لماذا أخفق الفيلسوف العربي؟

لماذا أخفق الفيلسوف العربي؟

لماذا أخفق الفيلسوف العربي؟


03/04/2019

يتناسى كثير من المتباكين على حال الفلسفة والفلاسفة في الوطن العربي الآن، الالتفات لضرورة توفير المتطلّب الأول لإعادة الاعتبار إلى الفلسفة المغلوبة على أمرها. وأعني بهذا المتطلّب امتلاك الجرأة الحقيقية للقيام بكشف حساب دقيق لنقاط الضعف في الخطاب الفلسفي العربي قديماً وحديثاً، وقد أغفلت الإشارة عامداً متعمداً إلى نقاط القوة لأنها على قلّتها، ليست مؤثّرة.

اقرأ أيضاً: الفلسفة كوصفة طبية
ولعل أولى نقاط الضعف تتمثل في تعويم مسمّى الفيلسوف وابتذاله، إلى درجة أنّ كثيراً من المشتغلين في الفلسفة صاروا يسمّون فلاسفة، حتى لو كان حجم اشتغالهم لا يتجاوز حدود المراجعات أو التعليقات أو الشروح. ولا ريب في أنّ هذا التساهل الذي أسهم الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب في ترسيخه، لأسباب تسويقية واستهلاكية بحتة، قد عمل على تآكل مصداقية المسمّى وفقاً للقاعدة الاقتصادية المعروفة (كلّما كثر العرض قلّ الثمن)!

اقرأ أيضاً: لماذا يهاب العرب والمسلمون الفلسفة؟
ومن المؤسف أن يؤدي هذا التعويم الذي يبدو في الظاهر شكلاً من أشكال دعم الخطاب الفلسفي - لكنه في الحقيقة يمثل أبرز أدوات إفراغ هذا الخطاب من محتواه- إلى زهد الفلاسفة الحقيقيين بالإعلام، وانحيازهم لخيار التواصل مع قرّائهم عبر كتبهم، علماً بأنّ عدد الفلاسفة الحقيقيين في الوطن العربي لا يتجاوز العشرة فقط في أحسن تقدير.

أولى نقاط الضعف تتمثل في تعويم مسمّى الفيلسوف وابتذاله، إلى درجة أنّ كثيراً من المشتغلين بالفلسفة صاروا يسمّون فلاسفة

ورغم أنّ الاستطراد لتعريف الفيلسوف يبدو مغرياً جداً، إلا أنني سأغض النظر عامداً متعمداً أيضاً عن هذا التعريف، بغية استكمال الكلام على ما أعتقد بأنه يمثل نقطة الضعف الثانية في الخطاب الفلسفي العربي، وهي تتمثل دون ريب فيما أدعوه الانشداد إلى (السلفية الفلسفية) بإطارها الحضاري العربي وبإطارها الحضاري الإنساني؛ فالفيلسوف العربي ما زال منهمكاً في القضايا الميتافيزيقية والكلامية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، على حساب الاشتباك مع القضايا الواقعية واليومية التي تشغل بال المواطن العربي. ومع ضرورة الاعتراف بأنّ هذا التعميم قابل للنقض جزئياً، في ضوء بعض الجهود المعاصرة والمتناثرة لهذا الفيلسوف أو ذاك، إلا أنّ علينا الاعتراف بأنّ الفلاسفة العرب قديماً وحديثاً، نخبويون وانتقائيون ومنطوون جداً، إلى درجة أنّ قلّة من المثقفين يعرفونهم، فما بالك بالمثقف العام أو القارئ العادي.
وفيما يمكننا إيراد مسرد طويل بالقضايا الواقعية العامة التي انخرط فيها الخطاب الفلسفي الغربي دون تردّد، بدءاً من مسألة السلام العالمي ومقاومة التسلّح، مروراً بسياسات الحياة وتحسين أنماط العيش في ضوء الفورة الاستهلاكية، وليس انتهاءً بالعمل على تأويل سيمياء الرياضة والأزياء والأغاني والمشاعر الافتراضية، فإنّ الخطاب الفلسفي العربي – بوجه عام- ما زال مهجوساً بالإجابة عن أسئلة الفلسفة الأولى، وعن أسئلة علم الكلام الذي سبق لابن خلدون أن قطع بانتفاء الحاجة إليه، فيما راحت العديد من القضايا الواقعية اليومية تتراكم وتتزاحم في المجتمعات العربية، ويتناهب الحديث فيها وعنها نفر من المعلّقين دون طائل. وقد يكون مفيداً التذكير ببعض هذه القضايا مثل: المواطنة، الحرية، الديمقراطية، التعدّدية، الحوار، نمط العيش، القيم والعواطف المستجدة لدى الشباب العربي.

اقرأ أيضاً: الفلسفة الإسلامية: مشروع النسيان والنبذ
أدرك طبعاً أنّ هناك من سيستدرك علي معدّداً عشرات الكتب ومئات الدراسات التي تناولت إشكاليات المواطنة أو الديمقراطية أو التعدّدية في الوطن العربي، وليس أسهل من الرد على هؤلاء المستدركين بالقول: عودوا إلى متون هذه الكتب والدراسات وتأمّلوا التعريفات التي تشتمل عليها، وسوف تستنتجون فوراً حقيقة أنّها تعريفات تعود لفلاسفة غربيين، وهي تُدرج عادة بوصفها اقتراحات قابلة للتطبيق، لكن أيّاً منها غير مطبّق على أرض الواقع العربي. وأما بخصوص التعريفات الفلسفية العربية، فهي علاوة على أنّها نادرة جداً أو خجولة، فإنها ليست موضع إجماع النخبة الفلسفية العربية ذاتها، فما بالك بإجماع المثقفين أو بإجماع القطاعات المؤثرة في المجتمع.

الخطاب الفلسفي العربي ما زال مهجوساً بالإجابة عن أسئلة علم الكلام الذي سبق لابن خلدون أن قطع بانتفاء الحاجة إليه

ونحن نكتب عن الفيلسوف العربي الغائب المنشود، من الضرورة بمكان أن نستحضر بعض النماذج الفلسفية الفاعلة في الغرب من باب المقارنة والقياس؛ فنحن أحوج ما نكون إلى فلاسفة من طراز برتراند رسل وآرنولد توينبي وجان بول سارتر وهربرت ماركيوز الذين لم يسمحوا لاستغراقهم في قضايا الفلسفة المحضة بأن يبعدهم عن قضايا الرأي العام وهموم الناس ونبض الشوارع، فلم يتردّدوا في الاشتباك معها فلسفياً، دون تعال أو عجرفة أو غطرسة. ولولا الخشية من الاتهام بالتناقض مع بعض ما قلته في هذا المقال لأضفتُ: تعلّموا من الجاحظ أيها الفلاسفة العرب، فقد كان زعيم مدرسة فكرية، لكنه مع ذلك لم يتردّد في تحليل ونقد سيكولوجية البخل والبخلاء بوصفها تعبيراً عن أنانية وطفيلية طبقة الأثرياء ومن دار في فلكها من الأفّاقين، فضلاً عن انحيازه التام لإيقاع الحياة الشعبية. وتعلّموا أيضاً من ابن حزم الذي كان أرستقراطياً ووزيراً وفقيهاً ومفكّراً، لكنه مع ذلك لم يتردّد أيضاً في تحليل ظاهرة الحب التي بلغت في عصره مبلغاً خطراً ومقلقاً.

اقرأ أيضاً: أكاديمي مصري يتهم ابن خلدون بأنه "من كبار المنافقين في التاريخ"
إنّ الأسلوب الأنجع لإعادة الاعتبار إلى الفلسفة في الوطن العربي، يتمثل في المقام الأول بالحفر في القضايا الوجودية الساخنة التي تلهب وعي الشباب العربي الذي تُرك نهباً للاتجاهات الخلاصية الطوباوية أو العدمية العبثية. وقد خَصَصْتُ الشباب العربي بهذا الاستهداف المعرفي؛ لأنهم يمثلون الكتلة الحرجة الوحيدة التي يمكن أن تشكِّل – كماً ونوعاً- الرافعة التاريخية للخطاب الفلسفي، ما يعني تلقائياً إعادة النظر في (الدوسيهات السقيمة) التي تقدم لطلبة الجامعات العربية، على اعتبار أنها ملخصات مفيدة للفلسفة! وما يعني أيضاً أنّ دعم المؤسسات الرسمية وغير الرسمية للخطاب الفلسفي، لن يكون مؤثراً، ما لم يبادر الفلاسفة أنفسهم لإحداث تغيير نوعي في متن هذا الخطاب.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية