تعد صناعة النبيذ في قرية عابود قضاء رام الله بالضفة الغربية من الحرف التقليدية الواعدة، والتي تشتهر بها القرية منذ سنوات طويلة، حتى أضحى هذا المشروب منافساً أساسياً للمنتجات الأجنبية المستوردة من الخارج، لجودته ومذاقه المميز، وأصبحت موائد سكانها لا تخلو من النبيذ الأحمر على موائدها وفي مناسباتها الاجتماعية.
وعابود قرية أثرية تبعد 30 كيلو متراً إلى الغرب من مدينة رام الله، ويبلغ عدد سكانها 2667 نسمة، وتقدر مساحتها 15 ألف دونم، وينتمي غالبية سكان القرية إلى الطائفتين الأرثوذوكسية والكاثوليكية، وتضم عابود 9 كنائس أثرية، وكانت تعد ممراً مهماً للقوافل التجارية الرومانية التي كانت تمر منها وإلى العالم.
كيفية صناعة النبيذ
ولمعرفة كيفية صناعة النبيذ الأحمر في قرية عابود، والبحث عن أسرار هذه المهنة التقليدية واكتشاف طرق تصنيعها، تواجدت "حفريات" في منزل المواطن إلياس شحادة (46 عاماً) والذي يعمل في صناعة وتحضير النبيذ منذ 17 عاماً، حيث قال "ننتظر قدوم فصل الصيف كل عام لقطف أجود أنواع ثمار العنب، ونقوم بحفظها في سلال معينة لحمايتها من التلف وتجهيزها لعملية صناعة النبيذ".
واصطحبنا شحادة لداخل معمله لصناعة النبيذ في قبو منزله، والذي كان يمتلئ بالبراميل الخشبية والمعدنية وبعض المعدات التقليدية اللازمة لعصر العنب وصناعة النبيذ، وبدأ بإحضار كيس أبيض اللون يحتوي بداخله على كمية من العنب الأسود، ومن ثم قام بسكبه داخل حلة بلاستيكية وغسله جيداً بواسطة الماء، ومن ثم وضع كمية العنب بداخل مصفاة معدنية بعد الانتهاء من غسله وتجفيفه جيداً، والقيام بعصر العنب يدوياً لإخراج عصارة العنب منه.
يتابع شحادة: "بعد استخراج عصارة العنب، يتم وضعها في جالون بلاستيكي أو معدني ووضع كمية محددة من الخميرة عليها، وتترك لما يقارب من 4 إلى 6 أشهر، للوصول إلى درجة التخمر المناسبة، مع ضرورة اتباع عدة وسائل لضمان سلامة النبيذ في هذه المرحلة لعدم تعرضه للتلف، ويتطلب ذلك عدم السماح بدخول الهواء إلى النبيذ أثناء مرحلة التخمر، وأن لا تتجاوز درجة حرارة المكان 23 درجة مئوية، مع ترك ثقب أو فتحة صغيرة لخروج الغازات عبر أنبوب بلاستيكي يتم وصله بفوهة الجالونات أثناء مرحلة التخمير".
حرفة متوارثة
ويؤكد شحادة "بعد توقف الغازات عن الانبعاث من جالون التخمير، يترك النبيذ ويحفظ في براميل معدنية أو خشبية، وذلك بهدف تعتيقه لكي تستقر نكهة النبيذ المميزة، وبعد تجاوز هذه المرحلة يتم تعبئة كمية النبيذ بداخل عبوات بلاستيكية أو زجاجية".
غالبية مصانع النبيذ في قرية عابود حاصلة على تراخيص من قبل الجهات الرسمية ويعمل فيها أبناء الديانة المسيحية
ويقوم شحادة بتعليم وتوريث هذه المهنة لأبنائه، فقد "ورثتها عن أجدادي قبل سنوات عديدة للحفاظ عليها وضمان بقائها، فهي مهنة العائلة منذ أكثر من 60 عاماً، حتى لا تنتهي هذه المهنة بموت ممتهنيها، دون أن نقوم بتعليمها لأبنائنا وأحفادنا".
وعن الكمية التي يتم تحضيرها، يقول شحادة: "النبيذ الأحمر الذي أقوم بصناعته، جزءٌ منه يذهب للبيع لتحقيق عائد مالي كونها المهنة الوحيدة التي أعتاش منها أنا وأفراد أسرتي، والجزء الآخر يتم استخدامه من قبل أفراد العائلة، وتقديمه كهدايا لبعض الأصدقاء والأشخاص المقربين".
كيفية تخمير النبيذ
أما المواطن تيسير سابا (41 عاماً) والذي يعمل في صناعة النبيذ المنزلي منذ 11 عاماً، فيقول لـ "حفريات": "يتم الاتفاق سنوياً وتحديداً في شهر آب ( أغسطس) من كل عام، مع أحد مزارعي العنب بعد معاينة مزرعته ونوعية وجودة العنب المزروعة بداخلها من خلال تذوق ثمارها، وفي حال تبين لي أنّ جودة العنب مناسبة لإنتاج وصناعة النبيذ، يتم شراء جميع كمية العنب المتواجدة لتجهيزها لعملية صناعة النبيذ الأحمر والوردي والأبيض".
ويشرح سابا: "بعد القيام باستخراج السائل من العنب وعصره ذاتياً، يتم إضافة الجلوكوز بدلاً من السكر على عصارة العنب، قبل أن يتم وضعها في جالونات بلاستيكية أو خشبية للتخمير لإنتاج النبيذ الأبيض والوردي، وذلك لاحتياج هذه الأنواع لمدة زمنية أطول من غيرها لوصولها إلى مرحلة التخمر، أما النبيذ الأحمر فيتم وضعه في جالونات بلاستيكية وزجاجية صغيرة سعة 4 ليتر، ويتم إغلاقها بإحكام ببالونات حتى تنتفخ، ويتم الانتظار من شهرين إلى ثلاثة أشهر، لتعود البالونات إلى شكلها الطبيعي، وذلك يدلل على أنّ عملية التخمير قد انتهت".
السر في النكهة
ويكشف سابا: "السر في نكهة النبيذ تظهر جلياً في لونه وطعمه، ومصدر هاتين الخاصتين هما قشور العنب، والتي تلعب دوراً مهماً في تحديد لون وطعم النبيذ بمختلف أنواعه وأشكاله، وعادة ما يتم حفظ النبيذ الوردي والأبيض في براميل معدنية مقاومة للصدأ، بينما النبيذ الأحمر فيتم تخميره عادة في براميل خشبية أو بلاستيكية لاحتياجه لفترات أقل من غيره من الأنواع الأخرى ليكون جاهزاً لشربه وتناوله".
أتقن سابا صناعة النبيذ عن آبائه وأجداده الذين عملوا فيها منذ أكثر من 56 عاماً ويعتزم توريثها لأبنائه
ويردف سابا: "خلال مرحلة التخمير يتطلب ذلك تذوق النبيذ باستمرار للتأكد من أنّ مرحلة التخمير تسير على ما يرام، وفي هذه المرحلة يكون طعم النبيذ مائلاً إلى الحموضة، ويبقى النبيذ لمدة 6 أشهر لتمتزج جميع مكوناته مع بعضها البعض، وبعد التأكد من مذاق النبيذ وجودته يتم إخراجه من البراميل وتعبئته في زجاجات".
وأتقن سابا هذه الصناعة التقليدية عن آبائه وأجداده والذين استمروا بالعمل بها منذ أكثر من 56 عاماً، وهو، كما شحادة، يعتزم "توريثها لأبنائي الخمسة لكي يحافظوا على استمرار صناعة النبيذ في داخل العائلة وتوريثها لأبنائهم من بعدهم"، مبيناً أنّ معظم الكمية التي يتم إنتاجها من النبيذ يتم بيعها في داخل القرية، ويتم الاحتفاظ بكميات أخرى بداخل المنزل للاستخدام الشخصي.
اقرأ أيضاً: قصيدة خامنئي الجديدة... بين "النبيذ الخالص والسم القاتل"
ويقوم سابا "بتخزين وشراء العنب الأسود مع بداية عرضه في أسواق الضفة الغربية في منتصف شهر يوليو (تموز) من كل عام لصناعة النبيذ، حيث إنّ "الكيلو جرام الواحد من العنب ينتج نصف ليتر من النبيذ" .
تراخيص مسبقة
يذكر أنّ غالبية مصانع النبيذ في قرية عابود "حاصلة على تراخيص مسبقة من قبل الجهات الرسمية الحكومية"، بحسب مدير مركز حماية مكافحة المخدرات والكحول، منذر صافي، الذي أبلغ "حفريات" بأنه "يسمح للعاملين بممارسة هذه الحرفة دون أي قيود تذكر، وخاصة أن أكثر من 50% من سكان القرية هم من أصحاب الديانة المسيحية، والذين يمتلكون جُل مصانع النبيذ التقليدية في القرية".
ويضيف صافي أنّ المادة الرابعة من قانون المسكرات الفلسطيني رقم (15) لسنة 1953 تنص على أنه "لا يجوز لأي شخص أن يمتلك أو يقتني جهازاً للتقطير لاستخدامه في صناعة واعداد المسكرات ما لم يكن قد حصل على رخصة بذلك، وكل من يمتلك أو يصنع المسكرات خلافاً للقانون يعاقب بغرامة مالية لا تزيد عن مائة دينار أردني".
وتساهم مصانع النبيذ في تشغيل عاملين وتقليل نسبة البطالة التي بلغت في الضفة الغربية 19.1%، وفق إحصائية صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني للعام 2018.