ليبيا.. إصلاح الحاضر بأدوات الماضي

ليبيا.. إصلاح الحاضر بأدوات الماضي


22/11/2021

عبدالعزيز الخميس

تَرشّح سيف الإسلام القذافي للانتخابات الرئاسية في ليبيا يعكس درسا سياسيا دقيقا مفاده أن الدول الراسخة القوية تستقي تجاربها السياسية من بيئاتها الاقتصادية والاجتماعية، ولا تستلهمها من نماذج خارجية مسقطة.

فشلت التجارب الغربية في بناء الديمقراطية بطريقة هجينة في العراق وفي أفغانستان وستفشل في لبيبا، لأن التدخلات الخارجية التي حدثت أثناء ثورة فبراير 2011، أو تحدث اليوم، لم تراع الخصوصيات الاجتماعية والثقافية الليبية، بل سعت إلى فرض نماذجها الديمقراطية التقليدية دون أي تمثل لما تختزنه ليبيا من خصوصيات أو تحتاجه من إجراءات.

تستعد ليبيا للاستحقاق الانتخابي المزمع تنظيمه يوم 24 ديسمبر المقبل، ولئن ينظر الليبيون إلى هذه الانتخابات على أساس أنها خطوة مفصلية قد تعيدُ البلاد إلى مصاف الدول السوية، وتنهي عهد الاحتراب الميليشياوي وسطوة الجماعات الإسلامية المسلحة، إلا أن مؤشرات كثيرة متصلة بالانتخابات القادمة أوحت أن المشهد الليبي يتجه نحو إعادة إنتاج مظاهر علله القديمة.

كان ترشح سيف الإسلام القذافي إلى الانتخابات الرئاسية القادمة، في الرابع عشر من شهر نوفمبر الجاري، مشهدا كثيفا بالدلالات والمعاني سواء في دواعي الترشح او في توقيته ومظاهره، أو في المآلات المترتبة عن فوزه. الدلالة الاولى لترشح نجل معمر القذافي، بما تختصره من عودة للنظام القديم، هي كونها تعكسُ موقفا شعبيا يكاد يلامسُ الإجماع من تجربة حكم الإسلاميين في العشرية الماضية. عاين الليبيون بأنفسهم نتائج تداول الإسلاميين على الحكم في ليبيا، في مستوى الاحتراب والانفلات الأمني والعسكري عربدة السلاح،، أو في مستوى النتائج الاقتصادية وغياب السيولة، ولاشك أن هذه المواقف الشعبية من التعبيرات الميليشياوية تعزز الحنين إلى مرحلة النظام السابق، لكنها تشير أيضا إلى غياب البدائل السياسية الحقيقية التي يمكنها أن تقدم البديل السياسي والاقتصادي الحقيقي. ليس قدر الليبيين أن يكون اختيارهم منحصرا بين رمضاء النظام السابق، أو نار الميليشيات والسلاح المنفلت.

ترشح سيف الإسلام بما وفره من مشاهد تتصل بالمكان (المقر الفرعي لمفوضية الانتخابات في سبها) أو بالزيّ (ظهر سيف الإسلام مرتديا الزي التقليدي لوالده معمر القذافي) يشير أيضا إلى أن الرجل لا يريد الانقطاع عن مشروع معمر الذي ثار ضده الليبيون. وجه سيف الإسلام رسائل كثيرة إلى أنصاره وعموم الليبيين، أولها أنه يطرح على نفسه مهمة القطع مع حكم الميليشيات، وثانيها أنه يغازل التركيبة البدوية القبلية للبلاد، وثالثها أنه لا ينوي إحداث قطيعة مع المكونات الثقافية والاجتماعية لمختلف المناطق الليبية. لكن الاحتفالات التي شهدتها بعض المدن والقرى الليبية بترشح سيف الإسلام، مقابل الاحتجاجات التي عرفتها مناطق أخرى اعتبرت ترشح سيف الإسلام بعد عشر سنوات من سقوط نظام والده، يمثل "خيانة" لمضامين ثورة 17 فبراير 2011 رغم كل ما اكتنفها من تدخلات ورهانات إقليمية ودولية.

الثابت أن ترشح سيف الإسلام القذافي إلى الانتخابات الرئاسية القادمة ليس حدثا انتخابيا أو سياسيا فقط، بل إنه حدث يختصر كل ما مر على المشهد الليبي من تقلبات داخلية وكل ما سُلطَ على البلاد من تدخلات خارجية. يمكنُ عدّ ترشح سيف الإسلام من ضمن حوالي 30 ترشحا، تمثل معسكرين: إما معسكر نظام القذافي القديم (عقيلة صالح والمشير خليفة حفتر وسيف الإسلام وغيرهم) أو معسكر "الثورة" وأغلب الترشحات جاءت من قبل قوى قريبة من الميليشيات الإسلامية (فتحي باشاغا أو عبدالحميد الدبيبة إن تجاوز معضلة المادة 12 من القانون الانتخابي التي لا تجيز له الترشح). على ذلك فإن أغلب الترشحات لم تقدم بديلا حقيقيا لا يعكس "الحنين" إلى العهد السابق، أو لا يترجمُ الاصطفاف مع التجربة العقيمة للسنوات الأخيرة.

عودة سيف الإسلام إلى المشهد السياسي الليبي ذكرت المتابعين بطريقة ظهوره منذ أكثر من عقد، والرهانات الغربية التي عُقدت عليه. وثبت لاحقا أن أزمة النظام الليبي كانت أعمق وأكثر تعقيدا من أن تصلح بعمليات تجميل داخلية يقوم بها سيف الإسلام أو أي طرف من داخل منظومة نظام القذافي التي أحكمت غلق المنافذ التي يمكن أن تتنفس منها ليبيا أجواء سياسية أو فكرية أو ثقافية جديدة. وكان ظهور سيف الإسلام في سبها مرتديا الزي التقليدي لوالده مؤشرا على أن بعض القوى في ليبيا بصدد إعادة تدوير ماضيها، معللة ذلك بأن كل التيارات التي تداولت على حكم البلاد من 2011 أعادت ليبيا عقودا إلى الوراء. صحيح أن ذلك يتضمن جانبا من الصحة والوجاهة، لكن التصور القائل بإمكانية إصلاح الوضع الراهن بأدوات الماضي هو تصور ضعيف ولا يتوفر على أية حجة أو دليل.

لا يبدو طريق سيف الإسلام نحو رئاسة ليبيا مفروشا بالورود في ظل رفض الكثير من القوى المحلية والإقليمية والدولية لترشحه (نشير هنا إلى الاحتجاجات التي اندلعت في مصراتة ضد ترشح سيف الإسلام، ونشير أيضا إلى الموقف الأميركي الذي لخص الأمر في أنه له مشكلة مع ترشح سيف الإسلام)، إلا أن وصوله إلى الرئاسة من عدمه ليس مهما بقدر بحث الخلفيات الكامنة وراء ترشحه. أي ماذا يعني ترشحه وما هي القوى التي دعمت ذلك التوجه؟

الواضح أن الربط بين أزمات ليبيا الراهنة وبين عودة سيف الإسلام ليس ربطا كافيا لفهم ترشح نجل القذافي، ذلك أن سيف الإسلام لن يكون بوسعه تقديم حلول جذرية أو حقيقية لأزمات ليبيا، لا فقط للعوائق الكثيرة التي تقف دونه (الخصوم والميليشيات والانقسام الليبي والتركيبية الاجتماعية المعقدة)، بل لأنه لا يمتلك الرؤى والبرامج التي تتيح له ذلك. وإذا استبعدنا هذا الربط (بين الأزمة الليبية وتصدي سيف الإسلام لحلها) فإن ما يبقى مهما هو التركيز على القوى الداخلية والخارجية التي يمكنها أن تستفيد من عودة سيف الإسلام.

المدخل الأول لهذا المشهد يتمثل في أن ترشح سيف الإسلام لا يمثل سوى محاولة لتركيز الاستقطاب السياسي ثم الانسحاب لترك المجال للمرشح خليفة حفتر، وهذا الاحتمال ليس مستبعدا، بالنظر لغياب تناقض جذري بين حفتر وسيف الإسلام. المدخل الثاني يتمثل في أن القوى الإقليمية والدولية التي تقرأ الخارطة الليبية بلغة مصالحها، وترى في ليبيا مجرد بوابة أو حصن أمام أساطيل الهجرة السرية، أصبحت تراهن على أكثر من مرشح قوي. وفي هذا الاحتمال يبرز الدور الفرنسي الذي يبدو أنه يراهنُ على أكثر من اسم؛ فتحي باشاغا وزير الداخلية في حكومة فايز السراج يمثل رهانا فرنسيا أولا، قد لا يكفي ويحتاج رهانا آخر يغطي منعرجات قد تحدث في العملية الانتخابية، وهنا يبدو اسم سيف الإسلام صالحا لهذا الاحتمال. المدخل الثالث يشير إلى أن دول الجوار الليبي التي ملت سنوات عربدة الميليشيات، قد تجد مصلحتها في أن يحكم ليبيا رجل قوي يعيد "زمن الدولة" ويوقف السلاح المنفلت والتشتت الميليشياوي وغياب القرار المركزي. وفي هذا الأمل الإقليمي يبرز أكثر من اسم صالح من بينها سيف الإسلام.

كل تلك المداخل لفهم حدث ترشح سيف الإسلام، هي مجرد سيناريوهات أو احتمالات، لكن الأكيد في الحدث الأخير أن الدول السوية تنظر للمستقبل وتصنع برامجها الجديدة من رحم واقعها وحاجاتها، لا بإعادة إنتاج حلول الماضي لأزمات الحاضر والمستقبل. أما البعد الثاني فيكمنُ في أن ترشح سيف الإسلام هو اختصار لنتائج تنافس النماذج الخارجية المسقطة على ليبيا منذ عقود. عندما عجزت ليبيا عن إنتاج حلولها الذاتية المستقاة من واقعها ومن خصوصياتها الاجتماعية والقبلية والثقافية، فإن ذلك أتاح لأن تتقدم قوى خارجية بحلولها المسقطة لكي تملأ الفراغ. لكن دروس التاريخ تشير إلى فشل كل التجارب الخارجية المسقطة، في أكثر من جغرافيا. الوسائل الغربية لفرض ديمقراطية غريبة عن الوقائع المحلية، فشلت في العراق وفي أفغانستان وستفشل في ليبيا، إذا لم يتنادَ الليبيون إلى إبداع حلول لمشاكلهم من خصوصيات واقعهم.

عن "سكاي نيوز عربية"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية