مئوية الحزب الشيوعي الصيني: السلطة والفوضى

مئوية الحزب الشيوعي الصيني: السلطة والفوضى


كاتب ومترجم جزائري
13/07/2021

ترجمة: مدني قصري

"الحزب والحكومة والجيش والمجتمع والجامعة، الشرق والغرب والجنوب والشمال والوسط: الحزب يدير كل شيء". شي جين بينغ، تقرير إلى المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني، 2017

في الأول من تموز (يوليو)، احتفل الحزب الشيوعي الصيني (CCP) بمرور قرنٍ على وجوده، في سياقٍ يتّسم بالصعود المذهل للصين على المستوى الدولي، ولكنْ أيضاً بالعديد من المشكلات المتأصلة في هذا الصعود والمثيرة للقلق: التركيبة السكانية المنكّسة، وعدم المساواة (الفوارق الاجتماعية)، التحوّل الصعب ولكن الضروري إلى نموذجٍ صناعي أكثر احتراماً للبيئة، وهشاشة النموّ الاقتصادي، والتنافس مع الولايات المتحدة والغرب عموماً، وديون مرتفعة للغاية، وخطر الصراعات الإقليمية.

حزب كليّ الوجود

مع أكثر من 92 مليون عضو، يغطي الحزب الشيوعي الصيني كلَّ المجتمع، والمؤسسات، والمدن والبلدات، والجيوش، والتعليم، والصحة ودوائر الأعمال.

يحتفل بالذكرى المئوية الحكام المطلقون الذين يَحبِسون أنفسَهم في سيناريو النبوءة ذاتية التحقيق التي لا يمكن أن تتحقق: جعل الصين القوة الرائدة في العالم من دون فوضى

عرف الحزب كيف يقيم ويحافظ على علاقات مع طيفٍ متنوع للغاية من الأحزاب السياسية في جميع أنحاء العالم، متجاوزاً إلى حدٍّ بعيد الطموحات الأوّلية لمؤتمر تموز (يوليو)  1920؛ بل وقد استعار الصيغة المنسوبة إلى لينين "اسبروا الأعماقَ بِحَرْبَة: فإذا قابلتم الفولاذَ توقّفوا، وإذا صادفتم العَصِيدةَ اِدفعوا"؛ شعارٌ كتوم، لكنّه موجودٌ في كلّ مكان في عمل الحزب، على الصعيدين الداخلي والدولي. تجنيدُ المصادر، ووكلاء النفوذ، والاهتمام بصورة الصين وتحسينها، كلّها أفعال ساهمت إلى حدّ كبير في تحديث جمهورية الصين الشعبية، وتحضُّرِها، وتدويلها، وفي تعزيز ثِقلها في الشؤون التجارية الدولية.

عمليات تطهير متكررة

من دون أن يحقّق تحوّلاً ذاتياً حقيقياً، شهد الحزب الشيوعي الصيني عدّة مراحل من الأزمات والاقتتال الداخلي، والمكائد التي ما تزال غير معروفة في الغرب، فالصراعات الداخلية متكرّرة، وغالباً ما يتمّ حلّها بوحشية، أو من خلال المؤامرات المتعرجة التي لا يعرفها سوى القدماء من الشيوخ.

اقرأ أيضاً: الأمين العام للحزب الشيوعي العراقي لـ "حفريات": النظام السياسي ينهار

 بعض الأمثلة: في عام 1971، بعد خمسين عاماً من إنشاء الحزب الشيوعي الصيني، اختفَى لين بيا، الخليفة المفترض لماو تسي تونغ، في حادث تحطّم طائرة. بعد اكتشاف مؤامرته ضدّ الزعيم الأعلى للصين. في عام 1989، عُزل الأمين العام للحزب، تشاو زيانغ، فجأة، ووُضِع تحت الإقامة الجبرية لبقية حياته، لمعارضته قرار دنج شياو بينغ ورئيس الوزراء لي بينج، قمْعَ حركة ميدان تيان آن مين، بالدم. وفي الآونة الأخيرة، في 2012 -2013، أدّى التنافس على السلطة بين شي جين بينغ وبو شيلاي إلى الحُكم على الأخير بالسجن المؤبد بتهمة الفساد.

حافظ الحزب الشيوعي الصيني على نفسه من خلال نظام تطهير يَحكمه البحثُ الدؤوب عن أعداء، غالباً ما يكونون غير مرئيين، ويُطلًق عليهم أحياناً الخونة أو الخلدان.

اقرأ أيضاً: الحزب الشيوعي السوداني: تاريخ الرفاق المجيد وحاضرهم المأزوم

 أعداءٌ مرموقون، وفق التعبير الماركسي، من الداخل والخارج، عندما يُتّهَمون بالتواطؤ مع الأجانب، يمكن أن توجَّه جميعُ التهم إلى المتّهَم، حيث بلغ هذيان التهم ذروتَه أثناء الثورة الثقافية، قبل أن يبدأ النظام في نهاية السبعينيات، منعطفاً بمقدار 180 درجة في خياراته الإستراتيجية في مجال السياسة الخارجية والاقتصادية، لقد حدثت إعادة تأهيل كوادر سابقة، لدى تنصيب دنغ شياو بينغ، عام 1978، وقد تمّ الحكم بالسجن على مهندسي الثورة الثقافية، بمن فيهم جيانغ تشينغ، زوجة ماو تسي تونغ (1).

التصلّب في ظل حكم شي جين بينغ

يثير عاملان خفيان رئيسان تساؤلات حول أفق الجلسة الكاملة القادمة، التي ستعقد في الخريف، وعلى الخصوص المؤتمر المقبل المقرّر عقده عام 2022: من ناحية، مستقبل لي كه تشيانغ، الوزير الأول الحالي الذي يعرف الجميع خلافاته العميقة مع شي جين بينغ، ومن ناحية أخرى، فإنّ المرحلة التالية في الحياة السياسية لـِ وانغ هونينغ، المستشار البارز للرئيس (الجميع يدين له بكل شعارات النظام، خاصة شعار "الحلم الصيني" (Zhongguo meng)، والذي أقنع بكلّ تأكيد هذا الأخير "بالانخراط في لعبة المواجهة مع الأمريكيين، مخالفاً بذلك نصيحة عدد كبير جداً من كبار المسؤولين. ومن المحتمل أن يتم تأكيد تنصيب "زمرة تشجيانغ" (أي أولئك المقربين والموالين لِشي جين بينغ) في أعلى مراتب السلطة.

وثيقة تكشف المواضيعَ السبعة المحظورة سياسياً في الصين: القيم الشمولية، حرية الصحافة، المجتمع المدني، الحقوق المدنية، استقلال القضاء، الأخطاء التاريخية للحزب، التواطؤ بين الأعمال والسياسة

بعد أقل من عام من وصول شي جين بينغ إلى السلطة (2012)، وافق المقربون منه، كأعضاء في اللجنة المركزية، على إنشاء وثيقة تسمَّى الوثيقة رقم 9، التي جاءت لِتضخِّم جنونَ العظمة للنظام، وإضفاء الطابع المؤسسي على الاستياء من الغرب.

تُحدِّد هذه الوثيقة المواضيعَ السبعة المحظورة سياسياً في الصين (qi ge bujiang): القيم الشمولية، حرية الصحافة، المجتمع المدني، الحقوق المدنية، استقلال القضاء، "الأخطاء التاريخية للحزب" و"التواطؤ بين الأعمال والسياسة".

فور الكشف عن هذه الوثيقة من قِبل مستخدِمي الإنترنت، خاصة مِن قِبل وانج جونج تشيوان، الناشط الذي تم اعتقاله على الفور، تم إيقافُ محاولات يائسة لترقية تحرير النظام السياسي بشكل نهائي، ومعها عملٌ دؤوب حول الذاكرة،  وهو عمَى طوعي خطير يُعيق مستقبل المجتمع الصيني.

ماو تسي تونغ أو دنغ شياو بينغ، الأبَوَان الوصيّان لشي جين بينغ

كلّ نظام يقيم علاقة غامضة مع ذاكرته الخاصة، وعلى نطاق أوسع مع تاريخه - تاريخ بلاده، وشعبه، وعلاقاته مع الآخر.

تُناوِب بكين على التوالي حلقاتِ الذاكرة المفرطة (الماضي المجيد وبالتالي تمجيده وتضخيمه)، وأخرى من فقدان الذاكرة (ماضٍ يُنظر إليه على أنّه خطير على استدامة النظام، والذي لا يجرؤ أحد على الحديث عنه، أو الكتابة فيه، أو مناقشته)، غالباً ما تكون هذه الأخيرة نتيجة لانتهاكات النظام الشمولية: الابتزاز والتضحيات والعنف، وهكذا يتم تنظيم الذاكرة الرسمية، وبهذا المعنى، لن تكون هناك أبداً أيّة حقيقة مثبَتة ومتميّزة عن كلمة النظام حول طيف الصدمات المعاصرة أو الماضية. على العكس من ذلك، فإنّ التحكم في المعلومات، بالتالي في التاريخ، يُمثل هوساً حقيقياً، وبذلك يمكن ملْءُ الذاكرة "المُنَقَّاة" بِمشهدٍ تاريخي، ورواية يصنعُهما النظام نفسه.

من هنا، فإنّ مسألة التراث الذي سعى الحزب الشيوعي الصيني إلى تدميره، باسم فكرة معيّنة في التحديث، تجد الآن استحساناً (لِما تبقى ...) من أجل تمجيد الأمة الصينية، وهكذا أصبحت السياحة التذكارية، المعروفة باسم "السياحة الحمراء"، والتي صارت مهمّة بالفعل منذ أوائل سنوات الـ 2000 ، والتي تم هيكلتها من خلال الأماكن المرتفعة التي عاش فيها ماو تسي تونغ والأحداث البارزة للتاريخ "البطولي" للحزب الشيوعي الصيني، باعثاً إيجابياً في تكريس تمجيد الأمة الصينية.

اقرأ أيضاً: ملحمة الحزب الشيوعي العراقي .. بدم الرفاق لا راية الثورة

لقد صنّف الحزبُ أكثر من 120 موقعاً من أجل تطوير مشهدٍ تذكاري لـ "الصين الجديدة" (شينهوا)؛ فهذا الاهتمام بالسياحة الحمراء قديم العهد بالفعل، لقد تضاعفت هذه السياحة بعد أزمة تيانانمن (1989)، في سياق "الحمى الثقافية" (وينهوا ري)، عندما بدأت عِبادةُ إحياء ذكرى القائد الأعلى تتطور في أشكال جديدة، لا سيما الأشكال الفنية، هذه "المَاومَانِيّة" (نسبة إلى ماو تسي تونغ)، التي استغلتها السلطة بالفعل، كانت تميل إلى تبرئة النظام من جرائمه الأخيرة، وإلى استقطاب عقاب قومي تمّ تنظيمه أوّلاً ضد اليابان، ثم ضدّ العالم الغربي.

اقرأ أيضاً: الحزب الشيوعي السوري.. حين ضيّعنا "السوفييت"

ولكن، كان على الرئيس شي جين بينغ أن يأخذ أيضاً بإرثِ دينغ شياو بينغ، أبو الإصلاحات. وهكذا، ففي 31 أيار (مايو)، خلال ندوةٍ للمكتب السياسي، دعا الرئيسُ المديرين التنفيذيين للجهاز، إلى التواصل بشكل أفضل لتحسين صورة البلاد في الخارج، ونزع سلاح الانتقادات الموجّهة للصين بشكل متكرر، والتي لم يسبق لها مثيل منذ السبعينيات.

اقرأ أيضاً: الشيوعية والفاشية والنازية: ماذا كانت تريد الشموليات من العالم؟

"التواضع" (qianxun) هي الكلمة التي نَطق بها شي جين بينغ أكثر من مرّة،  هل كان تعديل الكلام عفوياً، أم كان نتيجة ضغوط داخلية من الجهاز القلِق من عزل الصين؟ قد يكون التماسك وراء التحوّل المفاجئ من قِبل المسؤول الأول، والذي تم التعبير عنه بمناسبة الندوة السياسية، في 31 أيار (مايو)، مجرّدَ مظهرٍ وحِيلةٍ تكتيكية.

 يبدو أنّ التصريحات البغيضة التي أدلى بها السفير الصيني في فرنسا، لو شاي، بعد بضعة أيام، تُظهِر أنّ هذه الإستراتيجية منسّقة تماماً، وتهدف إلى تقسيم الغربيين فيما بينهم.

اقرأ أيضاً: ما دور المصريين المسيحيين في تأسيس الحركة الشيوعية؟

لا شيء يجب أن "يفسد" الاحتفالات، ولا الانشغالات والمخاوف الدولية (التوترات القوية مع الولايات المتحدة، والتدهور مع الغرب بشكل عام، والمسؤولية في أزمة (Covid-19)،  ولا الصعوبات الداخلية (البطالة، والحوادث الصناعية الكبرى، والجائحة، وما إلى ذلك)، فإذا كان الحزب مستمرّاً في استخدام سياسته الخارجية لإضفاء الشرعية على سياسته الداخلية، فإنّ المجتمع الصيني ككلّ ليس منسجماً مع النظام، ويشعر على نحو متزايد بأنّه غارق في ثِقل الالتزامات والإحباطات.

الذكرى المئوية مخصّصةٌ أكثر لأن يُحتفَل بها من قِبل الحكام المطلقين الذين يَحبِسون أنفسَهم في سيناريو النبوءة ذاتية التحقيق التي لا يمكن أن تتحقق: جعل الصين القوة الرائدة في العالم من دون فوضى.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

theconversation.com


الهامش:

(1) ممثلة سابقة وامرأة سياسية صينية،  لُقِّبت بـ "الإمبراطورة الحمراء"، كانت الزوجة الرابعة والأخيرة لماو تسي تونغ، مؤسس جمهورية الصين الشعبية، ولعبت دوراً سياسياً رئيسياً خلال الثورة الثقافية.

تمّ القبض عليها عام 1976، بعد أيام قليلة من وفاة ماو، وحُكم عليها بإنهاء أيامها في السجن، حيث انتحرت. كعضو في عصابة الأربعة، تُعتبَر واحدة من الشخصيات المسؤولة عن اندلاع الثورة الثقافية وعنفها وتدميراتها.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية