الفلسفة كوصفة طبية

الفلسفة كوصفة طبية


12/03/2019

صدر مؤخراً للمفكر المغربي، سعيد ناشيد، عن دار التنوير، كتاب جديد اختار له عنواناً معبراً؛ ألا وهو "التداوي بالفلسفة"، وبصرف النظر عن التأويلات المتعجلة التي جعلت من هذا العنوان منفذاً إلى إضفاء صبغة سحرية-دينية على الكتاب، عن طريق التقريب بين "التداوي بالفلسفة" وما يعرف بـ"التداوي بالأعشاب"، وإن كان الكاتب قد تعمد هذه التسمية، في إشارة إلى الدور العلاجي وحتى الخلاصي الذي قد تلعبه الفلسفة، في زمن انهيار كل السرديات الكبرى، الدينية منها والأرضية: مملكة الرب، انتصار البلوريتاريا...، ولا ننسى أنّ كبار الفلاسفة الملاحدة في تاريخ الفلسفة، كانوا قد تعمدوا هذا التقريب، دون أن يُنظر إلى أعمالهم على أنّها تبشير، أو دعوة إلى دين ما. ونيتشه الذي كتب أعظم كتاب نسف فيه العقلية الدينية، جعل له كشخصية رئيسية رسولاً يوزع الحِكَم كما يفعل الأنبياء عادة، لكنها حكم تدعو إلى تقديس الأرض لا السماء.

سعيد ناشيد تعمّد تسمية كتابه "التداوي بالفلسفة" إشارة إلى الدور العلاجي وحتى الخلاصي الذي قد تلعبه

وبالعودة إلى مضمون كتاب ناشيد، الذي يهمنا بالدرجة الأولى، نلاحظ نغمته الرواقية الأصيلة التي تنبني على أمرين أساسين: الأول هو التسليم بأنّ الحياة هي عبارة عن مجموعة من المواقف، منها ما نستطيع التحكم فيه وبالتالي تغييره، ومنها ما يخرج عن نطاق سيطرتنا ولا نملك أمامه سوى القبول، أما الأمر الثاني فيتعلق بالقيام بمجموعة من التمرينات الروحية التي تمنح للفلسفة بُعدها العملي الذي سعت إليه منذ القدم، منها التركيز على الحاضر والرؤية من أعلى. وهذا ما تشهد به مختلف المقولات التي تخترق هذا العمل من أوله إلى آخره، ومنها: "الأهم من الأشياء طريقة تفكيرنا في الأشياء"، "الحكيم من يحكم نفسه"، "أن نعيش الحياة معناه أن نعيش تأويلنا للحياة"...

غير أنّه كان لزاماً على المؤلف أن يؤكد هذا البعد العملي للفلسفة، سواء بالنظر إلى تطور الحضارة التي استفادت من أعمال الفلاسفة والمفكرين، أو بالنظر إلى تجارب شخصية لفلاسفة بعينهم ساعدتهم الفلسفة على تجاوز محنهم الخاصة وظروفهم العصيبة (ابكتيتوس، بوثيوس..). بعد هذا الإجراء الاستدلالي، أصبح بمقدور الكاتب إعطاء الوصفات الفلسفية، الواحدة تلو الأخرى، اعتماداً على مَنْ يسمّيهم بفلاسفة العيش (مونتيين، اسبينوزا، نيتشه..)، وبالتالي يصبح للخوف دواء، وللملل علاج، ولخيبة الأمل ترياق...

اقرأ أيضاً: سعيد ناشيد: الإسلام السياسي دمر مفهوم الوطن بشعارات دينية جياشة
لكن، وبالعودة إلى روح الفلسفة، هل يمكن اختصار الفلسفة في مجموعة من الوصفات؟ ألا يشبه ذلك إلى حد بعيد ما يمارسه دعاة التنمية البشرية؟ وإذا كنا سنأخذ من الفلسفة فقط ما يقوم بتنمية قدرتنا على الحياة، ألا يجعلنا ذلك عرضة لاختيار ما يناسب نزواتنا فحسب؟ ألا يجعل الزهد والانكفاء على الذات فيما يسميه بيير هادو بـ"القلعة الداخلية"، الحياة شبيهة بحياة الرهبان، كما يؤكد لوك فيري نفسه(1)؟ وإذا كان جون بول سارتر، زعيم الفلسفة الوجودية، يؤكد أيضاً أنّ لقب "فيلسوف" يظل هو الآخر محط خلاف، كيف لنا أن نعتبر أنفسنا قادرين على العيش مثل الفلاسفة(2)؟ ألم يجد ميشال فوكو نفسه وهو يدرس موضوع الانهمام بالذات عند القدماء، أكثر قرباً من الفن الحديث منه إلى الفلسفات القديمة(3)؟


هوامش:
(1) Le Figaro Magazine, 2 juillet 2017, Ces sages qui nous aident à vivre.
(2) Lettre de J.P.Sartre à Merleau-Ponty, juillet 1953, in M . Merleau-Ponty, Parcours deux, verdier, 2000, p. 135-137.
(3) Cahiers Philosophiques, n°120/décembre 2009, La philosophie comme manière de vivre, Vivre philosophiquement, Jean-François Balaudé.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية