قبل محاولة محمد علي للنهوض بمصر والاستقلال بها عن الحكم العثماني، مطلع القرن التاسع عشر، كان هناك زعيم مملوكي آخر قد حاول قبله بسنوات القيام بالمحاولة ذاتها، وامتدّ طموحه ليشمل بلاداً عربية أخرى، وهو علي بك الكبير، فكيف بدأت محاولته؟ وكيف كانت النهاية؟
من سوق الرقيق إلى منصب الزعامة
ولد علي بك لأسرة مسيحية أرثوذكسية في منطقة مينغريليا غربي بلاد الكرج (جورجيا)، عام 1728م، وكما كان منتشراً في حينه، كان يتم اختطاف الفتية الصغار من أنحاء الدولة ويتم جلبهم لبيعهم في المدن كرقيق، وهذا ما كان مع علي، حين خُطف وبيع بحدود عام 1743م، وكان عمره خمسة عشر عاماً، أمّا مكان بيعه، فكان القاهرة في مصر.
في القاهرة اشتراه زعيم مملوكيّ برز في زمانه، وهو إبراهيم كتخدا، فسمّاه عليّاً، وبدأ بتدريبه وتعليمه تقاليد الفرسان المماليك وعاداتهم، حتى صار فارساً مملوكياً، وبدأ بالترقي التدريجي على سلّم الفروسيّة والقيادة المملوكي، إلى أن تسنّى له الوصول إلى المنصب المملوكي الأعلى، منصب شيخ البلد، عام 1760م. وكان هذا المنصب بمثابة المنصب الموازي لمنصب الوالي العثماني في مصر، وكان صاحبه يمثل القوة والحكم الفعلي للديار المصرية.
انتهاز الفرصة... ولحظة إعلان الاستقلال
عمل علي بك على ترسيخ نفوذه على مستوى مصر، وبعد نحو 8 سنوات، وفي عام 1768م، اندلعت الحرب بين الدولة العثمانية وروسيا، وهنا سعى علي بك لاستغلال لحظة انشغال جيوش الدولة العثمانية في الحرب، وأعلن عزل الوالي العثماني على مصر، راقم محمد باشا، ومنع قدوم أيّ والٍ جديد يتم إرساله من قبل الأستانة. ومن ثمّ أعلن التوقف عن إرسال أموال الضرائب المقرر إرسالها سنوياً من مصر، ما اعتبر تمرداً صريحاً على سلطة الباب العالي. وجاء الإعلان الصريح عن الاستقلال مع قرار ضرب عملات معدنيّة تحمل اسمه.
في مواجهة ثورة الصعيد
وخلال سنوات سيطرته على مصر لم يأتِ التحدي الأكبر من الخارج، بسبب انشغال الجيوش العثمانية، وإنما جاء من داخل مصر، وتحديداً من جهة الصعيد جنوباً، وذلك عندما قام شيخ العرب همام باستغلال حالة الارتباك وغياب الحكم العثماني، وأعلن الاستقلال وإقامة دولة مستقلّة خاصة بجهة الصعيد، بعد تشكيله تحالفاً وقوّات عسكرية جمعت القبائل العربيّة مع قبيلة الهوارة إلى جانب المماليك الفارين من حكم علي بك. وفي عام 1769م وقعت المعركة بين قوّات كلٍّ من الزعيمين، وكانت الغلبة في البداية لقوّات الصعيد، قبل أن يتمكن محمد بك أبو الدهب، قائد جيش علي بك، من استمالة إسماعيل الهواري، قائد القوّات الصعيدية، ودفعه للانقلاب على همام وخيانته. وبذلك دخلت قوّات علي بك الكبير فرشوط، عاصمة شيخ العرب همام، الذي فرّ إلى النوبة وتوفي في الطريق. وبهذا الانتصار تمكن علي بك الكبير من تثبيت أركان حكمه في كامل مصر، بوجهيها: القبليّ، والبحريّ.
السيطرة على الحجاز
بعد استقرار الحكم له في مصر، بدأ علي بك بالتطلع للتوسع خارج مصر. وكانت الجغرافيا وطُرُق التجارة والحج تحتم التوجه شرقاً، نحو الحجاز والشام. وبالفعل، وفي عام 1770م، أعدّ حملة عسكرية للسيطرة على الحجاز، منتهزاً الصراع الذي دار في حينه بين الشريفين عبد الله بن سعيد وأحمد بن سعيد الهاشميين، على تولي منصب الإمارة في مكة، فتدخل لصالح الشريف عبد الله، وأرسل حملة بقيادة محمد بك أبو الدهب، والذي كان بمثابة ذراعه اليمنى والقائد الأعلى لقوّاته، ونجحت الحملة في مهمتها، ونودي بعلي بك في الحرمين الشريفين سلطاناً على مصر والحجاز.
الحملة على بلاد الشام
وبعد نجاح الحملة على الحجاز، تشجع علي بك لتوجيه حملة كبرى، قوامها 40 ألف مقاتل، باتجاه بلاد الشام شمالاً، وهو ما كان في العام التالي، 1771م، وجاء تسيير الحملة في حينه متزامناً مع دعوة ظاهر العمر، الذي كان يخوض حرباً في بلاد الشام ضد الجيش والأسطول العثماني، إذ جرت مراسلات بينهما لتنسيق الجهود وتوحيدها في مواجهة الدولة العثمانية.
استغلّ علي بك انشغال جيوش الدولة العثمانية في الحرب مع روسيا وأعلن عزل الوالي العثماني
وأثناء إعداد الحملة أعلن علي بك أنّ السبب من وراء إرسالها هو قيام عثمان باشا الجورجي، والي دمشق العثماني، بإيواء خصوم علي بك من المماليك وإعدادهم للإغارة على مصر، وأنّ الجورجي والٍ ظالم ومتجبّر، يحكم ولاية دمشق بالجَور والبطش، وأنه قادم لإنجاد الأهالي وتخليصهم من حكمه.
انطلقت الحملة بقيادة أبو الدهب في أيار (مايو) 1771م، وتمكّنت فور انطلاقها من الاستيلاء على غزّة والرملة، ومن ثمّ توجهت نحو القدس التي قام حاكمها وأعيانها بالترحيب بالحملة المصرية والتسليم لها. ومن ثمّ اتحدت قوّات أبو الدهب مع قوات ظاهر العمر، ووقعت المواجهة الكبرى مع القوّات العثمانية، بقيادة عثمان باشا الجورجي، شمال صفد، في الثالث من حزيران (يونيو) عام 1771م، وكانت النتيجة هزيمة العثماني وتقدّم أبو الدهب حتى وصوله دمشق، ودخل أبواب دمشق معلناً السيطرة على المدينة وإخضاعها لحكم علي بك الكبير. وكانت السيطرة على دمشق مفاجأة كبرى هزّت أركان الدولة العثمانية. واعتبرت انتصارات علي بك الكبير بمثابة استعادة للدولة المملوكية بعد قضاء العثمانيين عليها قبل نحو قرنين ونصف، عام 1517م.
انقلاب مفاجئ
وبينما كانت شوارع القاهرة تتزين احتفالاً بالنصر، جاءت المفاجأة مع قرار أبو الدهب مغادرة دمشق بعد أقل من أسبوعين على دخولها، وتوجهه بقوّاته عائداً إلى مصر، ولم يُعرف السبب في حينه لخطوة أبو الدهب المفاجئة، لكنّ الراجح أنه قد أعاد حساباته، وأنه تمّت استمالته من قبل العثمانيين، واعدين إياه بمنحه حكم مصر إن تمكن من القضاء على علي بك الكبير.
استذكرت الوطنية المصرية المعاصرة علي بك الكبير، ووضعت له مكاناً مهمّاً ضمن سرديتها
وبالفعل، عاد أبو الدهب بجميع القوّات المصرية، ووقعت بينه وبين علي بك معركة في عام 1772م، كانت الغلبة فيها لأبو الدهب، ومن ثمّ بدأ بحشد المماليك ضد علي بك، فما كان من علي بك إلا أن فرّ باتجاه الشام، سعياً منه إلى الالتجاء لحليفه ظاهر العمر، إلّا أنّ أبو الدهب أسرع بالتحرك، ونصب كميناً له في العريش قبل وصوله إلى غزة وتمكّن من أسره. ونصّب أبو الدهب نفسه شيخاً للبلد في مصر، ومن ثمّ اتصل بالباب العالي وعرض إعادة مصر إلى الحكم العثماني، مقابل تعيينه والياً على مصر، وهو ما تمّ له بفرمان سلطاني صدر في عام 1773م، أنعم عليه بالولاية ولقب الباشويّة.
وفي أيار (مايو) من العام التالي، عام 1773م، توفي علي بك الكبير وهو في سجنه. وبعد نحو ثلاثة عقود، وفي أعقاب الحملة الفرنسية على مصر، انبرى قائد جديد ليكرّر تجربة علي بك الكبير بالاستقلال بمصر، وكان هو الألباني محمد علي باشا. وقد استذكرت الوطنية المصرية المعاصرة علي بك الكبير ووضعت له مكاناً مهمّاً ضمن سرديتها؛ إذ اعتُبر أول من استقلّ بمصر عن الخلافة العثمانية، وكان أمير الشعراء أحمد شوقي قد أنجز أول عمل فني تناول سيرته، وذلك على شكل مسرحية شعرية، وبعد ذلك تعاقبت الأعمال الأدبية والدرامية التي تناولت سيرة حياة القائد ومحاولته للاستقلال بمصر.