كرامات آل البيت في مصر مدد بلا عدد

كرامات آل البيت في مصر مدد بلا عدد

كرامات آل البيت في مصر مدد بلا عدد


17/10/2023

بركات آل البيت، وطلب المدد والاعتقاد في الأولياء والقديسين، تُعدّ معتقداً راسخاً في العقل الجمعي، وربما يعتقد البعض أنّ التبرك بالأولياء وآل البيت له بُعد طبقي، وأنّه يقتصر على البنية التحتية من المجتمعات فقط، لكنّ هذه نظرة ربما تتسم بالسطحية؛ فالمعتقد الشعبي في واقع الأمر لا تقيده تلك الأبعاد الاجتماعية الطبقية، أو مستوى التعليم. على العكس هذه المعتقدات تعتمد في أساسها على أبعاد روحية وسيكولوجية، حيث يلتمس الإنسان العون عن طريق هذا الوسيط الروحاني، وربما لشيوع الكرامات دور في اللجوء للأولياء والقديسين، باعتباره درباً من دروب البحث عن العلاج والحل.

يعرّف الدكتور محمد الجوهري مفهوم "الأولياء" بأنّه مصطلح يُشير إلى تلك الفئة من الشخصيات الدينية، التي تحظى بتكريم خاص من جانب الناس، ولكنّها لا تنتمي بطبيعة الحال إلى فئة الأنبياء أو غيرهم من الشخصيات المقدّسة، وقد ترسخ في الاعتقاد الشعبي فكرة أنّ الأولياء هم الوساطة بين الإنسان وخالقه، كما يعترف المعتقد الشعبي أنّ للأولياء سلطاناً لا حدود له، ويضفي عليهم بعض الخوارق والمعجزات. والاعتقاد في الأولياء يشغل مساحة كبرى لدى الجماعات الشعبية؛ فالأولياء يجسّدون أحلام وآلام هذه الجماعات في مختلف العصور.

المعتقد الشعبي في واقع الأمر لا تقيده الأبعاد الاجتماعية الطبقية، أو مستوى التعليم، على العكس هذه المعتقدات تعتمد في أساسها على أبعاد روحية وسيكولوجية، حيث يلتمس الإنسان العون عن طريق هذا الوسيط الروحاني

والمجتمعات الصوفية المصرية تمثل فصيلاً اجتماعياً وثقافياً ودينياً له شعبية كبيرة، ويؤثر بشكل واضح على الفكر الديني الشعبي، خاصّة في دعوتها إلى عالم أولياء الله الصالحين، سواء أكان هذا الولي مصرياً أم وافداً ومات ودفن في أرض مصر، وهذا التقديس يحمل في طياته عبق النبوة، والحنين إلى المرشد والدليل، صاحب الدعوة والكرامة، العارف بالله وطرقه.

ومن هنا، كان آل البيت في قمّة هرم البركات، وخاصّة أنّ التاريخ يؤكد وجود هذه الشخصيات المباركة في أرض مصر، مثل: السيدة نفيسة، والسيدة زينب، والسيدة عائشة، والحُسين ـ رضي الله عنهم وأرضاهم ـ. ويليهم مباشرة الأولياء؛ مثل السيد البدوي، وأبي الحجاج الأقصري، وغيره من الأولياء وأصحاب الكرامات في كل المحافظات، بل يصل الأمر في بعض القرى أنّ هناك عدة شخصيات لها مقامات، تُقام من أجلها الموالد والاحتفالات، وتمثل خصوصية لتلك المنطقة، كما هو الحال في جنوب مصر (الصعيد)، في قنا ودندرة، حيث تكثر الاحتفالات والموالد بشخصيات لها بركات وأهمية روحية كبرى لدى هذا المجتمع، والمُلاحظ أنّ الأضرحة، خاصّة في الأماكن الريفية التقليدية والجنوب، تتسم بطابع خاص في البناء، يغلب عليه البساطة، وذلك على خلاف المساجد الكُبرى المخصصة لأهل البيت ـ رضي الله عنهم ـ.

مظاهر الفنون والإبداع داخل الاحتفالية الصوفية

لا بدّ أن نتأمل مظاهر الاحتفال بالموالد والعادات، وأيضاً لا يمكننا أن نغفل عن النصوص الأدبية الروحية، سواء أكانت شعبية بلهجة دارجة أم بالفصحى؛ كأغاني المديح والتصوف. فهذه الاحتفاليات يتخللها الإيقاع باستخدام الدفوف والطار والطبل البلدي، ونجد محترفين في الرقص والعزف بالطورة، وهي تشبه الصاجات النحاسية، ولكنّها كبيرة الحجم، ولها عدة مقاسات، ولكل مقاس منها تون خاص، وتستخدم دائماً في الحضرة والجلسات الصوفية، ويعزفها بشكل خاص وأساسي الرجال.

والأرغول آله موسيقية لها حضور أيضاً داخل الاحتفال، وحديثاً نرى الـ (كمان)، كنوع من الحداثة داخل الاحتفال، ولكنّ الآلة الشعبية الوترية الأساسية هي الربابة.

ونجد أثناء الحضرة الصوفية راقص التنورة والمولوية، وهنالك فرق بينهما؛ حيث إنّ الأول راقص التنورة (المصري) يتميز بالزي الملون والمبهج، ويعتمد على العديد من الحركات الاستعراضية، فهو استعراض أكثر منه حاله دينية روحية، وأمّا المولوية؛ فهي رقصة تجلٍّ أصلها عثماني، وهذه الرقصة لها حالة روحانية وقواعد وإشارات باليد والرأس، ويقوم الدرويش بالتمركز في المنتصف، ويدور حوله الراقصون، الذين يستمرون في الدوران حتى الوصول إلى النشوة الروحية؛ فهي بمثابة صلاة.

 أمّا عن حلقات الذكر؛ فهناك الأداء الحركي المتعارف عليه، وهو أن يقف الرجال ويقومون بحركات هزّ الرأس يميناً ويساراً ببطء، ثم تزداد السرعة تدريجياً، وهذا الأداء أيضاً يُعبّر عن تواصل روحي وانفصال عن الوعي، والوصول عبر اللّا وعي إلى عوالم آخرى، والجدير بالذكر أنّ العديد من المستشرقين قاموا برصد كل ما يتعلق بالاحتفال وحلقات الحضرة والذكر، مثل: كتاب إدوارد وليم لين.

المجتمعات الصوفية المصرية تمثل فصيلاً اجتماعياً وثقافياً ودينياً له شعبية كبيرة، ويؤثر بشكل واضح على الفكر الديني الشعبي، خاصّة في دعوتها إلى عالم أولياء الله الصالحين

ولم يغفل كتاب وصف مصر هذا الأمر، وتناوله المبحث الثامن تحت عنوان: "حفلات زفة المولد"؛ ولأهميته سأورد بإيجاز شديد ما ذكره المؤرخون والمستشرقون الفرنسيون عن هذه الاحتفالية.

 يفتتح هذا الفصل بالحديث عن (مولد ستّي زينب)، هكذا ورد في الكتاب حرفياً، وهي من أكثر شيخات (أولياء) المسلمين قداسة.

ويصف الكتاب زفة المولد، وما يتبعها من تواشيح ومريدين، وهم عبارة عن حشد هائل من الطرق الصوفية والفقراء. وذكر الكتاب العديد من الطرق مثل: العلوانية، والرفاعية، والشناوية، والقاسمية، والبرهامية. وذكر المبحث الآلات المستخدمة؛ وهي: طبول (نقرزان) طبول الباز ـ طبلة المسحراتي، والدفوف، ودفّ البندير. وعن الرقص في حلقات الذكر، جاء وصف لحركة الرأس كما ذكرنا سلفاً، بطيئة ثم تتسارع.

ويذكر في المبحث التاسع وصف لحلقة الذكر على الطريقة السمانية، وهو ذكر يؤدَّى بالقرب من الإمام الشافعي، ويستمر لمدة (4) أيام، من 8 محرّم إلى 12محرّم، ويستغرق ساعة إلّا ربع الساعة.

هذا ما جاء في كتاب وصف مصر عن الاحتفالات قديماً، ونلاحظ أنّ بنية التدين الشعبي ما تزال تحتفظ بالطقوس نفسها، ولكن ما يمكن أن نرصده من تغير، هو فيما يخص العادات التي كانت تتم أثناء المولد؛ فقديماً كان هناك (المزيّن)، وكان يتم ختان الذكور في المولد، وكان هناك رقص للغوازي، ربما موجود حتى الآن، ولكن بصورة نادرة، ويصاحب الغوازي البهلوانات والقرداتي، وهي مهنة اندثرت أيضاً.

ومن المظاهر التي ما تزال راسخة لا تتغير، نذكر على سبيل المثال عادات الطعام في المولد، وقبله بأيام يحضر المريدون من جميع المحافظات، وربما من بلاد خارج الإطار الجغرافي لمصر، لحضور المولد وأخذ البركة والنظرة، ومن هنا نرى الطعام بكثرة وبكميات كبيرة جداً؛ لإطعام الغني والفقير، ويحضرني في هذا السياق المثل الشعبي القائل: "خرجت من المولد بلا حُمُّص"؛ فسياق هذا المثل الأصلي خاص بالمولد، والحُمُّص الذي يتواجد بكثرة أثناء هذا الاحتفال، ولكن مع الاستخدام أصبح له مدلولات آخرى.

الطبّ الشعبي عند أولياء الله الصالحين

هناك شواهد ميدانية تؤكد أنّ بعض خُدّام أضرحة الأولياء ابتدعوا لأنفسهم أسلوباً خاصّاً في العلاج، وهو أن ينصح المريض بأن يعطيه في ليلة الجمعة شيئاً من متعلقاته؛ كقطعة ملابس مثلاً، والباقي على خادم الضريح، حيث يتولي هو الأمر واضعاً تلك الملابس أعلى مقصورة الضريح حتى صلاة الجمعة، وبعدها يسلم الشيء لصاحبه، ويتلقى الأجر، ويطلب من المريض أن يرتدي هذه الملابس؛ "وببركة صاحب المقام يتحقق الشفاء".

هذا الدور العلاجي لبعض خدم الأضرحة، لو تأملناه جيداً؛ فسنجده عادة قديمة والكثير سمع عنها، وربما لجأ إليها أيضاً، وهذا الدور العلاجي ينطوي على دلالات عميقة؛ فهو ليس مجرد وسيلة ينتفع بها هؤلاء وتكون باب رزق جديد لهم، وإنّما هي حقيقة الأمر  تتجاوز ذلك، وتتعلق بأوضاع المعتقدات الشعبية بوجه عام، ومظاهر الاعتقاد في كرامات ومدد الأولياء بوجه خاص.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية