كان حراماً
ربّما لن تصدق، عزيزي القارئ، أنّ العديد من الفقهاء في مصر، حين زيّنت القاهرة للمرة الأولى بفوانيس تضيء للسائرين في الشوارع ليلاً طريقهم، في القرون الوسطى، ندّدوا وشجبوا هذا الأمر، وعدّوه مخالفاً للإسلام وتعاليم الدين، وأنّه محض بدعة، وربّما لن تستسيغ أنّ الفقهاء قد حرّموا دخول آلة الطباعة للعالم الإسلامي، لأكثر من قرنين منذ اختراعها، بدعوى أنّها قد تساهم في تحريف القرآن الكريم، ومن ثم عدّوا استخدامها "كفرا"ً، وإذا كنت قد وضعت بجوارك فنجاناً من القهوة لترتشفه وأنت تقرأ هذا المقال، ربما ستندهش إذا عرفت أنّك كنت لتصبح ملاحقاً قبل قرون قليلة، لو كنت تضع القهوة إلى جانبك؛ لأنّ العديد من الفقهاء الرسميين كانوا قد حرّموها حينها، بدعوى أنّها أشدّ سوءاً من الخمر، إلى أن جاء المفتي الجديد للسلطنة العثمانية، في عهد السلطان مراد الثالث، ليفتي بجواز شرب القهوة، وأنّها حلال شرعاً.
كنت ستلاحق قبل قرون قليلة، لو كنت تضع القهوة جانبك؛ لأنّ العديد من الفقهاء قد حرّموها حينها
على المنوال نفسه؛ في حياتك المعاصرة الآن، ربما تشاهد العديد من الحرفيين والفنانين المسلمين الذين يرسمون صوراً كاملة لرجال ونساء، أو ينحتون تماثيل على هذه الشاكلة، دون أن يتسبب ذلك لهم في أيّة مشكلة، لكن، ومنذ قرون غير بعيدة، كان هذا العمل محرّماً تماماً، وربما يعرّض صاحبه لأشد العقوبات؛ حيث كان الرأي الفقهي قاطعاً في مثل هذه الأمور، ومحرِّماً لرسم، أو نحت، مخلوقات بشرية.
ربّما تظن أنّ تلك الرقابة التي وضعت على الإبداع الفني للفنان المسلم في العصور الوسطى، قد عرقلت قدراته الإبداعية، أو جعلته جامداً، وغير قادر على تقديم فنٍّ ينافس فنون أبناء الحضارات المختلفة في زمانه، لكن ما سنكتشفه في هذا التقرير؛ أنّ الفنان المسلم قد جعل من المحاذير الفقهية الرقابية عليه، بوابة سحرية للولوج إلى سماء مختلفة من سماوات الإبداع، سينبهر فيما بعد مؤرخو الفنّ بنتاجها.
الرقابة الدينية المسيحية أيضاً عرفت القيود على الفنّ
"إنّ الرسم للأميين مثل الكتابة للقراء" *الأب جريجوي الكبير في القرن السادس الميلادي
يتّضح من هذا التعبير للأب جريجوي، كيف كانت النظرة السائدة للفن في العالم المسيحي، وهي النظرة التي امتدت كثيراً، ربّما حتى قدوم عصر النهضة، إنّ الفنّ واللوحات، في نظر الأب جريجوي، كانت الوسيلة التعليمية الأمثل لحفظ التراث الديني، في ظلّ تفشي الأمية بين أعضاء الكنيسة.
كانت الرقابة تطلّ برأسها خانقة للإبداع، فكان لزاماً على الفنان المسيحي أن يلتزم بالتقاليد الصارمة في الرسم
ومن حيث احتضنت الكنائس والمؤسسة الدينية الرسمية الفنّ، كانت الرقابة تطلّ برأسها خانقة للإبداع، فكان لزاماً على الفنان المسيحي أن يلتزم بالتقاليد الصارمة في الرسم، وبات الهدف الأساسي من الفنّ هو ترسيخ التراث، وما يعد جوهرياً فيه، ومن ثمّ كان القمع للانفتاح على الهوامش والإبداع، فالفنّ الذي اعترفت به الكنيسة واحتضنته، كان محدداً جداً، وذا غاية واحدة، هي رواية القصة الدينية بشكل مباشر وسلس، ليسهل على الأميين من أعضاء الكنيسة تعلمها، ومن ثمّ حذف كلّ ما هو هامشي أو إبداعي، أو خارج عن الصندوق المعتاد؛ لأنّه سيصرف النظر عن الهدف المباشر المقدس.
إنّ الكنيسة، في السائد، كانت تنظر للفنّ مع تطور الأعوام، باعتباره انعكاساً للعالم السماوي المكتسي بالغموض، ومن ثم لم يكن مسموحاً للفن أن يتبع إبداعه في رسم الصور المقدسة، إنّما كان عليه أن يتبع تماماً نماذج الأيقونات المقدسة بهالة القدم والتقليد.
كيف خلق الفنان المسلم من رحم المحاذير إبداعه؟
عادةً، حين يؤرخ المؤرخون الغربيون لتاريخ الفنّ، يتناسون، إلى حدٍّ كبير، كلّ ما هو ليس أوروبياً في القصة، فيظهر الأمر وكأنّ قصة الفن هي قصة أوروبية مسيحية بامتياز، ويصير من ثم تاريخ الفنّ هو تاريخ أوروبا، وأوروبا فقط، لكنّ هذا الفخّ لم يسقط فيه المؤرخ الكير إرنست غومبريتش، حين حكى حكاية الفنّ وتاريخه، في مجلده الضخم المرجعي "قصة الفن"، فرغم أنّ المرجع الضخم هو، في الأساس، تأريخ لقصة الفنّ في العالم المسيحي الأوروبي، لكن تخلّل هذا السفر الكبير إشارات واضحة لقصة الفنّ في العالم الإسلامي، باعتبار حلقة الفنّ في عالم الإسلام، ليس منفصلاً بحال عن قصة الفنّ الكبرى، وتطوره سردياً.
حول الفنان المسلم هذا المنع لإبداع أكبر حيث اتسع خيال الحرفيين المسلمين للتلاعب بالأشكال والتصاميم
لغومبريتش نظرية شديدة الأهمية والاختلاف في هذا السياق؛ فهو يدين لكلّ الإبداع الفني الذي ظهر في العالم الإسلامي، وعلى أيدي الفنانين المسلمين، لنبي الإسلام محمد، فهو، من وجهة نظره، الرجل الذي فتح الباب لكل هذا الإبداع؛ حين صرف انتباه الفنان بأحكام الإسلام في هذا الصدد، عن أشياء الواقع، إلى عالم بديع من خيال الخطوط والألوان.
يرى غومبريتش هذا الأمر جلياً في إبداعات ساحات قصر الحمراء وقاعاته، فضلاً عن السجاد الشرقي البديع الذي عرفه العالم بأكمله، وأعمال "الأرابيسك" الدقيقة.
من وجهة النظر هذه، وبعيداً عن تجويز العديد من الطوائف الإسلامية فيما بعد، وفي العصور الوسطى، رسم الصور، والتوسع في الإبداع الفني، فإنّه حتى في أقصى مراحل الالتزام بالرأي الفقهي السائد حينذاك، المتعلق بتحريم الصور، حول الفنان المسلم هذا المنع إلى مفتاح لإبداع أكبر، فحين منعت الأيدي من تجسيد الصور، فتح باب خيال الحرفيين المسلمين للتلاعب بالأشكال والتصاميم، بشكل ما يزال يسرّ الناظرين في قصر الحمراء، وغيره من الآثار الإسلامية حتى اليوم، وبشكل جعل المؤرخ الكبير غومبريتش غير قادر على كتابة قصة الفنّ، دون أن يذكر قصة الفن الإسلامي، ولو بشكل غير متوسّع.