التعصب نقيض التسامح، إذا وجد أحدهم اختفى الآخر، ولعل أخطر أنواعه التعصب الديني؛ لأنّه الأعلى صوتاً، والأبعد أثراً بتعزيز التشرذم والفرقة في الوعي الجمعي للأمة، وفي هذا السياق تقدم محنة الطبري، نموذجاً لأحد ضحايا هذا التعصب الفكري والمذهبي؛ حيث أدّى خلافه مع الحنابلة المتشددين إلى أن حاصروه في بيته ومنعوه من الخروج، ورفضوا أن يدفن في مقابر المسلمين، ولا أن تقام عليه صلاة الجنازة، حتى أنّه دفن ليلاً في ساحة بيته.
من هو الطبري؟
هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب، المشهور بالإمام أبي جعفر الطبري، ولد العام (224هـ/ 839م)، في آمُل عاصمة إقليم طبرستان، الذي يَقع الآن في شمال دولة إيران، ويَمتدّ في مُعظمه على الساحل الجنوبي لبحر قزوين، عبر سلسلة جبال ضخمة، نشأ في أسرة مسلمة، في أواخر خلافة المعتصم، وشهد بداية إمارة بني طاهر على خرسان ومنها طبرستان، وشاهد قسوتهم في الحكم وفظائعهم.
ورث الطبري عن أبيه الاعتزاز بالنفس فكان لا يأكل إلا من كسب يده
منذ مرحلة مبكرة أدرك والد الطبري أنّ ابنه يملك نباهة وذكاء ورغبة في العلم، فغمره برعايته وتولّى العناية به، وقد ذكر الذهبي في "أعلام سير النبلاء"؛ أنّ والده كان يرسل له النفقات في إقامته ببغداد، وأثناء إقامته بمصر، ووجّهه منذ الطفولة إلى حفظ القرآن الكريم، كما هي عادة المسلمين وقتها، وشهدت دروب المدينة ذهابه وإيابه وهو يتأبط دواته وقرطاسه، وسرعان ما تفتح عقله، وبدت عليه مخايل النبوغ والاجتهاد.
اعتزاز بالنفس
ورث الطبري عن أبيه الاعتزاز بالنفس، فكان لا يأكل إلا من كسب يده؛ ويورد الذهبي قصة الطبري: لما دخل بغداد وكانت معه بضاعة يتقوت منها، (أي يتاجر بها ليتكسب معيشته) فسُرقت منه! فأفضى به الحال إلى بيع ملابسه، فأحضر له بعض أصدقائه وظيفة تأديب ولد الوزير، أبي الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وهو من الترك الذين تسوّدوا في بغداد وسيطروا على حاضرة الخلافة، فاستعار ثياباً، وذهب للوزير، واشترط عليه أوقات طلبه للعلم الصلاة والراحة، ولما كان مفلساً تماماً، طلب راتبه مقدماً، وبدأ يعلّم ويؤدّب ولد الوزير، فلما كتَّبه، ولما نجح الصبي في الكتابة؛ أخذ الخادم اللوح وطاف في البيت يعلن نجاح الصبي، فدخل عليه أهل البيت مستبشرين فلم تبقَ جارية إلا أهدته صينية فيها دراهم ودنانير، فردّ الجميع، وقال في إباء: قد اشترطت راتباً فلا آخذ سواه، ولما علم الوزير عفّته، سأله متعجباً، وهو يعلم حالته من ضيق ذات اليد، فقال هؤلاء عبيد، وهم لا يملكون، فعظم الطبري في عين الوزير أبي الحسن عبيد الله بن يحي، ولما استوزره الخليفة المعتمد طلب من الطبري أن يتولى القضاء وديوان المظالم، فأبى، ولرفضه قصة يذكرها ابن كثير والذهبي وياقوت الحموي في "معجم الأدباء".
حياة منذورة للعلم
كان الطبري كثير الترحال، فارتحل إلى الري وبغداد والكوفة والبصرة، وذهب إلى مصر، ومكث في الفسطاط عام 253هـ، وأخذ عن علمائها علوم مالك والشافعي وابن وهب، ورجع واستوطن بغداد ثم عاد إلى مصر، ومكث في الفسطاط فترة أطول، وصنف فيها كثيراً من كتبه، ثم رحل إلى بغداد، ثم دخل طبرستان، ومكث فيها قليلاً، ثم عاد إلى بغداد واستقر فيها، وفي كلّ هذه الأعوام كان متفرغاً للعلم ولم يتزوج.
قال عنه الخطيب البغدادي: كان حافظاً لكتاب الله عارفاً بالقراءات بصيراً بالمعاني فقيهاً في أحكام القرآن عالماً بالسنن
قال عنه الخطيب البغدادي: "كان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم"، وقال الإمام النووي: "أجمعت الأمة على أنّه لم يصنف مثل الطبري".
وقال عنه ياقوت الحموي: "أبو جعفر الطبري المحدِّث، الفقيه، المقرئ، المؤرِّخ، المعروف، المشهور"، وقال ابن الأثير: "أبو جعفر أوثق من نقل التاريخ، وفي تفسيره ما يدل على علم غزير وتحقيق وكان مجتهداً في أحكام الدين، لا يقلّد أحداً؛ بل قلّده بعض الناس وعملوا بأقواله وآرائه وكان أسمرَ، أعين، نحيف الجسم، فصيحاً"، وقال الذهبي: "الإمام الجليل، المفسر أبو جعفر، صاحب التصانيف الباهرة، من كبار أئمة الإسلام المعتمدين؛ كان ثقة حافظاً صادقاً، رأساً في التفسير، إماماً في الفقه والإجماع والاختلاف، عَلاَّمةً في التاريخ وأيام الناس، عارفاً بالقراءات واللغة، وغير ذلك"، وفي موضع آخر قال: "الطبري له كتاب التفسير، لم يصنف أحد مثله".
اقرأ أيضاً: موقف أحمد ابن حنبل من الدولة
قال عنه ابن تغري بردي: "وهو أحد أئمة العلم، يُحكم بقوله، ويُرجع إلى رأيه، وكان متفنناً في علوم كثيرة، وكان واحد عصره"، وقال ابن تيمية: "وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري؛ فإنّه يذكر مقالات السلف، بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين"، قال السيوطي: الإمام أبو جعفر، رأس المفسرين على الإطلاق، أحد الأئمة، جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظاً لكتاب الله، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها، عالماً بأحوال الصحابة والتابعين، بصيراً بأيام الناس وأخبارهم".
وللطبري العديد من التصانيف، يقول ياقوت الحموي: وجدنا في ميراثه من كتبه أكثر من ثمانين جزءاً بخطه الدقيق، ومنها: اختلاف علماء الأمصار، وهو أول كتاب ألفه الطبري، وكان يقول عنه: "لي كتابان لا يستغني عنهما فقيه: "الاختلاف" و"اللطيف"، وألّف "جامع البيان في تأويل القرآن"، المعروف بـ"تفسير الطبري، و"تاريخ الأمم والملوك"، المعروف بـ"تاريخ الطبري"، و"تهذيب الآثار"، و"ذيل المذيل"، و"لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام"، و"بسيط القول في أحكام شرائع الإسلام"، و"كتاب القراءات"، و"صريح السنّة"، و"التبصير في معالم الدين".
بداية المحنة
كان المذهب الحنبلي هو المذهب السائد بأرض العراق خلال القرنين الثالث والرابع الهجري، وذلك بفضل صمود الإمام أحمد، رحمه الله، في محنة خلق القرآن الكريم، وهذا الموقف أعلى من شأن الحنابلة، ورفع قدرهم في أعين الناس والعامة، حتى أصبحوا أغلبية بأرض العراق، وكان رأس الحنابلة بالعراق؛ أبا بكر محمد بن الحافظ أبي داود، صاحب السنن، ولم يكن الرجل جديراً بهذا المنصب، لكنّه نال الزعامة الشعبية لدى الحنابلة؛ لشهرة أبيه الحافظ الكبير أبي دواد.
ظل الحنابلة على حصارهم لبيت الطبري حتى بعد وفاته ما دفع أصحابه لدفنه في صحن داره
بدأت محنة الطبري مع الحنابلة عندما ألّف كتاباً في اختلاف العلماء والمذاهب في الأمصار، وهو كتاب ضخم وحافل، إلا أنه لم يذكر فيه المذهب الحنبلي؛ حيث كان يرى أنّ الإمام أحمد معدود من المحدّثين، وليس من الفقهاء، فقد كانت المذاهب الأخرى أقدم وأكثر شهرةً ورواجاً في العالم الإسلامي، ومذهب الحنابلة كان قاصراً على العراق فقط.
وجد الحنابلة أنّ في هذا الصنيع إهانة للإمام أحمد، وبدأت تتداول ألسنتهم، وعلى رأسهم أبو بكر بن أبي داود، كلمات تنال من عقيدة الطبري، خصوصاً أنّه قام بجمع طرق حديث (غدير خم)، وذلك في أربعة أجزاء، وهو الحديث الشهير العمدة عند جميع طوائف الشيعة، الذي يستدلون به على أحقية علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وبنيه في الخلافة، وهو حديث صحيح لا شكّ فيه، ثم ما لبث الأمر أن تطور وصار خلافاً خطيراً.
متعصبون لا يردّهم شيء
استخدم أبو بكر سلطته على جموع الحنابلة وجيّشهم ضدّ الطبري، وبدأ ينشر بينهم ما يوغر صدورهم نحو الرجل، غير آبه بما قدّمه للأمة، لكنه التعصب الأعمى الذي يهدم ولا يعرف للعالم قدره ولا للعلم حقه، فسوّل لهم إهانة هذا العالم الجليل، وقد أورد ياقوت الحموي تلك الواقعة بالتفاصيل في كتابه "معجم الأدباء"، إذ يقول: لما قدم الطبري إلى بغداد، وفي زيارته الأخيرة؛ تعصّب عليه أبو أحمد الجصاص، وجعفر بن عرفة، والبياضي، وقصده الحنابلة في المسجد يوم الجمعة، وسألوه عن أحمد بن حنبل، قال: "ما رأيت له أصحاباً يعوَّل عليهم"، فلما سمع الحنابلة منه ذلك، وثبوا عليه ورموه بالمحابر، وقيل كانت ألوفاً، فقام أبو جعفر بنفسه، ودخل داره، فرموا داره بالحجارة، حتى صار على بابه كالتلّ العظيم، وركب نازوك صاحب شرطة بغداد في عدد كبير من الجنود، ليمنع عنه العامة، ووقف على بابه يوماً إلى الليل، وأمر برفع الحجارة، فأغاظ ذلك الأمر عوام الحنابلة بشدة، فدفعهم التعصب المقيت إلى محاصرة بيت الطبري، ومنعه من الخروج منه، ومنع طلاب العلم من الدخول عليه، حتى أنّ كلّ طلاب العلم والحديث الذين دخلوا بغداد، العام 309هـ، لم يجتمعوا به، ولم يرووا عنه شيئاً، بسبب طغيان جهلة الحنابلة، ومنهم الإمام حسنيك بن علي، دخل بغداد ولم يكتب شيئاً عن الطبري، وعندما علم أستاذه، ابن خزيمة، ذلك، قال لتلميذه (حسنيك): "ليتك لم تكتب عن كلّ مَن كتبت عنهم، وسمعت من أبي جعفر، وبئس ما فعلت الحنابلة بحقّه".
اقرأ أيضاً: الخلاص المستحيل على صليب الحلاج
ظلّ الطبري حبيساً في بيته يعاني الاضطهاد الشديد، ولا يدخل عليه أحد إلا القليل من خاصته، وكان قد جاوز الخامسة والثمانين، وأنهكته السنون ورحلات طلب العلم في شتى بقاع الأرض، وزادت المحنة من آلامه وأوجاعه، والجهلة والمتعصبون لا يردّهم شيء، لا مكانة علمية، ولا كبر سنّ، ولا مؤلفات ومصنفات عظيمة في التفسير والتاريخ وغيرهما.
اقرأ أيضاً: الحلاج: تصادمَ مع السلطتين الدينية والسياسية فتوضأ بدمه
وظلّ الجهلة محاصرين لبيت الطبري، حتى حان وقت الرحيل، في شوال العام 310هـ، وقد ظلّ الطبري يردّد الشهادة قبل موته عدة مرات، ثم مسح يده على وجهه وغمض بصره بيده، وبسطها، وقد فارقت روحه الحياة، وبلغت المحنة أوجها ووصل التعصب إلى ذروته، وظل الحنابلة على حصارهم لبيت الطبري حتى بعد أن بلغهم خبر وفاته، مما دفع أصحاب الطبري لأن يدفنوه في صحن داره، برحبة يعقوب ببغداد، والتي تقع حالياً في شارع عشرين في الأعظمية في بغداد، باسم (حديقة الرحبي).. رحل الطبري محاصراً مظلوماً، ظلمه من سمح للتعصب أن يعشّش في أذهان الناس.