كاتب جزائري يبشّر عبر "حفريات" بمستقبل الرواية البوليسية العربية

كاتب جزائري يبشّر عبر "حفريات" بمستقبل الرواية البوليسية العربية


30/11/2020

أجرى الحوار: كامـل الشيرازي  

يطرح الكاتب والأديب الجزائريّ، امحمد بن ديدة، رؤى مغايرة بشأن "معضلة" الرواية البوليسيّة العربيّة، وما يتصل بها من إشكالات.

 وفي حوار خاص بـ"حفريات"، يؤكّد بن ديدة على حاجة القارئ العربي إلى النصّ البوليسي، في ظلّ ما يتردّد عن "عدم وجود نصّ بوليسيّ عربيّ متكامل".

النقّاد يصنّفون نصّ غسان كنفاني "الشيء الآخر" على أنّه أوّل نصّ بوليسيّ، حيث نشر عام 1966، بعنوان "من قتل ليلى الحايك؟"

ودعا بن ديدة النقّاد العرب أن يجدّدوا من بعض أدواتهم النّقدية، لا أن يعتبروا النصّ البوليسيّ موجوداً في الأساس لغرض التسلية، وأنّه أدب موجّه للمراهقين، وهذه هي المعضلة الجوهريّة؛ فالكتابة الرّوائية العربيّة متبجّحة بالدافع القوميّ، أو هي كتابة مكرّسة لقارئ، إن وجد أساساً، عن قضايا البوح والمرأة ومشكلات الجنس على أنّه "الطابو" الأبدي.

هنا تفاصيل الحوار:

أضحى جنس الرّواية البوليسيّة العربيّة، أو بالأحرى المكتوبة باللغة العربيّة، في ظلّ مقارنته بالأجناس الأدبيّة الأخرى، يُشكّل هاجساً كبيراً لدى النقّاد، خاصّة في الآونة الأخيرة، على سبيل المثال؛ ما نشرته في محور كامل من عدة مقالات للنقّاد مجلة "الجديد" الصادرة في لندن، في عددها "51"، شهر نيسان (أبريل) 2019؛ فهل أشرقت شمس الأدب البوليسي العربي فعلياً؟

اطّلعت على الكثير من تلك التشاؤمية النقديّة الجادّة حول ظاهرة انعدام النصّ الروائيّ البوليسيّ العربيّ (الذي يمكن أن يقال عنه رواية بوليسية متكاملة)، وذاك عجّل لديّ كتابة النص الرّوائي البوليسي على مَرّ سنوات مضت.

اقرأ أيضاً: رواية "حلم": الرغبات السرية المدفونة في المخيلة

وأذكر قول الناقد السوداني، أمير تاج السرّ، في حوار نشر عام 2012: "الرّواية البوليسيّة لن تكون من بين أجناس الكتابة العربيّة الشائعة في أيّ يوم من الأيام، وأيّة محاولة لكتابتها بأدوات فقيرة ومخيلة غير معدّة جيّداً ستكون مغامرة تبعد القارئ"؛ هذه المقولة جعلتني أقتحم غمار كتابة النصّ البوليسيّ بشكل جادّ وعارف بالخطوط الأساسيّة والتفاصيل الدقيقة لتأثيث رواية بوليسية، عام 2013، رغم أنّ أولى الباكورات لي بكتابة النصّ البوليسيّ كانت قبل ذلك بسنوات، واهتماماتي بقراءة ودراسة الرّواية البوليسية العالمية والخامات العربية الأولى لها، ومشاهدة الأفلام البوليسية،كان ذلك كلّه في حداثة مراهقتي بعوالم الأدب، وعلى مدى أكثر من عشرين عاماً إلى اليوم.

ماذا بشأن تأثيثك للرواية البوليسيّة وتصنيعك للتجريب؟

بدأتُ في التأثيث لنصّ بوليسيّ يخصّني في محاولة للتجديد وصناعة التجريب عام 2008، برواية عن الجاسوسيّة، تحمل العنوان "تعاليم الشيطان في زمن الزئبق الأحمر"، وهي اليوم قيد النشر، بعنوان "جواسيس الزئبق الأحمر"، تنشر اليوم بعد مضيّ اثنا عشر عاماً، وخلال هذه المدّة كنت أعود إلى خامة النصّ لأنقّحها أكثر، والتي تعدّ اليوم الجزء الثاني من السلسلة البوليسيّة التي أكتبها بعنوانها الكبير "في كتاب لا يقرأ إلا في الظلام"، جزءها الأول كان "عبث الجمجمة"، وكنتُ حينها كثير المطالعة للدراسات النقدية التي كتبت عن الأدب البوليسيّ وأساسيات الكتابة فيه، رغم قلّتها الفظيعة في المكتبة العربيّة، وغالبيّتها دراسات عامّة عن الرّواية تخصّص جزءاً صغيراً لحقل الرّواية البوليسيّة، إلّا أنني كنت أبحث فيما كتب باللغتين الفرنسية والإنجليزية عن الدراسات المتخصصة في الأدب البوليسيّ، ولعلّني اصطدمت بجدار التقعيد حينها، الذي يقول لك: "أكتب هكذا ولا تكتب هكذا".

دعا بن ديدة النقّاد العرب أن يجدّدوا من بعض أدواتهم النّقدية

وفي تلك المرحلة قرّرتُ أن أكتب نصّاً بوليسياً يميّزني؛ لأنّ النقّاد عادة ما يلقون الأحكام على النصوص الرّوائية البوليسية لتمييز الغثّ منها والسّمين، بحسب قواعد "فان دين" 1923، التي تكاد تكون دستور كتابة الرّواية البوليسية؛ والتي يعتمدها أغلب الكتّاب البوليسيّين، تنصُّ على أنّ الرّواية البوليسية لا يجب أن تتضمّن أيّ لغز غراميّ؛ لأنّ ذلك يُشتّت تركيز القارئ في تتبّع اللغز البوليسيّ، ويؤثّر في العناصر الأخرى للكتابة، كما أنّه يجب وضع شخصية مجرم متميّزة من طبقة عالية؛ كأن يكون عالماً متميّزاً، أو سياسياً بارزاً، ولا يجب أن يكون من عامة الناس؛ لأنّ ذلك يؤثر على عنصر التشويق، وأن تأخذ شخصية المجرم حيزاً كبيراً من الأحداث، وألّا يتعدّد المجرمون في لغز بوليسيّ واحد، لأنّ ذلك يشتّت اهتمام القارئ، وألّا يكون هنالك أكثر من محقّق واحد يتتبّع اللغز والحلّ ومطاردة المجرم، ولا يكون المجرم من فئة الشرطة؛ لأنّ ذلك يسيء إلى سمعة المهنة، كما أنه يجب وجود جثة قتيل في خضمّ الأحداث البوليسيّة، وكلّما كثر عدد الجثث كان ذلك مشوّقاً؛ لأنّه يتيح عامل الرّعب المثير.

عقبات كثيرة تعيق تقدم الرّواية البوليسية العربية، من أهمها؛ معضلة القارئ العربيّ، فهو ما يزال رضيعاً، يخشى هضم الأطعمة المعقّدة للكتابة الحديثة

أما حلّ اللّغز فيجب أن يكون منطقياً، بعيداً عن التحليقات الخيالية، ولا بدّ من الابتعاد عن البلاغة اللغوية المنمّقة، باستخدام كلمات سهلة وبسيطة؛ لأنّ ذلك يؤثر في وصف اللّغز وسرعة تدافع الأحداث، مما يؤثر سلباً في عنصر التشويق البوليسيّ، مع الابتعاد عن كتابة المقاطع الوصفيّة المطوّلة، إلا لضرورة يقتضيها السّرد، والابتعاد عن المتداول والمتكرر في النصوص البوليسية في عملية كشف اللّغز، مثل مقارنة البصمات، فهذا تكراريّ ومألوف.

اقرأ أيضاً: غسان كنفاني: رواية لم تكتمل

وهكذا كان لي أن تجاوزتُ جُلَّ هذه القواعد الكلاسيكية في نصوصي البوليسيّة، وضربتُ بغالبيتها عرض الحائط، ليس لشيء إلّا لأنني أؤمن بالإبداع التجريبيّ، ولأنّ اتباع مثل تلك القواعد، سيجعل الكاتب مُقلّـداً مُقيَّداً، ولن يأتي بنصّ مبتكر أبداً، فكلّما كتبنا رواية بتلك الضوابط تحامل النقّاد علينا بأننا لم نأتِ بالجديد، بل فقط كرّسنا لآجاثا كريستي، وآرثر كونان دويل، وإدغار آلان بو، وكلّ الكتّاب البوليسيّين (وفي الوقت نفسه يقولون إنّ العالم العربي، إلى اليوم، لم يأتِ برواية بوليسيّة حقّة)، بل نأتي، في نظر النقد، بروايات تتشابه، أو كما يقولون إن "الرّواية البوليسيّة دوماً فيها مجرم وضحية ومحقّق وتحقيق، لذلك يصعب الإتيان بأحداث جديدة بوليسيّة غير مألوفة".

آجاثا كريستي

وأغلب ما يظهر في نصوصنا سيسمونه بمصطلح النقد المشهور "المُلصَق الحكائي"، أي أنّ الكاتب العربيّ ليس في مقدوره أن يأتي سوى بصورة تكرارية مألوفة في الرّوايات البوليسية العالمية، كأن يجعل أشخاصاً في بيت واحد، من عائلة واحدة، كلهم مشتبهاً بهم في قتل الضحية، والشخصية البريئة في النهاية تظهر بأنّها هي المجرمة غير المتوقعة.

هذا "مُلصَق حكائي" يظهر في أغلب الرّوايات البوليسيّة، العالميّة والعربيّة، وهكذا بنوع من التشابه في السواد الأعظم لما كتب في الأدب البوليسي، هذا ما دفعني إلى كسر القواعد واتخاذ نمط جديد عربياً لتناول النصّ البوليسيّ.

غالبية النقّاد يأتون على اختزال سؤال الرّواية البوليسيّة في الماهية والمؤدّى؛ فما إشكالية النصّ الروائيّ البوليسيّ؟ وهل هناك معضلة بين الكتابة البوليسيّة وقراءة النصّ في العالم العربيّ؟

في كتابه "الرّواية البوليسيّة، فلسفة ونقد اجتماعي"، يقول فيليب كوركوف: "الرّواية البوليسية تساعد القارئ في حلّ السؤال الجوهريّ؛ هل لحياتنا معنى في خواء العالم الحديث الذي نعيشه؟"، وكذلك سؤال الرّواية البوليسيّة هو أيضاً؛ كيف حدث هذا؟ ولأي سبب حدث؟ وهي أسئلة العقل والمنطق لمعرفة موقف الإنسان في الحدث، ومن خلاله، وهو سؤال وجوديّ في طابعه الفلسفيّ، فوجود جثة القتيل في النصّ البوليسيّ عادة ما يثير معاني قيمة الحياة والموت، وظروف المجرم النفسيّة والاجتماعيّة والعقليّة، وأهميّة مواجهة وحش الجريمة.

كلّ تلك المواقف هي فلسفة النصّ البوليسيّ، بالتالي، فإنّه على غالبية النقّاد العرب، اليوم، أن يجدّدوا من بعض أدواتهم النّقدية، لا أن يعتبروا النصّ البوليسيّ موجوداً في الأساس لغرض التسلية، وأنّه أدب موجّه للمراهقين، وهذه هي المعضلة الجوهريّة؛ فالكتابة الرّوائية العربيّة متبجّحة بالدافع القوميّ، أو هي كتابة مكرّسة لقارئ، إن وجد أساساً، عن قضايا البوح والمرأة ومشكلات الجنس على أنّه "الطابو" الأبدي.

اقرأ أيضاً: رواية "الديوان الإسبرطي" للجزائري عبد الوهاب عيساوي تفوز بجائزة البوكر

ولعلني في روايتي "عبث الجمجمة"؛ كتبتُ الرّواية البوليسيّة التاريخيّة، وهذا النوع عادةً ما يخشى اقتحام غماره كتاب النصّ البوليسيّ، لسبب إخفاق آجاثا كريستي في نصّها البوليسيّ التاريخيّ "جريمة على نهر النيل"؛ ركّزت فيها على الوصف التاريخيّ للمكان فاضطرب الخطّ البوليسيّ في نسيج الأحداث وعنصر التشويق وفشل هذا النصّ بين كلّ نصوصها الأخرى الناجحة، غير أنّني اخترت لنصّي"عبث الجمجمة"، الصادر عن دار النشر "الجزائر تقرأ"، عام 2018، قضايا تاريخية جزائرية، منها ألغاز لها علاقة بحياة الرئيس الجزائريّ الراحل، هواري بومدين، وقضايا من تاريخ المقاومة الشعبية الجزائريّة حول جماجم الشهداء في متحف الإنسان بفرنسا، وكذلك قضايا التفجيرات النووية الفرنسية بصحراء الجزائر، ومشكلة الأرشيف التاريخي، وغيرها من قضايا الطبّ والفلسفة والسحر الأسود، التي تتخلل الأحداث بمبررات زمكانية لها أثرها في هندسة النص.

إدغار آلان بو

كلّ هذا الزخم المعرفي المشبع بأجناس أدبيّة أخرى تتخلّل النصّ البوليسيّ، مثل أجزاء من نصّ مسرحيّ عن قضيّة جماجم شهداء الجزائر بمتحف الإنسان، كلّ ذلك كان منسوجاً بالتشويق ضمن خوارزمية الأحداث من دون أن يختل الخطّ السّرديّ البوليسيّ لتتبع اللغز المطروح، وهو شيفرة الاغتيالات المتعلقة بخطوط تزيّن ربطات العنق لشخصيات مهمّة.

اقرأ أيضاً: رواية "حصن الزيدي": عودة الإمامة برداء جمهوري!

وهكذا، كتبتُ نصّاً بوليسيّاً تاريخيّاً، وهو جديد، أو ما يعرف بــ"النيو-بوليسي"، كالرّواية التي يكتبها "دان براون"، شيفرة دافنشي، ملائكة وشياطين، الجحيم، الأصل. ولكن بنكهة جزائريّة،كلّها من نوع الأدب البوليسيّ الجديد.

كذلك كانت رواياتي البوليسيّة: "عبث الجمجمة"، و"مذكرات اللغز المسموم"، و"تعويذة في قبر الشيطان"، الصادرة عن دار "العالمين" الجزائرية، رغم أنّ الناشر قدّم لروايتي "تعويذة في قبر الشيطان"، على أنّها رواية في طابع أدب الرّعب والبارانورمالوجيا، ولا يفقدها ذلك طابعها البوليسيّ؛ فهي غنيّة بالتحقيق الجنائيّ والمخابرات، في جرائم متعلقة بالروحانيّات واحتيالات الغرائبي.

"عبث الجمجمة"

ولأنّ الأدب البوليسي متجانس مع أدب الرّعب في كلّ الاحتمالات، لأنّهما يلتقيان في البعد الأسطوريّ، وهذه مسألة يعرفها النقّاد الأكثر عمقاً، بأنّ أساس البطل البوليسيّ نابع عن مفهوم البطل الأسطوريّ، وفي أغلب الأساطير قصص الرعب المثيرة والفانتازيا!

طغت الظلمة على روايتك "مذكرات اللّغز المسموم"، وامتدّ ذلك ليشمل كلّ رواياتك؛ لما كلّ هذا القدر من السوداوية؟ 

يعود ذلك إلى توجّهي السريالي في كلّ تعاملاتي مع الحياة والفكر والفلسفة والأدب والفنّ التشكيليّ الذي أعمل عليه، ولعلّني تأثرت في ذلك بالكاتب الأمريكيّ، إدغار آلان بو، الذي يشكّل في حياتي من فترة مراهقتي إلى اليوم حلقة مهمّة جدّاً في تكويني الأدبي، ولقد كان "بو" عاشقاً للظلام والسرياليّة، رغم أنّها لم تكن مسمّاة بهذه التسمية في وقته، وكذا غرائب الطبيعة والخيال والعلوم الكيميائية العجيبة.

لذلك؛ فإنّ روايتي "مذكرات اللغز المسموم" هي الرّواية التي كتبتها بعمق بوليسيّ بحت، وأراهن بها كثيراً، على أنّها نصّ بوليسيّ سيكسر معتقدات النقد المتشائمة في أبدية عدم وجود نصوص بوليسية عربية، بذلتُ فيها جهداً في البحث الطبي وعلم السموم وتشريح الجثث الجنائي ودراسة التاريخ والفن وأساليب التحقيق والتحرّي في علم المخابرات وفن الجاسوسية، جعلتُ فيها أحداثاً بوليسية غارقة في الظلام وجريمة القتل بوسيلة السّم.

اقرأ أيضاً: ما الذي أعاد رواية جوستين "الممنوعة" للظهور عربياً؟

وكان المجرم عالم سموم من مدينة تيهرت الجزائرية، ومحور الأحداث يدور حول اعتناق جماعة من المتمرّدين الصوفيين عقيدة دينية شاذة تختص بنبوّة الفيلسوف سقراط، تقتل الناس بإرهاب السُّم فداء لفلسفة سقراط وتحرير العقل، وربطتُ ذلك بأيديولوجيا الفداء والعقيدة الحشيشية وفترة العشرية السوداء، ولعلني اخترت لذلك مدينة تيهرت، بسبب ماضيها التاريخي في الطوائف الدينية منذ زمن الدولة الرستمية، وما إلى ذلك، وتعتمد توليفة الأحداث على شيفرات حروفية ورقمية وألغاز الصولفاج الموسيقي، وكيمياء السّم، والكثير من عناصر التشويق.

كيف تقارب الظاهرة الطبّية في الأدب البوليسيّ؟

لو أنّ هناك دارسين للظاهرة الطبية في الأدب البوليسيّ، لكانت رواياتي أنموذجاً عميقاً للرّواية البوليسية الطبية، لأنّ عادة ما يكون كتّاب الرّواية البوليسيّة باحثين في حقل الطبّ والكيمياء والعلوم عموماً، لكن في الطبّ بشكل خاص، نذكر منهم: إدغار آلان بو، الذي يعدّ الأب الروحي للرّواية البوليسية.

في روايته "The Murders in the Rue Morgue" التي تعدّ أوّل رواية بوليسية بالمقاييس ظهرت في التاريخ، وترجم عنوانها إلى "جرائم شارع مورغ"، والبعض يترجمها "قتيلتا شارع مورغ"، والبعض الآخر" قتلة شارع حفظ الجثث"، وهذا مشكل مطروح في نقل الترجمة العربية للأدب البوليسيّ الغربيّ، وأغلب الترجمات كانت رديئة، بالرّغم من وفرتها.

اقرأ أيضاً: رواية "الإصبع السادسة".. الهروب إلى التاريخ لفهم الحاضر

ولعلّ رواية "إدغار آلان بو" تلك، كانت فيها التحقيقات الكيميائية الطبّية، والتعامل مع الجثث، وغير ذلك، وكذلك آرثر كونان دويل، كان طبيباً، ولعلّه جعل لشارلوك هولمز خبرة علمية بالكيمياء، وفي العالم العربيّ كان الدكتور، نبيل فاروق، المصري، طبيباً، ولقد كتب الرّواية البوليسية ذات الطابع الجاسوسيّ في الغالب، والعلمي، إلا أنّه وقع في انزلاق توجيه هذه الرّواية إلى فئة المراهقين، فكانت كلّ رواياته جيبية مخصصة للتسلية الطفولية، ما أعاب على الرّواية البوليسيّة العربية عموماً، كذلك رواية "العنكبوت" للدكتور الطبيب والفيلسوف، مصطفى محمود، والتي يتجاهلها النقّاد على أنّها من صنف الرّواية البوليسية، تعدّ رائدة من حيث احتوائها لعناصر النصّ البوليسيّ، لكنّ النقد العربي يصنفها في الخيال العلمي، وهذا خطأ فظيع؛ لأنّ ما تناوله الدكتور مصطفى محمود في العنكبوت ليس من باب الخيال، بل هو حقائق طبية قليل من كان يعرفها في زمانه، وكان يركّز في نصّه ذاك على الأسلوب البوليسيّ للتحقيق.

"تعويذة في قبر الشيطان"

وأنا شخصيّاً أصنّف هذا النصّ على أنّه أول رواية بوليسية عربيّة كتبت خاماتها في أوائل خمسيينات القرن الماضي؛ فهو يقول في مقاطع من روايته تلك: إنّ "راغب دميان لا بدّ أنّه يحتفظ بالإبر الثمينة من الرّاديوم في مكان آخر غير معمله الذي اقتحمه البوليس؟ هل أقول للضابط إنّه مريض من مرضاي؟ وكان الضابط طوال الوقت مُنكفِئاً على الأرض يفحصها، وآثرت أن أترك الضابط في غفلته ينسج جرائم ودماء لا وجود لها، لا يمكن للص عادٍ أن يمدّ يده إلى الراديوم؟ واستيقظ حدسي البوليسيّ فجأة".

اقرأ أيضاً: رواية الطباخ: فن طهي أزمات السياسة وتناقضات الاقتصاد

كلّ هذه العبارات التي التقطتها وحفظتها من نصّ العنكبوت، وغيرها كثير، إنّما تدلّ على بوليسية نصّ "العنكبوت"، إضافة إلى عنصر التحقيق وتتبع المجرم السّفاح وبطولته التي تصنف بالضبط هذه الرّواية في الرّواية البوليسية السّوداء، والذي هو عالم يجري أبحاثه على الغدة الصنوبرية في المخّ، وأسرارها الرّوحية، ولعلّ الظاهرة الطبية في هذا النص كانت رهيبة وعبقرية، وكذا التوليفة البوليسية للأحداث، فقط يعيب النصّ الاقتضاب الشديد في تفصيل الأحداث والسرد المباشر بالأسلوب الحكائيّ لليوميات، وتمّ تحويلها إلى مسلسل تلفزيونيّ زمن السبعينيات، على ما أعتقد، أعابها كثيراً بتوظيف بعض الجوانب الكوميدية في شخصية الصحفي الزائدة على النصّ.

لكن، لو أعيدت كتابة رواية العنكبوت بأسلوب بوليسيّ حينها ستكون رواية رهيبة حدّ الدّهشة، وهذا ما أعمل عليه في مشروع مقبل لدي، أما بخصوص رواياتي؛ فالظاهرة الطبّية فيها تكاد تكون لوحدها مشروع بحث أكاديمي متخصص، منها ما يتعلق بعلم السلالات والجماجم وعلم النفس واستنطاق الحياة الباطنية وطب الأعصاب وجراحة المخّ، والتحقيق الجنائيّ عموماً، في الجثث التي هي بمثابة الخطّ التشويقيّ، وعلم السموم بعمق طبي مثير، وتحاليل الدّم والهندسة الوراثية، من منطلق أنني لا أستطيع تخيل نصّ بوليسيّ من دون تحقيق جنائي.

ولعلّ الطبّ الشرعيّ هو الأكثر إثارة في تلك التحقيقات، وإن لم تكن هناك جثّة، فقد تتناول رواية بوليسية قضية اغتصاب قاصر مثلاً، أو تحليلاً سيكولوجياً لسارق غريب!

عادة ما يُطرح إشكال الفرق بين الرّواية البوليسية ورواية الجاسوسية للتقارب والتشابه بينهما، رغم أنّ الدراسات الأكاديمية قسّمت النصّ البوليسيّ إلى أربعة أنواع، الرواية البوليسية التحليلية التي يكون فيها المحقّق هو الشخصية المحورية وشخصية المجرم غير مهمة، ورواية المشكل التي يكون فيها صراع بين المجرم والمحقق والرّواية تعتمد تفكيك اللغز الإجرامي؛ والرّواية السوداء التي يصير فيها المحقّق شخصية دموية مطاردة للمجرم ومنتقمة منه، بينما المجرم الأكثر تطوراً في استخدام الجريمة، وهو الشخصية البارزة هنا؛ ثم الرّواية التشويقيّة التي تكون الضحية فيها هي الشخصيّة المحورّية؛ فما هو موقع الرواية البوليسيّة من مختلف أجناس الكتاب الأخرى؟

أنا شخصياً لا أراقب نصّي حال الكتابة لأوجّهه في صنف من هذه الصنوف، بل قد تختلط لديّ ملامح من هذا اللون وذاك، ولا يحدث أيّ انهيار في هندسة التشويق وإثارة الدّهشة في نصوصي، وهو أهمّ ما يطمح الروائيّ البوليسيّ لتحقيقه، ولعلّ أغلب النقّاد يقولون إنّ الرّواية البوليسيّة هي التي تختصّ بالحياة اليومية وما يقع فيها من الجريمة.

"The Murders in the Rue Morgue"

أما رواية الجاسوسيّة؛ فهي التي تعتمد خطط علم المخابرات وفنّ الجاسوسيّة، وإستراتيجيات الأمن، واختراق المعلومات الخطيرة، وتناقلها بين الدّول في توليفة الأحداث، وهنا يكمن إشكال كبير في الكتابة البوليسيّة العربية، لأنّها في الغالب تقترب بحسّها القوميّ من توظيف كاريزما الجاسوس في الرّواية دون مراقبة عناصر البعد البوليسيّ للنصّ؛ فالناقد العربيّ، الذي ما يزال يُصنف مثلاً رواية "رأفت الهجان" لصالح مرسي، على أنّها رواية بوليسيّة هو مخطئ تماماً، ولا هي حتى من صنف رواية الجاسوسيّة بالمعيار النقديّ، بل هي من صنف أدب السيرة، تناولت قصة حياة جاسوس حقيقي "علي رفعت سليمان الجمّال"، هذا كلّ ما في الأمر.

اقرأ أيضاً: هكذا قاربت رواية "طرق الرب" طُرق البيروقراطية المقدسة

وهنالك روايات كثيرة تكتب بأسلوب عاطفيّ تاريخيّ، تتناول سيّر جواسيس من منطلق دافع الوطنية والنضال، وهذه لا هي في أدب الجاسوسية ولا في الأدب البوليسيّ، من حيث التصنيف، بل هي كتابة سيرة جاسوس، لأنّ أدب الجاسوسية قد يكتب رواية خياليّة لجاسوس يخترق مستويات عالية من الذكاء ومواجهة المستحيل وهو عنصر التشويق.

ولعلّي في كتاباتي تجاوزت هذه الفروق النقديّة، وصمّمتُ لنصّ بوليسيّ فيه عناصر يومية للجواسيس ووقوع الجريمة، واختلاط ذلك بالحياة اليومية لأناس عاديين في توليفة درامية سيكولوجية، يتورّطون في مستويات عليا للجريمة، أي أنّ الجاسوسية صار لها بعد اجتماعيّ، وليس فقط بالمفهوم الدّولي في كواليس السفارات والحكومات السّرية، بالتالي، فقد تجاوزتُ في كتاباتي هذه الفروق النقدية بين الجاسوسية والبوليسية؛ لأنّ التداخل بينهما ممكن بنسبة عالية، مع تغليب العنصر الفنّي البوليسيّ، وهنا تصير الرّواية ذات طابع بوليسيّ جيّد ومتكامل، هذا ما جعلته جلياً في روايتي "عبث الجمجمة"، البوليسية التاريخية خاصةً.

ما العقبات التي تعيق تقدّم النصّ البوليسي العربي في ظلّ الرؤية التشاؤميّة القائلة بعدم وجود نصّ بوليسيّ عربيّ متكامل؟ وما حاجة القارئ العربي إلى النصّ البوليسيّ؟

هناك عقبات كثيرة تعيق تقدم الرّواية البوليسية العربية، من أهمها؛ معضلة القارئ العربيّ، فهو ما يزال رضيعاً، يخشى هضم الأطعمة المعقّدة للكتابة الحديثة، وعلى رأسها الطعام الدّسِم للرواية البوليسيّة، إنه قارئ رضيع يستهلك فقط ما في ثدي أمه من قومية أغلبها زائف، أو الكتابات الجنسيّة الغارقة في عقد الكبت والشذوذ، أو عاطفية مائعة تثير أحلامه بنوم عميق؛ القارئ العربي عاطفي دوماً، يستخدم نصف دماغه الأيمن في قراءة الأدب، وهذه حقيقة، وليست من باب التهكّم، بينما القارئ الغربيّ يستخدم في الغالب نصف دماغه الأيسر.

أنا، مثلاً، حين أوظّف شيفرة رقمية، كما هو الحال عن شيفرة "الكود بار"، في خطوط "ربطة العنق"، في رواية "عبث الجمجمة"، أجد أنّ كلّ القرّاء الذين كتبوا قراءات عامة عن روايتي تلك لم يأتوا على سرّ هذه الشيفرة، بالرّغم من أنها عصب النصّ النابض، صانع الإثارة والدهشة والتشويق، وبالرّغم أيضاً من أنّني قمت بشرح أنظمة التعداد وبسّطتُ تفاصيل الشرح بتشويق كبير، إلّا أنّ أحداً لم يبذل قراءة علمية لكريبتولوجيا ذلك النصّ البوليسيّ، مع العلم أنّ علم التشفير له علاقة باللغة، بل نشأ في علم اللغة قبل الرياضيات، وهنالك رياضيات اللسانيات، لكنّ قارئنا العربي هو قارئ أدبيّ عاطفيّ.

اقرأ أيضاً: شعرية الأعماق في رواية "بأي ذنب رحلت؟" للكاتب محمد المعزوز

ولعلّني شرعتُ في كتابة مقالات لشرح الشيفرات التي استخدمتها في رواياتي، خاصّة شيفرة "الكرافاط"، وهي ذات عامل سينمائيّ رائع، لو تمّ إخراج هذا العمل إلى الصورة الدرامية، أما بالنسبة للكتابة البوليسيّة، فأنا أتفاءل بها خيراً الآن، مع جيلنا والجيل الجديد، إن هو اهتم للدّراسة العلميّة، كذلك معضلة الدارسين الجامعيين في حقل الآداب، عادةً ما يركّزون على الجانب اللغويّ فقط، وهندسة الأحداث والبعد الأيديولوجي للنصّ، متجاهلين البعد العلميّ للكتابة البوليسيّة، وقيمة النصّ الذكية، وتحقيق الذكاء، بينما تحادثت معي طالبة جامعية في كلية الطبّ بولاية بلعباس، حول نصوصي البوليسيّة، واقترحت عليّ مذكّرة تخرّج في كلية الطبّ عن الظاهرة الطبّية في الرواية البوليسيّة، هذا قد يحسم جزءاً مهمّاً لتطوّر النصّ البوليسيّ المكتوب بالعربيّة، والجزائريّ بالخصوص، ويحقّق مقروئية متوازنة وثريّة بالغوص في أهمية الرواية البوليسية.

ماذا بشأن ريادة الرّواية البوليسيّة العربيّة؟

بالنسبة إلى أوّل رواية عربيّة بوليسيّة؛ فالنقّاد يصنّفون نصّ غسان كنفاني "الشيء الآخر" على أنّه أوّل نصّ توفّر على الملامح البوليسيّة، كان ينشر في حلقات في مجلّة "الأسبوعية" في لبنان، عام 1966، بعنوان "من قتل ليلى الحايك؟"، ونشر في 1980 على شكل رواية، وبالرّغم من جودة هذا النصّ واقترابه الشديد من تصنيف الطابع البوليسيّ للرّواية، إلا أنّني ما أزال أعتقد أنّ رواية "العنكبوت" لمصطفى محمود هي أول نصّ بملامح الأدب البوليسيّ العربيّ، وليست في صنف الخيال العلميّ.

"الشيء الآخر"

ولا بدّ للنقّاد أن ينتبهوا لأساسيات تصنيف النصوص الرّوائية؛ أما بالنسبة للجزائر فلم تظهر إلا نصوص عن الجاسوسيّة والمخابرات والصراع العربي الإسرائيلي في كتابات السبعينيات، وذلك يعود لطبيعة الموضوع المطروح بقوة في تلك الفترة، منها روايات يوسف خضير، في روايته " تحرير فدائية"، إضافة إلى الروايات الفرانكوفونية الجزائرية التي كتبت بأسلوب بوليسيّ شعبيّ.

اقرأ أيضاً: هل انتهى زمن الرواية؟

وفي الثمانينيات؛ عاد النصّ البوليسيّ في الجزائر بظهور متميّز، على يد زهيرة عوفاني، في روايتَيها: "الصورة المفقودة"، و"قراصنة الصحراء"، متأثرة في ذلك بمرحلة التهريب وتأثيرها على الاقتصاد، وكانت في تلك الفترة على حدود الجنوب الجزائري، وكانت عوفاني تكتب بأسلوب آجاثا كريستي تقريباً، وهو تأثّر مبرّر لها، غير أنّها انقطت الرواية البوليسيّة وهجرت.

 حتى ظهرت خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة موجة للكتابات الجديدة في الأدب البوليسيّ، منها رواية "أثر الدّم" لخالد شناوي، من محافظة تيسمسيلت، كتب بأسلوب بوليسيّ مشوّق فيه لمسة حداثة، بالرّغم من عدم إتيانه بالجديد، فكتابة تلك القصة بمحور شيفرة عدد الشيطان 666، على أنّه يتمّ اختطاف الأطفال المولودين بتاريخ 6 ـ6ـ  2006، هو أمر متداول في بعض الروايات الغربية التي تتخذ من عدد الشيطان شيفرة للجرائم، هذا مكرّس ومتداول.

روايتي "مذكرات اللغز المسموم" التي كتبتها بعمق بوليسيّ بحت، هي نصّ بوليسيّ سيكسر معتقدات النقد المتشائمة في أبدية عدم وجود نصوص بوليسية عربية

وهذا النصّ يصنّف ضمن ما يُعرف بـ "long short story"، رغم اتّخاذ إدغار ألان بو ، سبيله البوليسيّ بكتابته؛ أي بقصة قصيرة طويلة، وهو غير صنف الرّواية من حيث هندسة النصّ، تعتمد أسلوب الومضات في سرد الأحداث التشويقية، دون الغوص في التفاصيل وإكسسوارات الجريمة، التي تعدّ أهمّ ما في النصّ البوليسيّ، وتحليل المواقف والملامح للشخصيات.

ولعلّ الوقوع في الأخطاء العلميّة حال عملية التحقيق يعيب هذا النوع من النصوص؛ لأنّه يتفادى التفصيل في تدقيق التحرّي، ما يوقعه في الخطأ، وهذا الصنف عادة ما يتداوله كتّاب الأدب البوليسيّ باتّباع قواعد "فان دين"، لكنّه يعيب كثيراً محطات الكتابة البوليسية الجديدة، ويؤثّر في أدبيّة النصّ والبعد الفنّي للرّواية، فيجعلها ضمن أدب التسلية للمراهقين.

اقرأ أيضاً: الحداثة وما بعدها في الرواية العربية المعاصرة

كذلك قصة "ثقوب زرقاء"، للخير شوّار، تعدّ من هذا الصنف، فيها شيء من الإيحاء البوليسيّ، ورواية "كولاج"، لأحمد عبد الكريم، ملوّنة بألوان بوليسيّة، غير أنّها ليست نصّاً روائياً بوليسياً بحتاً،لأنّه لم يعتمد الغوص في التحقيقات بالأسلوب البوليسيّ، ولا اقتحام المتحف والعملية الإجراميّة في سرقة المخطوط كانت بالرّوعة البوليسية، بالرّغم من روعة هذا النصّ الرّوائيّ في عمومه الفنيّ الأدبيّ، غير أنّ هذه النماذج، وغيرها مما كتب حديثاً في النصّ القريب من الأدب البوليسيّ، تبشّر بخير كبير في ظهور نصوص للأدب البوليسيّ الجزائريّ، المكتوب باللغة العربية، وكذلك في الرّواية العربية الجديدة؛ هنالك كتّاب ظهرت لهم نصوص بوليسيّة في مصر خاصّة، لكنّ النقد ما يزال بعيداً عن إعطاء هذه النصوص حقّها من التقدير، ولا الإعلام روّج لها لاجتذاب القارئ إليها، وهكذا ستموت نصوصنا البوليسيّة كلّما أبلاها الزمن.

لكنّنا نتفاءل، رغم العقبات، بأنّ لدينا اليوم نصوصاً بوليسية عربية، ولعلّ السينما هي الكفيلة بالترويج لها، فالنصّ البوليسيّ لا بدّ له من أن يتحوّل إلى فيلم، ففي الغرب أخذ النصّ البوليسيّ روعته واهتمام القرّاء به لأنّه لا يلبث أن يتحوّل إلى فيلم بارع مشوّق ومدهش.       


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية