كيف فشلت الإسلاموية التونسية في الانتقال نحو الديمقراطية؟

كيف فشلت الإسلاموية التونسية في الانتقال نحو الديمقراطية؟

كيف فشلت الإسلاموية التونسية في الانتقال نحو الديمقراطية؟


24/08/2023

تحولت حركة النهضة الإخوانية بتونس بعد 2011 من حركة معارضة محظورة غير معترف بها وملاحقة أمنيّاً إلى حركة تمسك بالسلطة وتتحكم بأجهزة الدولة وترسم سياساتها الداخلية والخارجية، سواء بمفردها أو بمشاركة أحزاب أخرى، وتخدم أجنداتها الخفية بالتوازي مستغلّة في ذلك تواجدها في السلطة، لترسيخ المنهج الإخواني القائم على العنف والإرهاب.

السياسات التي رسختها الحركة منذ 2011، حتى 25 تموز (يوليو) 2021 (تاريخ سقوطها من الحكم) انكشفت لاحقاً تباعاً، وأكدت استحالة انتقالها نحو الديمقراطية التي ادعتها خلال الأعوام الماضية، وهو ما تناولته دراسة حديثة لأستاذة الحضارة التونسية زينب التوجاني، بعنوان "الإسلامويّة التونسيّة والانتقال المستحيل نحو الديمقراطيّة قضيّة “الطواغيت” مثالاً"، المنشورة على موقع مركز "تريندز للبحوث والدراسات".

الدراسة انطلقت من الحكم بالسجن الصادر الشهر الماضي ضد زعيم الإخوان التونسي راشد الغنوشي؛ بسبب ما يُعرف بـ"قضية الطواغيت"، التي تتمثل في دعوى رفعها ضده نقابي أمني على خلفية أقوال ذكرها في شباط (فبراير) 2022، أثناء تأبينه لأحد قياديي حزب النهضة، فرحات عبار، أشاد فيها بشجاعة الفقيد، وبأنّه "لا يخشى حاكماً ولا طاغوتاً".

التاريخ الإيديولوجي للفظة "طاغوت"

أُخذت لفظة "الطاغوت" من القرآن، وقد وردت في (8) آيات: البقرة/42-43. النساء/ 86-88-90. المائدة /118. النحل/ 271. الزمر/460.

وردت هذه الآيات جميعاً في الدعوة إلى التوحيد والإيمان بالله الواحد، واجتناب الشرك، وعدم الخوف من الحكام القائمين، ولهذه الآيات سياقها التاريخي، إذ تؤكد الدراسة على أنّ هذه الآيات لها سياقها التاريخي ومرجعيتها الأنثروبولوجية وظروفها، وهي لا تنطبق بأيّ حال من الأحوال على مجتمعات عرفت الإسلام منذ قرون عديدة، وصارت تحمل الثقافة الإسلامية في ممارساتها وعاداتها وطقوسها وغير ذلك من مظاهر الحياة الاجتماعية.

 تحولت "النهضة" الإخوانية بتونس بعد 2011 من حركة معارضة محظورة إلى حركة تمسك بالسلطة وتتحكم بأجهزة الدولة

وقد أشارت الدراسة إلى شرح الأنثروبولوجي يوسف الصديق في كتابه "هل قرأنا القرآن... أم على قلوب أقفالها؟"، وقد قال حينها: إنّ الطاغوت بالنسبة إليه اسم إله مصري قديم يُسمّى (توت) يضاهي الإله (هرمس) عند اليونان، ولكنّ ذلك المعنى ضاع ولم يبقَ عند المسلمين سوى الدلالات التي نقلها تفسير القرآن، وهي على الأغلب تفسر كلمة طاغوت بإبليس.

ولكنّ تحويل لفظة الطاغوت من سياقها القرآني الخاص بمجتمع الحجاز في القرون الأولى للهجرة إلى دلالة تكفيريّة لمجتمعات إسلاميّة جرى عبر خطاب رموز إسلاموية من بينها سيد قطب.

الطّاغوت والتحول الدلالي

أشارت الدراسة إلى تحول لفظة "طاغوت" لتصبح دالة على كلّ مَن يعطّل مشروع أسلمة المجتمع كما يتصوره الدعاة إلى خلافة دينية، وتتمثل أسس هذه الدعوة في اعتقادهم أنّهم مكلفون باستئصال "الشيطان" وبحربه وبتمكين الإسلام في الأرض، ويعتقدون أنّ تلك المهمة الخلاصية منوطة بهم منذ خلق الله الإنسان، وعلى هذا الأساس الذي فسّر به سيد قطب آيات الاستخلاف في الأرض تمكنت أدبيات الإسلام السياسي من أن تضع خلفية وجودية لمفهوم استئصال الشرّ أو الطواغيت.

وهذا الشرّ يتجسد -بحسب هؤلاء- في قوى التحديث التغريبية التي تعطل مشروع الحداثة الإسلامية التي هي بالنسبة إليهم العودة إلى تطبيق السياسة الشرعية، كما حددها ابن تيمية، والعودة إلى الشريعة والحكم بما أمر الله.

يضطر الغنوشي أو غيره من الدعاة إلى تحريم الاعتداء على الأمن أو المختلفين تحت الضغط مجبَرين، ليحظوا بمباركة القوى التي يسوّقون لها خطاباً على مقاس توقعاتها

وكل محاولة لتعطيل ذلك تُعدّ بالنسبة إلى الإسلامويين طغياناً في الأرض، وكل أعوان هذا الذي يسمونه طغياناً يعتبرونه "طاغوتاً"، وقد أباحوا في بعض نصوصهم وإعلامهم قتال هذا الطاغوت، وتلك الفتوى المطلقة في قتال الشر هي التي تمثل مرجعاً للذئاب المنفردة التي لا تجد حرجاً في القضاء على شرطي يقوم بعمله، أو رجل أمن يحرس مبنى أو جندي يحرس ثكنة أو الهجوم على رموز الدولة من أعوان أو منتمين إلى سلك الأمن.

الأستاذة التونسية لفتت في دراستها إلى أنّ تكفير الدولة الحديثة وكل عمالها ومعاونيها وموظفيها هو الذي يسمح للإسلامويين -مجموعات أو فرادى- بالمرور إلى الفعل لمهاجمة مبنى حكومي أو عون أمن؛ حتى لو كان ذلك الشخص مجرد عامل بسيط يؤدي الفرائض الـ (5) ويتلو القرآن ويحمل عقائد السنّة والجماعة؛ فإنّه في نظر الإسلامويّة جند من جنود الشيطان، يبيحون التخلص منه في إطار استئصال الشر وإقامة الخلافة.

وأشارت إلى أنّ اضطرار الغنوشي أو غيره من الدعاة إلى تحريم الاعتداء على الأمن أو المختلفين، فإنّهم يفعلون ذلك تحت الضغط مجبَرين ليحظوا بمباركة القوى التي يسوّقون لها خطاباً على مقاس توقعاتها، في حين ينشرون لأتباعهم خطاباً مختلفاً تماماً لا يقوم على الأسس نفسها، بل يحمل البذور العميقة للتكفير ويؤسس للعنف.

التحديث التونسي "عمل الطاغوت"

الدراسة التي استندت إلى كتابات راشد الغنوشي التي ما تزال تُطبع إلى اليوم بلا تنقيح ولا تعديل، أكدت أنّ التحديث التونسي انطلق أساساً بتحديث مؤسسة الجيش، وأنّها مؤسسة تغريبيّة وقمعية تمثل خطراً على المسلمين.

أستاذة الحضارة التونسية زينب التوجاني

ويروي الغنوشي في كتاباته تفاصيل خروجه من القومية ومن الإسلام التقليدي إلى ما سمّاه "الدين"، ويعدّ ذلك وحياً إلهيّاً وإلهاماً نزل عليه ذات ليلة فارقة، وهو العنصر الثابت الذي عدّه الغنوشي ميزة تخصه في تكوينه الشخصي وتجعله صاحب اتجاه فكري، لا عضواً تابعاً لأيّ تنظيم موجود سابق له، هو الذي سيتواصل معه وداخل عقيدته ومن خلال خطابه، ليظهر في كل مرة توجه بها بالخطاب إلى أتباعه المخلصين، كالمثال الذي أبّن فيه عضو الحركة بكونه شجاعاً لا يهاب طاغوتاً.

هذا، ولا يُعدّ تأبين الموتى جريمة، ولكنّ الإيحاء بتكفير الشرطة والجيش هو الذي يُعدّ في القانون التونسي عملاً يستحق العقاب، بحسب الدراسة التي  أكدت على أهمية الحفر في تاريخ لفظة "طاغوت"، وخطورة ما تحمله هذه اللفظة من دلالات تبدأ بشق المجتمع شقين: الإخوة الأبطال، والطواغيت الأشرار، أهل الحق وأهل الباطل، وتنتهي بتبرير الصراع والتدافع الاجتماعي بين هذه القوى، وقد تصل إلى تبرير القتل والاغتيال.

خطاب حركة النهضة تغير في ظاهره وممارساته نحو القبول بالواقع وضغطه؛ ولكنّ استخدام ألفاظ حاملة لدلالات تاريخ طويل من العنف تطرح على المجتمع التأني

وتشدّد الدراسة على أنّ فكرة تكفير "الطاغوت"؛ بل إنّ مجرد تسمية أعوان الدولة بكل أنواعهم جند الطاغوت، يؤدي إلى غرس عقيدة داخل الأفراد المنتمين إلى الجماعة، والحاملين لفكر الدولة الدينية وما يُسمّى أهل الحق والتوحيد، ومن هنا فخطورة هذه الأفكار كامنة في أنّها تسوّغ القتل؛ سواء المنظم في الجماعة أو الفرد الذي قد يتأثر من بين هؤلا،ء فيتصرف من تلقاء نفسه موجِّهاً نحو أعوان الدولة انتهاكاً قد يصل إلى الموت.

وأشارت إلى أنّ الإسلام الذي يتحدث عنه الغنوشي ويضعه مقابل إسلام التقاليد ويعدّه الإسلام الصحيح، والإسلام الأصلي، والإسلام الموحى به إليه، هو الذي يحاول أن يدفعه إلى أتباعه لينشروه وليدافعوا عنه وليموتوا لأجله شجعاناً لا يخافون "حاكماً ولا طاغوتاً".

الإسلاموية التونسية ذات الخطاب المزدوج وسقوط القناع

وتعتبر الدراسة أنّ تمجيد تكفير الشرطة وتكفير الحكام المتواصل من خلال خطاب زعيم الحركة الغنوشي لا يمكن عدّه تحولاً حقيقيّاً نحو إسلام ديمقراطي ولا علماني، ولا غير ذلك من التسميات المخادعة.

وتعتبر أنّ التمويه والخلط الذي يتعمده الخطاب الدعوي الإسلاموي حين يتجه إلى خارج دائرته والقائم على الإيحاء بالانتماء إلى حركة الإصلاح العربية من خلال الانتساب إلى فكر مالك بن نبي أو محمد عبده والثعالبي مثلاً تجعل الالتباس قائماً بين التوجه الفكري الإصلاحي السابق للحركات الإسلاموية، وبين الاتجاه الفكري السياسي الإسلاموي الذي اضطرته ظروف الضغط الشديد إلى القبول بالانتماء إلى اتجاه أعلن مفارقته بشكل واضح في لحظات قوته.

الإسلاموية يستحيل أن تتحول إلى الديمقراطية لأنّها تقوم على أصول أنطولوجية يجب تفكيكها حتى يمكن للمرء أن يتحرر منها

وذكّرت زينب التوجاني في دراستها بأنّ الغنوشي يكتب بوضوح كيف كانت لحظة مفارقة الإسلام التقليدي فارقة في حياته، مع العلم أنّ الإسلام التقليدي بالنسبة إليه وبالعودة إلى كتابه نفسه ليس هو الإسلام الزيتوني الذي تلقّاه، ولا هو إسلام العامة من التونسيين في عصره، بل هو تربية دينية صارمة مع والده الذي أجبره على حفظ القرآن وعلى ترديد الأناشيد، وكان له أكثر من زوجة، من دون أن يمثّل ذلك بالنسبة إلى الغنوشي مشكلاً، بل إنّه يكتب عن طفولته تلك بكل حنين إليها، ويعدّها طفولة سعيدة ومميزة بهذا التلقين الديني الصارم من أبيه والمختلف عن أترابه.

استخدام الغنوشي للفظة "الطاغوت" يحمل تاريخاً من العنف الديني الذي يجعل الخطاب الإسلامي وجهاً لوجه أمام مفارقاته الأنطولوجية العميقة

واستنتجت أنّ الإسلام الذي انسلخ عنه الغنوشي ذات ليلة ودخل في إسلام أصلي، هو إسلام متشدد نوعاً ما؛ أي فيه التزام، وبرغم ذلك فإنّ الغنوشي عدّه مزيفاً وغير صحيح، وأمّا الإسلام الصحيح، فهو الذي تعلمه في سوريا بعد أن تلقى معارف ذكر مراجعها بنفسه، فإذا هي ما كتبه آباء الإخوان المسلمين في أفغانستان وباكستان ومصر.

وقد خلصت الدراسة بعد قراءة معمقة في تصريحات الغنوشي وكتاباته وكذلك معتقداته، إلى أنّ حماية المجتمع التونسي من مخاطر الإسلاموية عبر قوانين تجريم التكفير يمثّل أولوية وُقّعت في سياق ما بعد اغتيال الشهيد شكري بلعيد، بعد ضغط شديد من المجتمع المدني والأحزاب المناوئة بوضوح للعنف الديني الذي انتشر في تونس بعد 2011؛ بسبب تحرير الخطاب الديني وانتشار السلفية التكفيرية وانفجار الخطاب وانتشار الاستقطاب للجهاد في سوريا.

 الإسلاموية والتكفير

الدراسة انتهت إلى الاستنتاج أنّ خطاب حركة النهضة اليوم تغير في ظاهره وممارساته نحو القبول بالواقع وضغطه؛ ولكنّ استخدام ألفاظ حاملة لدلالات تاريخ طويل من العنف تطرح على المجتمع التأني في قبول هذه العملية.

ولفتت الدراسة، في السياق، إلى مرجع كتبه الغنوشي تحدث فيه بنفسه عن العداء للتحديث وللعلمانية، ولما يعدّه قوى تغريب آتية من الخارج بقوة لتسلخ المجتمع من قيمه الإسلامية، وكيف أنّه لم يكن يحب طلبة العلم في (الزيتونة)، لأنّهم كانوا وقت الصلاة يدخنون ويضحكون في ساحة الجامع، بينما كان تجار الدكاكين المحاذية يغلقون دكاكينهم للصلاة.

يُذكر أنّ علامات تغير الغنوشي بدأت من خلال استبدال العمامة بالكسوة وربطة العنق، ومن خلال استضافة الفنانات اللواتي كانت حركة النهضة تصفهن بالكاسيات العاريات، فصارت تعتبرهن من جنود الله، لأنّهن يعززن صورة "الإسلام الديمقراطي".

كذلك، اعتبرت الدراسة أنّ الإسلاموية يستحيل أن تتحول إلى الديمقراطية، لأنّها تقوم على أصول أنطولوجية يجب تفكيكها حتى يمكن للمرء أن يتحرر منها، مشيرة إلى أنّ استخدام الغنوشي للفظة "الطاغوت"، وإن كان من دون قصد منه، يحمل تاريخاً من العنف الديني الذي يجعل الخطاب الإسلامي وجهاً لوجه أمام مفارقاته الأنطولوجية العميقة، ويؤكد أنّه يستحيل على الإسلاموية أن تتحول نحو الديمقراطية.

مواضيع ذات صلة:

عن الأخطبوط الإعلامي لحركة النهضة الإخوانية في تونس

معركة تطهير القضاء التونسي من الإخوان... هل نجح سعيد في الاختبار؟

كلما ضاق الخناق لجؤوا إلى الخارج... لمن توجّه إخوان تونس هذه المرة؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية