على سفح قمّة جبليّة في صحراء وادي القدرون، يقع دير مار سابا، الذي يبعد مسافة 1500 متر عن بلدة العبيدية، شرق بيت لحم، ويعود تاريخه إلي القرن الخامس الميلادي، وتمّ بناؤه بطريقة هندسية فريدة خلال العام 484، على يد الراهب سابا برفقة مجموعة من الرهبان، وهو بهذا يُعدّ واحد من أقدم الأديرة المأهولة في العالم.
ويعدّ الدير من أبرز المعالم الأثريّة الفلسطينيّة، ويحيط به مشهد طبيعي قمّة في الروعة، تظهر به التواءات وتعرجات الوادي، كما أقيم برج خاص إلى جانب الدّير، يسمى برج يوستنيانوس، والذي بُني في القرن السادس بعد الميلاد، ويبلغ علوّه ١٨ متراً وكان يستخدم للمراقبة .
دير مار سابا ما يزال يحافظ على تقاليده القديمة بمنع دخول النساء إليه، وذلك بناء على معتقدات مسيحية بأنه سينهار إذا دخلته امرأة
ويقع مار سابا في المنطقة "ج" والتي تخضع تحت السيطرة الإسرائيليّة الكاملة، وتشكّل هذه المنطقة 61% من أراضي الضفّة الغربيّة؛ حيث حافظت فيها إسرائيل على سيطرة شبه تامّة، وذلك عقب توقيع الاتّفاق الانتقاليّ بين إسرائيل ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة، المعروف بـ "أوسلو 2"، عام 1995، حيث قسّمت إسرائيل الضفّة الغربيّة إلى ثلاث مناطق: المنطقة "أ"، والمنطقة "ب"، والمنطقة "ج".
وبيت لحم هي مدينة كنعانية يعود تاريخها إلى 3 آلاف سنة قبل الميلاد، شهدت ولادة الملك داود، ثم ولادة المسيح عليه السلام، ممّا أدّى إلى شهرتها في سائر المعمورة، كونها أقدس المدن في العالم لدى الطوائف المسيحية، وكانت محطّ أنظار الملوك والأباطرة والأشراف، وكانت في طليعتهم الملكة هيلانة، والدة الإمبراطور قسطنطين الأول، حيث شيّدت فيها كنيسة المهد، عام 326، ولشهرتها فقد كثر ما كتبه الحجاج والزوار عنها بمختلف اللغات.
اقرأ أيضاً: جبل الأربعين في أريحا: على قمته صام المسيح وتعبّد
ومن أبرز المعالم السياحية الدينية في المحافظة كنيسة المهد، التي اكتمل بناؤها عام 339م، وبرك سيحان "برك المرجيع"، وقلعة البرك "قلعة مراد"، ودير الجنة المقفلة، والعين "عين أرطاس"، وتل الفريديس "هيروديون"، ووادي خريطون، وآبار النبي داود، ومتحف بيتنا التلحمي القديم، ودير القديس ثيودوسيوس، ودير مار إلياس، كما توجد في بيت لحم أربعة متاحف ودار مسرح وداري سينما.
تحفة معمارية
بدوره، يقول رئيس بلدية العبيدية، ناجي ردايدة، خلال حديثه لـ "حفريات": إنّ "الدير عبارة عن تحفة معمارية، ويضمّ بداخله رفات القديس مار سابا، الممدّد في داخل صندوق زجاجيّ، وقد تحلّل جسده قليلاً، إضافة إلى كنيسة، وسرداب يؤدّي إلى مقبرة الدير تحت الأرض، تضمّ رفات مئات الرهبان الذين قضوا على أيدي الفرس، عام 614م، وعين ماء وصومعة القديس يوحنا الدمشقيّ الصخريّة، التي عاش فيها خلال القرن الثامن الميلادي، كما يضمّ الدير أكثر من 100 غرفة، وعدداً من اللوحات التي تعبّر عن يوم الحساب ولوحة لمراسم دفن القديس يوحنا الدمشقي".
الدّير ما يزال يحافظ على تقاليده القديمة بمنع دخول النساء إليه، وذلك بناء على معتقدات مسيحية، كما يذكر ردايدة "تبين أنّ الدير سينهار ويتمّ تدميره بشكل كامل عبر زلزال في حال دخلته امرأة، كما ما تزال هناك بعض الأساطير الغريبة التي يفرضها الدير؛ كمنع أكل فاكهة التفاح، وسبب ذلك أنّ سابا أراد أن يأكل تفاحة في غير موعدها، لكنّه رأى في ذلك شرَهاً وقد تسبّب اللذة بهذه التفاحة التأثير على تعبّده والرهبان داخل الدير".
اقرأ أيضاً: الحياة على ذمة الموت: عائلات غزاوية تعيش في المقابر
وتشرف على الدير طائفة الروم الأرثوذكس في فلسطين، ويعيش داخله 15 راهباً يونانياً، حيث يرفض الرهبان تزويد الدير بالكهرباء، أو بشبكات المياه والاتصالات الحديثة، حيث يعتمدون على الوسائل البدائية؛ كاستخدام الشموع التي تعمل بزيت الزيتون لإضاءة الدير، وعلى النبع الموجود أسفل الدير لشرب المياه، وذلك للتفرغ للعبادة بشكل كامل بعيداً عن جميع مظاهر العلو والترف، كما عاش أسلافهم قبل آلاف السنين.
الناطق باسم وزارة السياحة والآثار الفلسطينية جريس قمصية لـ "حفريات": الدير، الذي يعدّ من أقدم الأديرة المأهولة في العالم، تعرّض لاقتحام المستوطنين المتطرفين
ولفت ردايدة إلى أنّ "الدير يفتح أبوابه طيلة أيام الأسبوع للزائرين والسياح من مختلف أنحاء العالم، ما عدا يومي الجمعة والأربعاء، كما تقدر أعداد السياحة الداخلية للدير 350 ألف زائر سنوياً، بينما تقدّر أعداد السياح من حول العالم 300 ألف سائح سنوياً، أبرزهم من اليونان وروسيا".
أقدم دير في فلسطين
من جهته، يقول مدير عام التنقيبات في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، جهاد ياسين: أنّ "دير مار سابا تمّ وضعه ضمن اللائحة التمهيدية لمنظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلم "اليونسكو" باعتباره أقدم دير في فلسطين"، مبيناً أنّه "جرى ترشيحه من قبل الوزارة برفقة 20 موقعاً أثرياً، خلال العام 2015، لتسجيله على اللائحة خلال الفترة المقبلة".
وتابع ياسين حديثه لـ "حفريات": "الدير تمّ ترميمه من قبل الكنيسة الروسية خلال العام 1840، ولم تجرِ أيّة عمليات ترميم أخرى بعد هذا التاريخ"، مشيراً إلى وقوعه في منطقة جذب سياحي، تتضمن المئات من الكهوف التي سكن فيها الرهبان في عهد الإمبراطورية الرومانية، والتي كانت تحظر الديانة المسيحية في ذلك الوقت؛ حيث كانت تلك الكهوف تستخدم ملاذاً آمناً للرهبان المسيحيين للتخفي عن أعين الجنود الرومان".
اقرأ أيضاً: قرية أثريّة فريدة من 3 أفراد فقط في بيت لحم
ولفت ياسين إلى أنّ "النساء لا يستطيعن التعبّد وأداء الصلوات داخل الدير، ويسمح لهنّ فقط بالوصول إلى مشارف الدير والاطلاع على تصميمه الهندسي الرائع من الخارج، إلا أنّه تمّ تخصيص مبنى مكوّن من خمسة طوابق، يطلق عليه "قصر البنات"، يقع في الجهة الغربية للدير، ويبعد مسافة 100 متر عنه، ويتبع المبنى لدير مار سابا، لكنّه يقع في خارج أسواره، ويسمح للنساء بالمكوث داخله".
اقتحامات المستوطنين
وأبلغ الناطق باسم وزارة السياحة والآثار الفلسطينية جريس قمصية، "حفريات"؛ أنّه "بعد أن أصبحت دولة فلسطين عضواً في منظمة اليونسكو، في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2011، قامت وزارة السياحة والآثار الفلسطينية بوضع عدد من الأماكن الأثرية على اللائحة التمهيدية للمنظمة، وكان من بين تلك المواقع؛ دير مار سابا في بيت لحم".
وأكّد أنّ "المنطقة التي يتواجد بها الدير، الذي يعدّ من أقدم الأديرة المأهولة في العالم، وتعرّضت لاقتحام من قبل مئات من المستوطنين المتطرفين، خلال العام 2018، وذلك أثناء تجمّع مجموعة من المسيحيين للاحتفال بعيد القديس مار سابا"، مبيناً أنّ "المستوطنين لا يفوّتون فرصة للاعتداء على كلّ ما هو فلسطيني، ومن بينها دور العبادة الإسلامية والمسيحية".