صراع التنورة والحجاب: هل بات مظهر المرأة مقياساً للنهضة؟

صراع التنورة والحجاب: هل بات مظهر المرأة مقياساً للنهضة؟


26/01/2022

نشرتُ صورة لجدتي بتنورة قصيرة في طريقها لمدرسة السنية العام 1942 ونالت إعجاباً كبيراً وانتشاراً واسعاً، تخللته تعليقات من كبار العلمانيين في مصر، فقالوا إنّ هذه هي مصر قبل الوهابية حين كانت تُحترم المرأة.

التعليق بات عالقاً في ذهني، فجدتي ذات التنورة لم تسمح لها أسرتها بدخول الجامعة، بالرغم من أنّ النساء المصريات خضن معارك ضارية في مجال المساواة في التعليم الجامعي منذ العام 1928، لذا فإنّ تنورة جدتي لم تكن رمزاً مطلقاً للحرية؛ فالفتيات واجهن ثقافة محافظة شديدة في ذلك الزمن، ولم يكن طريقهن مفروشاً بالورود؛ لكنّ العلمانيين المعاصرين قاموا بتعميم الاستثناء النضالي، وجعلوا منه صورة وردية، فأفرغوا النضال من محتواه الحقيقي.

اقرأ أيضاً: العلمانية تعادل "العصر الجاهلي" في الفكر الإخواني

اختفاء التنورة والفستان ليحل محلهما الحجاب والخمار كان سردية كثير من العلمانيين المعاصرين في التحسر على الزمن الوردي للنساء حسب تخيلاتهم الذهنية!

الحجاب ما بين الإسلام السياسي والدعوي

بات حجاب المرأة ونقابها جزءاً من معركة الإسلام السياسي في نسخته الحديثة في القرن العشرين، وبرغم أنّ هذه المعركة ارتبطت في الذهنية العامة بحقبة السبعينيات عقب هزيمة 1967، إلا أنّها كانت سابقة لهذا الزمن بعدة عقود؛ حيث اشتعلت معركة الحفاظ على الحجاب ضد السفور في عشرينيات القرن الماضي.

الإشكالية ليست في دعوة خلع الحجاب ولكن في اختزال قضية تحرر المرأة في خلع الحجاب وارتداء الفستان

وكلمة السفور مسمعها غير معناها، حيث استُخدم اللفظ لتحقير النساء غير المحجبات، غير أنّ السفور في المعجم الوسيط هو كشف الوجه، والرجل الذي يخلع العمامة نقول عنه سفر العمامة عن رأسه، وحين تشرق الشمس نقول سفرت الشمس وأشرق النهار.

وحين أرادت مجموعة من رواد الفكر المصري إصدار مجلة أسبوعية لتناقش قضايا الإصلاح والحداثة العام 1915 أسموها "السفور" وعُرفوا بـ "جماعة السفور".

تراجعت حركة السفور واتشحت مصر بالنقاب والحجاب الذي بات ظاهرة مجتمعية ملحوظة منذ عقدين من الزمان، وتوغل الحجاب في المدينة وحتى المجتمعات المخملية، فظهرت متاجر محجبات عرضت أزياءً حديثه للحجاب العصري، وأضحى الحجاب طبقياً في صورته، فأضحت العين المجردة تفرق بين حجاب العوام وحجاب النخبة المجتمعية.

اقرأ أيضاً: حجاب المرأة بين سلطة التدين ووصاية العلمانية

الحجاب كان وسيلة الإسلام السياسي للهيمنة المجتمعية، وتبلورت هذه النظرية على لسان د.عصام العريان، وهو من أبرز قيادات جماعة الإخوان المسلمين في مصر، فقال نصاً في ندوة مسجلة العام 2012 إبان صعود الإخوان لسدة الحكم في مصر:

"دخلت كلية الطب عام 1970 و لم تكن هناك سوى طالبة واحدة محجبة بالدفعة، والجماعة حين بدأت تمارس نشاطها الإسلامي والدعوي انتشر الحجاب دون إكراه، وكل ما كانوا يفعلونه هو توزيع منشورات وكتيبات مثل كتيب (إلى كل فتاة تؤمن بالله) للشيخ الداعية الإسلامي السوري محمد سعيد رمضان البوطي، ومن بعدها بدأت الجماعة تفكر في توفير طُرح تصلح للحجاب، فتعاملوا مع مصانع بعينها ومع المنطقة الحرة في بورسعيد بعد 1973 لتوفير احتياجات تكفي الفتيات الراغبات في الحجاب حينها؛ حيث إنّ أزياء المحجبات لم تكن منتشرة، وتم بيع الحجاب بسعر التكلفة، وهكذا لم يمضِ سوى 5 سنوات و تحجبت ثلث زميلات الكلية وكل شيء بالإقناع وهكذا بدأت الجماعة مسيرة الحكم مع تحجيب النساء".

بات حجاب المرأة ونقابها جزءاً من معركة الإسلام السياسي في نسخته الحديثة في القرن العشرين

إلا أنّ ظاهرة دعوة النساء للعودة إلى الحجاب لم تكن قاصرة على التنظيمات الإسلامية المناوئة للسلطة؛ بل إنّ شيوخ الإسلام الدعوي الذين ارتبطت انتماءاتهم السياسية بالسلطة الحاكمة في مصر وغيرها، سايروا الموجة بكل قوة، فتبنى الشيخ محمد متولى الشعراوي (1911-1998) حملات للحجاب بالرغم أنه لا ينتمي للحركات الإسلامية التنظيمية، فالاختلافات التنظيمية لا تعني اختلافات فكرية، وكان الشيخ الشعراوي يرى أنّ المرأة السافرة تُلح على الرجال إن بدت زينتها (والمقصود بـ"تلح" أي تعرض نفسها).

أصبح الحجاب سائداً في مصر، في مطلع الألفية الثالثة، ولم يعد مرتبطاً بالانخراط في التنظيمات الإسلامية، الانتشار كان ناتجاً عن نشاط الدعاة الجدد الذين نفضوا أيديهم من الإخوان ظاهرياً، وناتجاً عن نشاط الأخوات في المساجد والمصالح الحكومية، وأصبحت الدعوة إلى الحجاب أشبه بظاهرة الدومونيوDomino Effect؛ فانتقلت الدعوة للحجاب من التنظيمات إلى المشهد المجتمعي بسلاسة، فأصبحت مواطنات ومواطنون بلا انتماءات تنظيمية يدعون إليه بإلحاح، وشعرت غير المحجبات بغربة مجتمعية طالت سمعتهن إن لم ينصعن إلى الجموع.

اقرأ أيضاً: متلازمة المرأة والغواية: من الموروث الديني إلى الثقافة العامة

صعد الإخوان والسلفيون لسدة الحكم التشريعي في العام 2012، وبدأت مجموعات علمانية تتشكل على الأرض، وظهرت أقلام علمانية التوجه، جعلت من خلع الحجاب وارتداء التنورات سبيلاً للتنوير واستعادة أمجاد الحداثة.

انتشرت صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، نُشرت من خلالها صور قديمة لفتيات مصريات أنيقات يرتدين الفساتين والتنورات ومع تلك الصور رفعوا شعار "مصر قبل الهجمة الوهابية"، وهذه السردية في حاجة للتناول بشكل ُمفصل...

ثورة الجسد..

استخدمت النساء في ثقافات مختلفة قضية التحرر من الملابس نوعاً من التمرد على المجتمع، فشهدت الثلاثينيات في أمريكا ثورة هائلة من أجل ارتداء المرأة للبنطال، وقادت هذه الحملة الممثلة كاثرين هيبورن، التي اشتهرت بتقديم أدوار عن المرأة المثقفة العاملة المستقلة، وتمردت الفتيات في الجامعات الأمريكية في ستينيات القرن الماضي كذلك على حرمانهن من ارتداء البنطال، وكان الانتصار لهذا المطلب مدوياً ضمن حركة الحقوق الشخصية؛ فالتمرد على نمط الملابس كجزء من التحرر ليس جديداً.

اختزال العلمانيين في مصر لإشكالية الحداثة من خلال حملات ارتداء التنورة والفستان يشوبها كثير من الرؤية المنقوصة

لهذا فإنّ التمرد على الحجاب في الثقافة الإسلامية، خاصة ممن ُيجبرن عليه، اعتُبر تمرداً على الحق المسلوب في حرية التحرر منه، الإجبار قد يأتي في صورة التعنيف البدني أو الترويع المعنوي من الآخرة، فانتشرت حركات الدعوة لخلع الحجاب على أساس هذا السياق، وتناولت مدونات عدة قصصاً مؤلمة عن ضرب وتشويه فتيات رفضن ارتداء الحجاب في مجتمعاتهن الشعبوية، وصلت لتكسير ضلوعهن أو منعهن من الخروج.

لكن الإشكالية ليست في دعوة خلع الحجاب ولكن في اختزال قضية تحرر المرأة في خلع الحجاب وارتداء الفستان، عن طريق تقديم صورة وردية لحقوق المرأة في مصر قبل الحجاب. والأكثر دقة هو أن نقول مصر قبل عودة انتشار الحجاب وليس مصر قبل الحجاب، حيث توهم عبارة (مصر قبل الحجاب) بأنّه مستجد على المجتمع، إلا أنّ فترة التمرد عليه كانت وجيزة.

اقرأ أيضاً: هل يتعارض الإسلام مع العلمانية؟

ولا شك أن التجييش الخارجي لعب دوراً مفصلياً في نشر ثقافة الحجاب والنقاب من جديد في مصر، إلا أنّ هذا لا يعني بالضرورة أن المرأة كانت تعيش أبهى صور الحداثة قبل انتشار الحجاب، وإنما قد يعني أن الحداثة كانت قشرية فلم تصمد أمام التحديات الثقافية.

في العام 2012، بدأت حملة نشر صور فتيات مصريات في حقبة الثلاثينيات وحتى الستينيات، وكانت التعليقات مفادها هو الرغبة في العودة بالمرأة لهذا الزمن الذي تم تصويره كواحة الليبرالية، وهنا لا بد من طرح بعض النقاط للمراجعات الفكرية:

المرأة لم يكن مسموحاً لها الترشح أو الانتخاب النيابي في العصر الملكي الليبرالي قبل 1952

أولاً: الصور منتقاة بشكل كبير، لا تمثل القاعدة العريضة من المشهد الثقافي، الأمر أشبه بتصوير منزل جميل اليوم في 2018 ونشره بعد عشر سنوات ومقارنته مع مساكن للعشوائيين لنتحدث عن تدهور الحال من المسكن الجميل للعشوائية.

فالمقارنة هنا غير ثاقبة واعتمدت على اختزال الواقع في صور بعينها لا يمكن تعميمها، علماً بأن الفوتوغرافيا لم تكن في متناول الجميع، كما هو الحال في زمن كاميرات الهواتف النقالة، لهذا تم التغاضي عن صور السيدات اللاتي كن يعانين من العوز ويمثلن جانباً لا بأس به من المجتمع المصري، ولم تكن ثقافة التنورة والفستان قد وصلت إليهن بعد.

ثانياً: تم الترويج لهذه الصور على أساس خلفيات سياسية؛ فالمجموعات العلمانية المؤيدة للنظام الملكي قبل 1952 حاولت ربط ثقافة الفستان والتنورة بحقبة الملكية، أما المجموعات العلمانية المؤيدة للحقبة الناصرية، حاولت ربط صور النساء المتحررات برفض ناصر لفرض الحجاب عليهن حين طالبه مرشد جماعة الإخوان المسلمين مأمون الهضيبي بذلك العام 1953.

اقرأ أيضاً: كيف تحولت عروس الصعيد المصري إلى عاصمة الفتنة الطائفية؟

لكن على سبيل المثال لا الحصر، المرأة لم يكن مسموحاً لها الترشح أو الانتخاب النيابي في العصر الملكي الليبرالي قبل 1952، بل دفع البلاط الملكي الأزهر للمواجهة، فأيد الأزهر فتوى الشيخ حسنين مخلوف التي نهت النساء عن التردد على المؤتمرات والمجالس النيابية، وأوصى الأزهرُ بالتزام الحشمة في الملابس. أما في عهد الرئيس جمال عبدالناصر الذي ُمنحت فيه المرأة حق التصويت والترشح (1957) ، فكان نفس العصر الذي أصدر فيه ناصر مرسوماً رئاسياً العام 1959 يمنع فيه الزوجات من السفر بدون إذن كتابي من الزوج، وهو القانون الذي ناضلت الحركة الحقوقيه ضده حتى العام 2000.

ثالثاً: عانت المرأة في زمن ارتداء الفساتين والتنورات من خطاب أصولي وذكوري، فعلى المستوى الثقافي شهدت الساحة الثقافية كتابات عن عودة المرأة للمنزل، وهو خطاب تبناه الأديب المصري عباس محمود العقاد من خلال كتابه "المرأة في القرآن"، وكان ذلك قبل زمن ما يعرف بالمد الوهابي لدى العلمانيين الذين تغاضوا عن تحليل السلفية الكامنة في المجتمع، وليست تلك الوافدة إليها من شبه الجزيرة العربية فحسب؛ لأنّ السلفية ارتبطت لدى العلمانيين المعاصرين بالجلباب القصير والذقن الطويل أو النقاب، لكن الفكر السلفي الكامن تحت عباءة الحداثة لم ينل الاهتمام المرجو. 

ظاهرة دعوة النساء للعودة إلى الحجاب لم تكن قاصرة على التنظيمات الإسلامية المناوئة للسلطة

رابعاً: ارتبط خطاب الحقوق النسوي بتكريم الإسلام للمرأة وهو ما فعلته كبار المناضلات النسويات، ومن بينهن درية شفيق التي نالت رسالة الدكتوراه من السوربون عن المرأة في الإسلام، فبات الخطاب الحقوقي مقتصراً على تكريم المرأة شرعياً، مما أدخل كثيراً من الحقوق الأساسية في متاهة التأويلات الفقهية التي عادة ما ينتصر فيها الأصوليين على الفكر الحداثي القشري الذي دخل معارك تحرير المرأة وهو يقدّم قدماً ويؤخر الأخرى.

خامساً: مصر في عصر التنورات والفساتين كانت تعاني من انتشار ظاهرة ختان الإناث، حسب إفادة علي باشا إبراهيم أول نقيب للأطباء العام 1928، ولم ُيسمح بالحديث عن هذه الظاهرة إعلامياً في حقبة الستينيات، وتعرضت د.نوال السعداوي لحرب ضروس مجتمعية وسلطوية إبان تبنيها هذه القضية منذ العام 1968، ولم تجرم مصر الختان إلا العام 2008.

اقرأ أيضاً: شيخة تونس سعاد عبد الرحيم لـ"حفريات": الحجاب حرية شخصية

أما قضايا الأحوال الشخصية في زمن التنورة كانت وما تزال تعاني من مثول النساء أمام القاضي في قضايا الطاعة والنشوز، ولم تحظ المرأة في عصر التنورة بحق المساواة في الطلاق، أو بحق تولي مناصب القضاء في زمن الفستان، حيث نالت هذا الحق العام 2003 .

لهذا فإن اختزال العلمانيين في مصر لإشكالية الحداثة من خلال حملات ارتداء التنورة والفستان يشوبها كثير من الرؤية المنقوصة التي تعتمد على الترويج لزمن وردي ويبتعد عن التأريخ لزمن نضالي، وقراءة التاريخ ليست رفاهية لكنها مدخل أساسي لفهم تعثر الحداثة في عقل المسلم المعاصر سواء كانت تجاه قضية المرأة أم غيرها.

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية