فوكوياما يذكّرنا: الديمقراطيّة الليبراليّة "عفا عليها الزّمن"

فوكوياما يذكّرنا: الديمقراطيّة الليبراليّة "عفا عليها الزّمن"


22/03/2022

ترجمة: محمد الدخاخني

قرأت كتاب "الليبراليّة واستياءاتها"؛ وهو نقد مدروس، لكنّه في نهاية المطاف دفاع قويّ عن الليبرالية، عندما دخلت الدبابات الروسيّة إلى أوكرانيا، وشعرت بأنّه مُلحّ وفي موعده. أعلن فلاديمير بوتين، كما يذكّرنا فرانسيس فوكوياما؛ أنّ الدّيمقراطيّة الليبراليّة "عفا عليها الزّمن"، ورأيه هذا ليس بالنّادر، حتّى داخل الديمقراطيّات الليبراليّة. قبل ثلاثين عاماً، بعد الانهيار المُشين للاتحاد السوفيتيّ وحلف وارسو، اكتسب فوكوياما اعترافاً دوليّاً بكتابه المعنون "نهاية التّاريخ والإنسان الأخير"، وكان الكتاب قد حاجج بأنّ الدّيمقراطية الليبراليّة في الأساس "نقطة النهاية للتطوّر الأيديولوجي للبشرية".

بالنّظر إلى أنّ أحداثاً مثل الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) وحرب أفغانستان والعراق والأزمة الماليّة لعام 2008 ألقت بظلالها على ثقة الليبراليّة بنفسها، فقد استُنكِر عمل فوكوياما باعتباره ذروة الغطرسة الهيغليّة. ونُظِر إلى الرّجل على أنّه مؤمن ساذج بحتميّة فكرةٍ للتقدّم محدّدة غربيّاً، وعلى أنّه شخص تعامى عن إخفاقات الديمقراطية الليبراليّة.

طوّر النّظام الليبراليّ، الذي تأسّس على مبدأ المساواة في الحقوق الفرديّة والقانون والحرّية، تفاوتات واضحة إلى حدّ ما في كلّ المجالات، والأكثر وضوحاً هو التّفاوتات الاقتصاديّة

في بعض النّواحي، كانت الانتقادات غير عادلة، أو على الأقلّ استهدفت حججاً لم يقدّمها قطّ، لكن يبدو أنّ هناك القليل من الشّك في أنّ فوكوياما كان عليه أن يتقدّم باعتذار متواضع، كما يكتب: "من الواضح أنّ الليبراليّة كانت في تراجع في الأعوام الأخيرة".

اكتسب فوكوياما اعترافاً دوليّاً بكتابه المعنون "نهاية التّاريخ والإنسان الأخير"، فقد حاجج بأنّ الدّيمقراطية الليبراليّة في الأساس "نقطة النهاية للتطوّر الأيديولوجي للبشرية"

مستبدون يحصدون المسرح العالميّ

في ذلك الوقت، تراجع فوكوياما عن أجندة المحافظين الجدد الأمريكيّة التي كان قد دعمها في البداية، وشاهد قادة استبداديين، مثل: بوتين في روسيا، وشي في الصّين، وأردوغان في تركيا، يحصدون المسرح العالميّ، يستشهد بإحصائيّات منبّهة مفادها أنّ الحقوق السّياسيّة والحرّيّات المدنيّة قد تراجعت على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية في جميع أنحاء العالم، بعد أن ارتفعت خلال العقود الثّلاثة والنصف السّابقة على ذلك.

وفوق كلّ ذلك، حقّق الشعبويون اليمينيون والتقدّميون اليساريون نجاحات كبيرة في السّياسة الغربية. في أعقاب هجوم دونالد ترامب على الديمقراطيّة، ورفْض بريطانيا لليبراليّة على النّمط الأوروبي، ما تزال الولايات المتحدة والمملكة المتّحدة متمسكتين بالديمقراطية الليبراليّة، لكنّها ليست بالضّبط نظاماً سياسيّاً واقتصاديّاً يشعر المستفيدون منه بالفخر.

إقرأ أيضاً: في أوقات الغموض الجيوسياسي علينا العودة للتاريخ

الصّعوبة الأولى عندما يتعلّق الأمر بإيقاظ الرّوح الليبرالية تكمن في صعوبة تعريف الليبراليّة، التي أصبحت واحدة من تلك الكلمات التي تعني أشياء مختلفة لتجمعات سياسية مختلفة، تكمن القوّة الحيويّة لهذا الكتاب الصّغير والأنيق في أنّه بلّوري في تعريفاته، حتى مع الاعتراف بتعقيدات الممارسة، على الرغم من أنّ الليبراليّة تتعرّض للهجوم من اليسار واليمين؛ فإنّ التّحدي الفكريّ الأكثر جديّة يأتي من اليسار. يدرك فوكوياما هذه الحقيقة ويحاول معالجة انتقادات اليسار. بشكل أساسيّ، طوّر النّظام الليبراليّ، الذي تأسّس على مبدأ المساواة في الحقوق الفرديّة والقانون والحرّية، تفاوتات واضحة إلى حدّ ما في كلّ من تلك المجالات.

والأكثر وضوحاً هو التّفاوتات الاقتصاديّة التي نمت في الغرب، لا سيّما في الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة، على مدار الأربعين عاماً الماضية. يعزو فوكوياما ذلك إلى "النيوليبراليّة"، الإيمان بالأسواق غير المقيّدة كوسيلة لتحقيق هدف رفاهية المستهلك.

النيوليبراليّة تشويه لليبراليّة

لكن، كما يؤكّد فوكوياما، تُعدّ النيوليبراليّة تشويهاً لليبراليّة، التي لها اختصاص اجتماعيّ أكبر بكثير من مجرّد الكفاءة الاقتصاديّة؛ إنّها ليست مجرّد مسألة تنظيم وتقييد الشّركات الكبرى، على الرّغم من أنّ فوكوياما يدافع عن الأمرين، لكنّ مسألة تقدير رأس المال الاجتماعي الذي يتحقّق من إعادة التّوزيع وتضييق التّفاوتات. في بعض الأحيان، قد يبدو المستشار السّابق لإدارة ريغان وكأنّه ديمقراطيّ اجتماعيّ إسكندنافيّ (تقريباً).

ومع ذلك، يؤكّد اليسار ما بعد الحداثيّ أنّ اللامساواة والظّلم ليسا خللاً في الليبرالية بل تمظهر لسلطة بنيويّة راسخة على مستوى تأسيسيّ.

تكمن القوّة الحيويّة لكتاب "الليبراليّة واستياءاتها" الصّغير والأنيق في أنّه بلّوري في تعريفاته، حتى مع الاعتراف بتعقيدات الممارسة، على الرغم من أنّ الليبراليّة تتعرّض للهجوم من اليسار واليمين

إنّ تفسيره للنّظريّة النّقديّة من ماركوز إلى فوكو، وكيف اعتُمِدَت هذه النظريّة على نطاق واسع كأداة للتّحليل الاجتماعيّ السياسيّ، هو ملخّص ثاقب ببراعة للطّريقة التي استهلكت بها بعض جوانب الفكر الليبرالي نفسها، السّعي وراء الاستقلال الفرديّ أو "تحقيق الذّات"، على سبيل المثال، أصبح غارقاً في سياسات هويّة تُدخل الفرد في مجموعات محدّدة بشكل صارم على أساس العرق أو الجندر أو الجنسانيّة. بطريقة ما، يُحاجج فوكوياما بأنّ هذه خطوة ضروريّة لمعالجة التّفاوتات البنيويّة ومواجهة الفكرة الخاطئة بأنّ الفرد هو الوحدة الوحيدة ذات الأهميّة الاجتماعيّة.

إقرأ أيضاً: هل يمكن مقارنة إستراتيجية بوتين بما فعله هتلر؟

ومع ذلك، فإنّ هذا النّوع من التّحليل، إذا نظرنا إلى أقصى حدوده، لا يُقدّم أيّ تحرّر، بل يكشف عن طبقات أعمق من الاضطّهاد، حيث يكون الفكر الفرديّ وهماً، وحيث يخضع كلّ تفاعل فكريّ لديناميكيّات سلطة التّسلسلات الهرميّة الجماعيّة. كلّ شيء، عن طريق هذا الفهم، بما في ذلك العلم التجريبي، يُصبح بناءً اجتماعيّاً مصمّماً لإفادة الأقوياء.

التّفكير التآمريّ

كما يلاحظ فوكوياما، أنّه شكل من أشكال التّفكير التآمريّ الذي يبنَي على النّحو الواجب من قِبل اليمين، الذي رأى التّدابير التي سُنّت خلال الجائحة، ارتداء أقنعة الوجه والّلقاح والتّباعد الاجتماعيّ، كعلامات على نخبة خفيّة في السّلطة. على الرّغم من أنّه يوجز بعض الشّكاوى المألوفة حول احتكارات وسائل التّواصل الاجتماعيّ وتأثيرها المؤلم على الخطاب السياسيّ؛ فإنّ الإحساس العامّ الذي تكتسبه من هذا الكتاب هو أنّ الليبراليّة في أزمة بسبب التّراخي الذي حدث مع نجاحاتها، نجحت الدّيمقراطيّة الليبراليّة على جبهات عديدة، لكنّها مع كلّ خطوة إلى الأمام تركت العديد من الجبهات وراءها.

يحبّ خصومها التّحدّث عن فكرة "ليس هناك بديل" بوصفها تقليداً ديمقراطيّاً ليبراليّاً يجب فضحه. هناك بدائل، كما يبرهن بوضوح، أمثال بوتين وشي ومقلّديهم، لكنّها فقط ليست بدائل جيّدة. ومع ذلك، لا تستطيع الليبراليّة الاعتماد على عيوب خصومها، إنّها في حاجة إلى التّحديث وإعادة التّقييم وإعادة التّفكير.

 لا يقدّم هذا الكتاب كلّ الإجابات، أو ما يكفي منها، لكنّه مرجع جيّد للبدء بطرح الأسئلة الأساسيّة.

المصدر:

أندرو أنتوني، الغارديان،  آذار (مارس) 2022

https://www.theguardian.com/books/2022/mar/08/liberalism-and-its-discontents-by-francis-fukuyama-review-a-defence-of-liberalism-from-a-former-neocon



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية