد على انتهاك حقوق الطفل، وإذا لم نقرأ المسألة بهذه الطريقة، فإننا نتعامى عمداً عن المشكلة التي خلقناها، فعلى الرغم من أهمية العمل، لكنه لا يعفينا من الشعور بالعار أمام أكبر جدارية في العالم لحقوق الطفل الملتبسة مع أمنياته.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية