في أوهام مصطلح الحاكمية

في أوهام مصطلح الحاكمية


24/10/2020

رشيد سعدي

تشهد المملكة المغربية، على هامش بعض الأحداث الصادمة للمجتمع، نقاشاتٍ اجتماعية، موضوعها طبيعة المنظومة القانونية التي يجب أن تَحكم المجتمع، مع توجُّه متزايد نحو فكرة الاحتكام إلى “الشريعة”، والقطع مع “القوانين الوضعية”. أيضًا نلاحظ انحياز الكثير من القيادات الدينية السلفية، إلى تصوُّرٍ ديني شامل يهيمن على المجتمع، أيْ تصوُّرٍ مبني على وهم استرجاع نموذج تاريخي، لا مكان له في الأزمنة الحديثة.

لا شك أن هذا النقاش يهم كل العالم العربي الإسلامي، ويتجاوز الإطار القانوني، نحو سؤال لم تستطع المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة أن تحسمه، وهو النموذج السياسي والاجتماعي في علاقته بثنائية الديني بالسياسي. يفسر هذا العجزُ -إلى حد بعيد- الوضعَ السياسي المتردِّي، وتَدنِّي مؤشرات الديمقراطية واحترام المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان.

تجري برأيي صناعة رأي إسلامي عام مؤسَّس على فهم خاطئ للشريعة، مبني على وهم إيديولوجي مترسِّخ. وهو فكرة وجود منظومة قانونية إلهية ثابتة، تُشكل حلًّا لكل المشاكل التي تعيشها هذه المجتمعات. يتغذى هذا التصور من كون الكثير من الدول الإسلامية لا تزال تشير في دساتيرها إلى الشريعة، بوصفها مصدرًا رئيسيًّا للتشريع، في حين أن التشريعات تنحو منحًى وضعيًّا متزايدًا.

ظل الوعي الإسلامي العام مسكونًا بهاجس العودة للأصول، والقطع مع التنازلات التي تمسُّ قدسية الشريعة. لذا، جعل الإسلامُ السياسي من فكرة الحاكمية مفهومًا مركزيًّا، مبنيًّا على فكرة أن التشريع لله وحده، وعلى “الاحتكام إلى الله وتطبيق شرعه”. من هنا، رفْضُ قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان بحجة أنها تمثل حاكميةً بشرية، مرفوضةٌ. وكذلك تكفير الأنظمة السياسية، بل حتى المجتمعات التي تَقبل الاحتكام إلى القوانين الوضعية، ونَعْتها بالجاهلية. لذا، ظلت فكرة تطبيق الشريعة مصدر الكثير من التوترات السياسية، وشكلت عقيدةً يجري استخدامها بسبب عمقها الديني في ضمائر الملايين من المسلمين، خدمةً لمصالح سياسية.

يجب الوعي بأن المنظومات القانونية والسياسية جزء من الفاعلية الإنسانية، قد تَستلهم المبادئَ الأخلاقية الكبرى للدين، لكنها تبقى بشرية. أيضًا يجب أن تنأى عن الزجِّ بالله في لعبة المصالح والإيديولوجيات. لذا، فإن القول بأن حاكمية الله تتحقق من خلال التطبيقات البشرية، فكرةٌ في غاية الانحراف. فالبشر يتصرفون انطلاقًا من تصوراتهم النسبية ومصالحهم وأوهامهم؛ أمَّا الله، فمُنزَّه عن العشرات من الجرائم، التي ارتكبها الناطقون كذبًا باسمه وبِاسم تطبيق الشريعة.

تعني الشريعة لغةً الطريق إلى الماء في الصحراء، أيْ طريق الخلاص. لذا، أعتقد أن القرآن لا يحتوي أوامر أزلية نهائية. فالآيات التشريعية ليست إلا معالم مبادئ عامة، توجهنا إلى طريق الاجتهاد البشري المستمر، لاحترام “الحاكمية الأخلاقية” وقيمتَي الكرامة والحرية. وعليه، لا يمكن فهم الأحكام الشرعية إلا في سياقها التاريخي؛ ما يعني أن الكثير منها أصبحت فاقدة لمعقوليتها الدينية في السياقات المعاصرة. ألَا يزال من الممكن أن نطلب من غير المسلمين في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، تأدية الجزية في زمن المواطَنة والحياد المفترَضَيْن للدولة تجاه الانتماءات الدينية، أو أن نُبيح دم مُواطِن(ة) لأنه فارق الإسلام إلى غيره من الأديان؟

من الضروري إذن إنتاج تأويلات جديدة، تربط بين التشريعات في سياقها التاريخي والغايات العليا، التي يَطلب الله منَّا التوجه نحوها، على غرار اجتهادات الخليفة عمر بن الخطاب، الذي قام بوقف العمل ببعض أحكام شرعية، لأن تطبيقها يؤدي إلى نتائج غير أخلاقية، أو منافية لقيمة العدل. لذلك، فإن الشريعة الأخلاقية تنسخ الشريعة القانونية، حين تصبح الحرية أعلى مراحل الشريعة، وتَنسخ الحريةُ والمساواة فقهَ العبودية والرِّدَّة، أو الطلاق وتعدُّد الزوجات التعسُّفِيَّين، وتَنسخ منظومةُ الحقوق الكونية المنظوماتِ الفقهيةَ، التي فقدَت قدرتها على أنْسَنة مجتمعاتنا.

تصبح الشريعة المتحركة منطلَقًا لتَجاوُز الشريعة الثابتة، وأيضًا تصبح الشريعة تدريجيًّا موضوع تعاقُد اجتماعي هو أساس الدولة المدنية، التي تمنع طغيان الأغلبية على الأقليات أو الأفراد المخالفين لها. فالدولة حامية للحريات والمساواة وقيم المواطنة. لذا، فإن مفهوم الدولة الإسلامية برأيي مفهوم فارغ، لأن الدولة كيان سياسي وقانوني، في حين أن الدين قناعة فردية أو جمعية.

يُحيلنا الانتقال من دولة الشريعة إلى الدولة المدنية، على فكرة نهاية مرحلة اعتماد الإنسان على مرجعيات غير مرجعية العقل والمسؤولية واستحالة الإكراه الديني، مصداقًا للآية: {فذكِّرْ إنما أنتَ مُذكِّر، لستَ عليهم بِمُصَيطِر}. تنتهي مرحلة وصاية “الشريعة”، وتبتدئ مرحلتَا الضمير والمسؤولية الأخلاقِيَّين. لذا، فالمعنى الوحيد لحاكمية الله هو حضوره في الضمير الإنساني، عبْر قيمتَي الرحمة والتعاطف، والإيمان المؤسَّس على الاقتناع والحرية.

لذلك، أقول لمن يبحثون عن شريعة الله: إن “الشريعة الإلهية والأبدية الوحيدة هي أن تُحبُّوا غيركم”. والله أعلم.

عن "صحيفة تعددية"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية