ليبيا ومخاطر التفكيك ... متى نستفيق؟

ليبيا ومخاطر التفكيك ... متى نستفيق؟


28/11/2020

" الليبيون مبدعون في وضع العراقيل " هذا بالضبط ما قاله الدكتور غسان سلامة المبعوث السابق للأمين العام لجمعية الأمم المتحدة و رئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا UNSMIL أمام اجتماع للجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية في الرياض في العام 2018 . 

و بعد الفشل الأخير لمنظمة الحوار الإنساني “ hd “و بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا في الوصول لصيغة اتفاق شامل وفقا للقرار 2510 ، يجب أن نعيد تقييم الموقف في سياق التحولات الجيبوليتيكية في المنطقة و أن لا يقتصر التحليل عند السياق المحلي ، الذي يخضع لثقافة العصي في الدواليب ، إذا أن الوضع الليبي إزاء مخاطر متعددة الأوجه ، و استمراره في هذا السياق ، سيؤدي في النهاية لتفتيت الكيان الوحدوي ، و تشظي الدولة لأكثر من 5 أقاليم ، ما لم يستفق الليبيون ليبدعوا حلا يحافظ على وحدتهم ، و يؤدي بهم لإعادة سيادتهم على ثرواتهم و قرارهم الوطني ، إن الأجواء الليبية ملبدة بالسحب السوداء و مترقبة لانفجار كبير في دورة عنف لامتناهية ، حيث التوافقات في أوضاع حرجة بسبب العراقيل متعددة الأوجه و الموضوعة أمام الحل ، إن محاولات فرض شخصية بعينها في رئاسة الحكومة و المرتبطة بالراديكاليين الإسلاماويين هو محل الخلاف محليا ، إلا أنه تمظهر يخفي خلفه  تجاذبات دولية أكثر عمقا ، إن الصراع المحلي لا يصعب حله  إن وجدت الإرادة الوطنية الخالصة . 

تدفع ليبيا ثمن استلاب القرار السيادي والوطني من نخبتها الحاكمة، حيث تغيب القيادة السياسية الفاعلة التي تتعامل مع ليبيا كدولة وطنية ولا تتصل بالمشاريع العابرة للحدود

إن الأزمة الليبية باتت تمثل حجر الزاوية في وضع إقليمي و دولي متداخل يتطلب وجود دورة عنف و استعراض للقوى في أرض بديلة ، و للأسف تم مأسسته ديموغوجيا خلال سنوات من الدم و البارود و تحولت ليبيا للإقليم البديل في عملية التدافع الدولي ، إن المجال المفتوح الذي تتمتع به ليبيا بحدودها الشاسعة هو أهم الأسباب جيواستراتيجية التي تدفع الدول للتدخل في ليبيا ، فلغة المصالح و تعزيز النفوذ تدفع نحو خلق التحالفات و التكتلات لتطويق الخصوم و الحد من حركته .

في منطقة المغرب العربي تبدو المشهدية أكثر وضوحا لهذا المسار ، فتونس المقبلة على وضع استثنائي و الذي يبدو في ظاهره تفكيك للدولة تحت اشتداد المطلبية الشعبية بالتنمية ، هو في حقيقته تغيير داخل التغيير ، أي  ثورة ياسمين جديدة " 14 جانفي " و التي ستخلق مسارا سياسيا و مجتمعيا يمركز الدولة ليبعد القوى الراديكالية ، و إن صح وصفه فهو مشروع ميلاد الدولة الوطنية الثانية في تونس ، إذ من المرتقب صعود قوى العمل السياسي الجديد المبني على استباقية الواقع و التماثل الداعم ، و هذا المنطق الجديد سيؤدي لكسر امتداد المجال الحيوي الليبي من الحدود الغربية أمام القوى الراديكالية العابرة للأوطان و داعميها الدوليين من ظهروا على خارطة الأحداث في موجة الربيع العربي ، إن القادم من تونس هو دور بنيوي سيؤدي لإعادة تخريط المنطقة من الأطلسي حتى رأس جدير ، و هو ما يمكن قرائته من فتح القنصليات بمنطقة العيون المغربية ، إذا نحن أمام رسم جديد للخرائط الجيواستراتيجية ، و في ظل الإنخراط الرسمي للجزائر في مشروع الحزام و الطريق " طريق الحرير الصيني " ، فإن هذا التداخل المعقد قد يخلق بعض التحولات المؤلمة ، إذ ربما تخلق القلاقل في مساراته الطويلة للعمق الأفريقي .

لقد أعاد زمن الإسلامويين المتحالفين مع قوى الليبرالية المتوحشة صياغة المفاهيم بوجهة نظر تقسيمية للمجتمعات المحلية

 

أما اقتصاديا فقد يمثل كسر المجالات فرصة لصنع البدائل لإنتاج الأموال الطازجة وفقا لجيولوجيا المنطقة و ما تحمله من هِبَات ، و الأسوأ هو الدفع نحو تفكيك الدول و إعادة تخريط حدودها ،  إن القادم في تونس سيدفع نحو الإبقاء على الفوضى مهملة في ليبيا ، إذ دوافع دعم الإستقرار في تونس أكبر ، و يمثل ذلك خطرا حقيقيا على الثروات الليبية ، التي لن تكون بمعزل عن العملية الحيوية المتعددة الأوجه ، بل إن نزع السيادة الوطنية كاملة عُنْوة ، هو سيناريو متوقع و قد يحدث وفقا للقرارين 1970 و 1973 . 

في الحقيقة أن ليبيا تدفع ثمن استيلاب القرار السيادي و الوطني من نخبتها الحاكمة ، حيث تغيب القيادة السياسية الفاعلة ، و التي تتعامل مع ليبيا كدولة وطنية ، و لا تتصل بالمشاريع العابرة للحدود ، قيادة تستوعب طبيعة التحولات الكبرى في المنطقة و تملك قرارها و ليست مسلوبة الإرادة ، إن وجه العالم يتغير و خلال الأعوام المقبلة حتى 2030 سيشهد كثيرا من التحولات العميقة ، و في كل مرة سيصل الكبار و الفاعلون الإقليميون لحافة الهاوية ، سيلجؤون للمنطقة البديلة لتفريغ شحنتهم و استعراض قوتهم ، و ليبيا هي الأرض المفتوحة على كل الإحتمالات . 

إن العقول الإستراتيجية للشركات الكبرى لم تعد تعتمد مقارباتها وفقا للحدود القائمة وفقا لمفاهيم السيادة الوطنية المتعارف عليها ، بل إنها باتت تلجأ لتطوير نفسها وفقا لحاجتها لتنفيذ أعمالها بممرات آمنة ، و يجب أن لا نغفل تبعات زلزال فايروس كورونا و الذي سيغير وجه العالم خلال أقل عقد من الزمن ، و هو ما شهدناه في طبيعة التعاون الطبي بين الدول . 

باتت الأزمة الليبية تُمثّل حجر الزاوية في وضع إقليمي ودولي متداخل يتطلب وجود دورة عنف واستعراض للقوى في أرض بديلة

 

إن صراعات كامنة تم استحداثها في المنطقة و في ليبيا بشكل خاص ، لا تتعامل معها النخبة بمنطق المخاطر ، بل انجرت ورائها من منطلقات فكرية تتحول للعدمية عندما تترك على علاتها دون تمحيص ، و ارتبط إطلاقها في المجتمع الليبي عقب التغيير المسلح بقادة التيار الإسلاماوي ، الذي قسم المجتمع لفسطاط الكفر و فسطاط الإسلام ، و لم يتوقف عند هذا الحد بل أدخلها في أزمة هوية باستدعاء الأصول الغير عربية و دفعها للواجهة ، إن ليبيا ظلت حبيسة السلطة و لم تخضع لصياغة هوية جامعة تتأطر ضمنها منذ استحداثها في 1951 ، و تحولت مع الزمن لصراع كامن و اليوم يمثل هذا الصراع المسكوت عنه أُس التفكيك و ستكون أداة لتقسيم الكيان الواحد ، و كبديل عن معالجة الأزمة تحول الأمر برمته لصراع تدافع و إقصاء ، حيث اختفى صوت الأغلبية مقابل تمدد صوت الأقلية - الموصوف بالمكونات - ، إن اختفاء المنطق القومي الواسع و الحديث عن العروبة بات جريمة متصلة و رُبِط بحقبة ماضية و تحول لتهمة ، و بات المثقف العربي و الوحدوي من أنصار الدكتاتوريات ، إن حجم الهجومات على المتحدثين على الثقافة العربية و المناصرين لامتداداتها القومية و أثرها في الحياة العامة أدى في النهاية لإسكاتهم ، و عزل الليبيين عن محيطهم البنيوي ، و تم إحلال قوى جديدة يفتخر جزء منهم بقومياتهم و امتداداتها دون اعتبار لمن تم إخراجهم بالتهم و الملاحقة ، إنه زمن الإسلاماويين المتحالف مع قوى الليبيرالية المتوحشة أعاد صياغة المفاهيم بوجهة نظر تقسيمية للمجتمعات المحلية ، و هي تغذي كل يوم حالة من الصراع الكامن لصالح أقليات ثقافية تحول وجوب الإعتراف بهم و بحقهم في الحفاظ على مواريثهم ، لإخلال بمبدأ المواطنة و عزل الليبيين عن محيطهم العربي و همومه ، بل و دفع نحن تحويل ليبيا لحالة من الفراغ المفتوح المجال و بالتالي سقطت في وحل الصراع الإقليمي و الدولي ، و ها هي تدفع في صمت لتكون الأرض البديلة للصراع و الذي قد يجعلها رهينة للفوضى لعقود من الزمن ، و لن يستفيق الليبيون إلا و قد اضمحل الكيان و نهبت الثروات و افترست الموارد ، و وقتئذ لن يفيد السؤال الكبير : متى نستفيق ؟ .



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية