كانت أمسية ثقافية هادئة في أحد أيام، شهر شباط (فبراير) 2013، في مقرّ حزب الجبهة الديمقراطية (سابقاً) بالقاهرة، وهناك عرض مجموعة من شباب الحزب فيلماً وثائقياً علمياً، بهدف فتح باب الحوار في مضمونه، وكنتُ أحد المنظمين لهذه الندوة المرتقبة.
الندوة عرضت فيلما بعنوان From the Big Bang to Black Holes :A Brief History of Time أو (تاريخ موجز للزمن: منذ الانفجار العظيم إلى الثقوب السوداء)، من إنتاج عام 1993، والفيلم مأخوذ جزئياً عن كتاب يحمل نفس العنوان (1988).
الكتاب من تأليف العالم البريطاني الفيزيائي ستيفن هوكنغ (1942-2018)، وكان الأكثر مبيعاً؛ حيث وصلت مبيعاته لأكثر من عشرة ملايين نسخة، وهذا أمر غير اعتيادي بالنسبة للكتب العلمية، أما الفيلم الوثائقي، فكان مبسطاً للمادة العلمية التي جاءت بالكتاب.
هوكنغ كانت له قيمة موازية لقيمته العلمية، لقد كان ملهماً بتحدياته لمرض التصلب الضموري
وما من شكّ في أنّ الفيلم الوثائقي، تناول نظريات نشأة الكون والزمن والانفجار العظيم، وصاحب العرض "صوت ستيفين هوكنغ" نفسه، الذي استطاع أن يبسّط النظريات العلمية الثقيلة في أسلوب أشبه بأسلوب الحكّاء، فأصبح يلقب بالسفير الشعبي للعلوم. كما أنّ هوكنغ كانت له قيمة موازية لقيمته العلمية، لقد كان ملهماً بتحدياته لمرض التصلب الضموري، واشتهر بمقولته "لا تنظر تحت قدميك؛ بل انظر متطلعاً إلى النجوم".
قبل انتهاء الفيلم، بدأت بعض الأصوات تهبّ على الندوة، وتصدرت المشهد أستاذة جامعية اقتحمت غرفة العرض، وبدأت تطلق أحكامها التكفيرية يميناً ويساراً، فقد عدّت الفيلم يروّج للإلحاد والكفر والبهتان العظيم، وهكذا تحولت الأمسية الثقافية العلمية إلى مشهد من فيلم (وإسلاماه).
اللافت للانتباه، والمثير للقلق، أنّ قائدة "الفتوى التكفيرية" لم تكن من التيارات المتطرفة دينياً؛ بل كانت أكاديمية جامعية محسوبة على التيار المدني؛ أي من المفترض أنّها على دراية بالمنهجية العلمية، والردّ على النظريات الفيزيائية والرياضية بأخرى مماثلة، وليس بالتشكيك في عقيدة الآخرين. فمهمة الأكاديمي؛ هي تفنيد الأفكار وليس الهجرة إلى الآخرة، فلا يوجد حدّ للردة في العلوم، والاكتشافات أو النظريات العلمية ليست هجوماً على أصحاب العقائد الدينية. لن نعمّم هذا الحدث على جميع الأساتذة، لكن لا بدّ من أن نتوقف جلياً أمام ظاهرة ربط الحياة الأكاديمية بالمعتقدات الدينية، فما بالنا بعامة الشعوب التي نسعى لتحرير عقولها من التجهيل المتعمد.
بات هذا المشهد حاضراً في أذهاننا بقوة، خاصة مع انتشار خبر وفاة ستيفين هوكنغ، وعلينا أن نتساءل: ما أزمتنا تحديداً مع العلماء غير المسلمين؟ وهنا من الممكن تحديد عدة مشاهد باتت ملحّة.
المشهد الأول:
انتشرت مجموعات كعادتها تروج لشائعة، مفادها أنّ ستيفين هوكنغ قد أشهر إسلامه قبل الوفاة، وأن أسرته تتكتم على الخبر، والأمر يذكرنا بتلك الشائعة التي انتشرت حول إشهار رائد الفضاء (نيل أرمسترونغ) إسلامه، بعدما سمع الأذان على سطح القمر، وقد أنكر الأخير كلّ ما سبق بأدب جمّ، واعتذر بالنيابة عن الصحافة الصفراء التي روجت هذه الأكاذيب، في ص 631 من مذكراته، المعنونة بـ "First Man"، أو "الرجل الأول"، في الإشارة إلى أول رجل تطأ قدمه سطح القمر، في 20 تموز (يوليو) 1969.
الهدف من هذه الشائعات؛ إثبات أنّ العلماء غير المسلمين، وجدوا الإسلام في مكتشفاتهم، وهذا غير منطقي؛ لأنّ المكتشفات لا دين لها، لا هي إسلامية ولا مسيحية ولا بوذية، هنا لا بدّ أن نتوقف عند ظاهرة الرغبة العارمة في أسلمة العلوم، وإشهار إسلام العلماء عنوة، ومع هذه النزعات ظهرت مصطلحات مبهمة، مثل؛ الكيمياء الإسلامية، الفيزياء الإسلامية والطبّ الإسلامي، ...إلخ.
ظاهرة الهجوم على المعرفة، من منطلق أنّه "علم لا ينفع"، ليست بجديدة في العالم الإسلامي
المشهد الثاني:
انتشرت موجة من التحسر على المصير الأسود للعلماء غير المسلمين، من أمثال هوكنغ، كونه مات على غير دين الإسلام، ويستند أصحاب هذا التوجه إلى الآية رقم 85 من سورة آل عمران: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وعلى الآية رقم 6 من سورة المنافقون: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}، والآية رقم 84 من سورة التوبة: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}.
وهنا سيخرخ لنا فريقان من هذا المنطلق، فريق يرى أنّ تطويع الآيات في هذا الحدث خرج بها عن سياقها، وأسباب نزولها التي صاحبت الغزوات في صدر الإسلام، وفريق آخر يرى ويؤمن بأزلية النصوص القرآنية.
إنّ عدم الترحّم على العلماء غير المسلمين، أو حتى قناعة البعض، لأسباب دينية، بأنّهم في جهنم الأبدية، لا يغير الحقائق الموضوعية على الأرض، ولا يغير حقيقة أنّ ما قدموه علم ينتفع به واستفادت منه البشرية، وليس فقط في حالة ستيفن هوكنغ، وهذا ينقلنا إلى مشهد آخر، وهو مشهد اتهام العلماء بأنّهم لم يقدموا علماً ينتفع به.
المشهد الثالث:
ظاهرة الهجوم على المعرفة، من منطلق أنّه "علم لا ينفع"، ليست بجديدة في العالم الإسلامي، ويستند بعض الدعاة في هذا الهجوم إلى عدة مصادر من السنة، منها: حديث "اللهم إنّي أسألك علماً نافعاً وأعوذ بك من علم لا ينفع" أخرجه الترمذي عن أبي هريرة، والحديث له مصادر أخرى في السنة.
لكن من يحدّد العلم النافع: هل هو الفقيه أم المختبر والمعمل، أم البشر الذين ينهلون من نفع المكتشفات العلمية والتطور الذي يتبعها؟ فالبشرية انتفعت من اكتشاف الأنسولين، واستحداث نقل الأعضاء، واختبارات الخلايا الجذعية... فكيف لا يكون علماً نافعاً؟
المشهد الرابع:
والمشهد السابق ينقلنا إلى مشهد آخر أكثر تعقيداً في متلازمة الخصومة مع العلم؛ حيث تبنى بعض الشيوخ، وعلى رأسهم محمد متولي الشعراوي (1911-1998) نظرية أخرى، مفادها أنّ الله خلق العلماء غير المسلمين وسخرهم لخدمة المسلمين المؤمنين؛ حيث أطلّ علينا الشيخ الشعراوي في حوار متلفز، وجلس إلى جواره الشيخ محمد سيد طنطاوي (شيخ الأزهر السابق) يهزّ رأسه موافقاً.
استشهد الشيخ الشعراوي بآية {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} (سورة فٌصِّلت: آية 53)، وقال إنّه حين كان في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية، سئِل: هل من المعقول أن يذهب العلماء الذين خففوا عن البشرية آلامهم إلى الجحيم؟ فقال الشعراوي: وهل كانوا يعملونه من أجل الله، أم من أجل الإنسانية؟ لقد فعلوه للإنسانية، وقد خلدتهم، ثم استشهد الشعراوي بآية قرآنية أخرى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (سورة النور: آية 39)، بالتالي فإنّ الشيخ تراءى له أنّه من الطبيعي أن من يعمل لراحة الإنسانية مصيره الجحيم، إن لم يكن مسلماً، وهذا الخطاب الديني انتهك العقل والمنطق، وأدّى إلى تدمير العقول، وقد تولى وزير الإعلام السعودي السابق محمد عبده يماني (1940-2010) ترجمة ما قاله الشعراوي، على حدّ قول الأخير، من العربية إلى الإنجليزية.
وكلّ هذه المشاهد السابقة تجمعت لتصنع فصلاً في مسرحية الخصومة مع العلم.
عدم الترحّم على العلماء غير المسلمين لا يغير حقيقة أنّ ما قدموه علم ينتفع به واستفادت منه البشرية
إنّ محاولة تطويع العلوم لمسايرة النصوص الدينية، أو اعتبار العلوم والعلماء من المهرطقين، ليست أمراً قاصراً على المرجعيات الإسلامية وحدها، فكانت المناطحات بين حراس العقيدة والاكتشافات العلمية موجودة منذ الأزل، فلا ننسى أنّGalileo Galilei) )، عالم الفلك الإيطالي، حوكم عام 1616 أمام الكنيسة الكاثوليكية، كونه نشر نظرية العالم البولندي "Copernicus"، بشأن مركزية الشمس، ودوران الأرض حولها، وهو ما تنافى مع المعتقدات السائدة، ومرت أربعة قرون، واعتذرت الكنيسة عن خطيئتها في حق عالم الفلك "Galileo"، عام 2008؛ بل وصنعت الكنيسة تمثالاً له داخل جدران الفاتيكان، فوضع العقائد الدينية في مواجهة العلم من المعارك الخاسرة.
إنّ مناهضة حرّاس العقيدة للعلم لها أشكال مختلفة، فمحاكم التفتيش ليست الشكل الوحيد لشنّ الحروب على العلوم، فتغييب العقول تحت مسميات الإعجاز العلمي للقرآن الكريم أو للسنة النبوية، هو شكل آخر من أشكال رفض العلم ومنهجيته، ويقول الباحث عبد الله العمامي، في كتابه "التنظيمات الإرهابية في العالم الإسلامي"، الصادر عام 1993 عن دار أخبار اليوم، إنّ التيارات الدينية المنظمة لجأت لترويج الإعجاز العلمي للقرآن، لاستمالة الشباب الذي يأخذ بأسباب العلم، حتى لا ينصرف عن الدين"، وقام عبد الله العمامي برصد هذه الظاهرة في حركة الإخوان المسلمين في تونس، في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وأتذكّر أنّه في فترة رفقتي للأخوات المسلمات في مصر، عام 2003، كانت بعض الأخوات يقمن بتبنّي شرح الإعجاز العلمي للقرآن للعامة، التي كانت معظمها مأخوذة عمّا يكتبه د. زغلول النجار في جريدة "الأهرام" في مصر، التي أفردت له مساحات شاسعة للكتابة، لم تفردها للدكتور فؤاد زكريا صاحب كتاب (التفكير العلمي).
وتكمن إشكالية مروجي ثقافة الإعجاز العلمي في رفض أيّة نظرية علمية يرون أنّها مخالفة للقرآن والسنة، وهنا الأزمة؛ فالمنهجية العلمية مختلفة عن منهجية تفسير النصوص الدينية.
موت ستيفن هوكنغ فتح جراحاً قديمة في أزمة العقل العربي، والمأزق التاريخي في تناول العلوم
في كتابه "فوبيا العلم" يرصد الطبيب والكاتب المصري خالد منتصر، ما أسماه "الشماتة في العلم"؛ أي إنّه بمجرد دحض نظرية علمية قديمة، ترتفع أصوات المؤمنين مهللين فرحين بفشل العلم، لكن ما لا يدركونه؛ أنّ النظريات العلمية متغيرة ومكملة لبعضها بعضاً، فدحضها لا يعني انتصاراً للإعجاز العلمي للنصوص الدينية.
يعتمد منهج الإعجاز العلمي على انتظار الإعلان عن الاكتشافات، ومن ثم البحث عن آية أو نصّ ديني يناسبها، وتكمن المشكلة في تطور المكتشفات الكونية باستمرار، أما النصوص الدينية فهي ثابتة.
إنّ موت ستيفن هوكنغ فتح جراحاً قديمة في أزمة العقل العربي، والمأزق التاريخي في تناول العلوم، فالاكتشافات العلمية ليست مؤامرة كونية على الإسلام، ولا أحد يخفي أية حقائق خوفاً من إسلام البشرية، إلا أنّ هذه الأفكار تدلّ على حالة اللاطمأنينة العقائدية، التي نحاول سدّها بأساطير لا علاقة لها بالواقع العلمي.
الجانب الإيجابي في كلّ ما سبق؛ هو انتشار الأقلام والأصوات الشبابية المهتمة بالعلوم الفيزيائية والكونية، وهي الأقلام التي أخذت على عاتقها تبسيط ونشر النظريات العلمية بمنهجية دقيقة في العالم العربي، مستغلة الفضاء الرحب والإعلام البديل، وحتى إن كان هذا الجمهور صغيراً، إلّا أنّه يقع تحت مظلة "الكتلة الحرجة"، التي تواجه صناعة تغييب العقول والدروشة المجتمعية.