شر البلية يضحك... أحياناً

شر البلية يضحك... أحياناً


20/07/2020

لست مع مقولة "شرّ البلية ما يضحك" على إطلاقها؛ ذلك أنّ البلية توجع بالتأكيد، وأكثرها شرّاً أكثرها إيجاعاً، بكلّ تأكيد. لكن عليّ أن أعترف بأنّ "شر البلية يضحك...أحياناً"، ذلك حين لا نملك إزاءه إلا رؤية الجانب الكوميدي بعد أن قهرتنا جوانبه المأساوية.

وأظن أنّ من أكثر البلايا التي رُزئت بها مجتمعاتنا العربية صعود قوى الإسلام السياسي، وأنّ شرّ هذه البلايا قد تجاوز الحدّ حين انتقلت من طور الدعوة إلى طور الإرغام والعنف، ثم كانت الطامة الكبرى حين دخولها طور التمكين. ورغم هذا، وعكس الآراء السائدة، أرى أنّ الإسلاميين، فرادى وزرافات وتنظيمات، يتّسمون بخفة الظلّ، رغم جهاماتهم، ولو تنازلوا عن العنف واكتفوا بالخطاب لاستمتعنا جميعاً، بهم ومعهم، كظاهرة كوميدية فذة.

السبعينيات من أزهى عصور الكوميديا الإيديولوجية والسياسية؛ حيث لعب الإسلاميون دور الممثل الثاني أو السنّيد بجوار السادات

ما زلت أذكر الشيخ كشك وهو يبتهل إلى الله بعلوّ صوته كي يأخذ أم كلثوم، قائلاً (بخفة دم شديدة لا تليق بالدعاء): "امرأة في التسعين من عمرها تقول: خذني لحنانك خذني... أخذها الله أخذ عزيز مقتدر"، ويقصد أغنية "إنت عمري". وفي خطبة أخرى يشكر الله الذي جعل في أمّة محمد "رجلاً يتنفس تحت الماء"، ويقصد بالطبع عبد الحليم حافظ في أغنيته الشهيرة "رسالة من تحت الماء".

والحقيقة أنّ الشيخ كشك كان عاشقاً للغناء، ولصوت أم كلثوم تحديداً، لكنه في ذلك الوقت كان يغازل نزوعاً تدينياً شكلياً لدى شباب الجماعات الإسلامية الذين أصبحوا ملء السمع والبصر في السبعينيات، وما أدراك بالسبعينيات؟ كم من كوميديا سوداء شهدتها تلك المرحلة من تاريخ مصر والمنطقة العربية؟ فمن جانبه، رفع الرئيس السادات الستار عن مسرحية الموسم وكلّ موسم، حين أعلن دفن المومياوات الفرعونية دفناً إسلامياً، وقبلها كان قد قام بارتكاب أكبر جريمة في حقّ الثقافة والفكر، حين أمر بحرق النسخ التراثية القديمة من "ألف ليلة وليلة" باعتبارها تحوي عبارات منافية للأخلاق العامة. لقد فتح مزاد التدين الشكلي المتشدد، وفتح معه مزاد الكوميديا لاجتذاب العناصر المؤيدة، فالسادات أصبح الرئيس المؤمن، وربّ العائلة المصرية الذي لا يقبل خروجاً على النص، والإخوان المسلمون يرتعون في وسائل الإعلام، والانفتاح الاقتصادي يطيح بالصناعة الوطنية والاستقلال السياسي فيثري القلة ويذلّ الفقر أعناق الفقراء.

على أية حال، ودون الاستطراد في الأمثلة، نكتفي بالإشارة إلى افتتاح عصر من أزهى عصور الكوميديا الإيديولوجية والسياسية، لعب الإسلاميون دور الممثل الثاني أو السنّيد بجوار السادات، ثم قتلوه ليخلوَ لهم المسرح الإيديولوجي الميلو درامي والكوميدي على حد سواء. فسيطروا وتحكّموا، حتى أصبح الجميع يخطب ودّهم، ويرفع شعاراتهم، بما فيها حزب الوفد رائد الليبرالية المصرية.

طوال ما تبقى من الألفية الأولى، وما انصرم من الألفية الثانية، استفرد الإسلاميون بنا، فأبكونا، وأضحكونا، واستخفّوا بعقولنا في الحالتين. لكنهم نجحوا بلا شك في جرّ كافة المؤسسات الدينية في ذيلهم؛ فانهالت على رؤوسنا فتاوى لشيوخ الوهابية وأتباعهم لتحرّم زيارة المقابر الفرعونية والأهرامات، وتصادر الكتب وتطارد الكتّاب، وتحرّم التمثيل وتكفّر الغناء، مشيعة في الجو نفساً طريفاً أليفاً.

طوال ما تبقى من الألفية الأولى، وما انصرم من الألفية الثانية، استفرد الإسلاميون بنا، فأبكونا وأضحكونا، واستخفّوا بعقولنا في الحالتين

وبرغم جرعة الكوميديا الهائلة التي تجرّعها المصريون طوال تلك الحقب المتتالية، إلا أنّ الله كان يدّخر الجرعة الفذّة والمميتة حتى يصعد الإسلاميون إلى سدّة العرش عام 2013، وكافأ الله المصريين على صبرهم بما فاجأهم به من إبداعات الرئيس الإخواني الدكتور محمد مرسي، عليه رحمة الله. فبعد أن نام الشعب المصري على الخبر الحزين الخاص باختطاف سبعة جنود مصريين في شمال سيناء على يد الجماعات الإسلامية الإرهابية، أيقظه الرئيس مرسي على ألطف وأرق توجيه لوزيري الدفاع والإنتاج الحربي، والداخلية، ورئيس المخابرات العامة، بالسعي لإطلاق سراح الجنود، ولكن مع الحرص بشدة على حياة الخاطفين والمخطوفين. لقد تصرّف الرئيس كعضو في تنظيم إسلامي يفاوض تنظيماً إسلامياً آخر، حريصاً على حياة كلّ الأخوة.

يا لها من كوميديا سوداء عاشها المصريون، متفائلين رغم كلّ شيء، ضحوكين رغم الألم، حتى مات كثير من الشعب حزناً وغمّاً، ومات أكثر منهم ضحكاً ويأساً، لكن رغم ذلك بقي معظم المصريين على قيد الحياة لطفاً ورحمة من خالقهم لا أكثر.

الصفحة الرئيسية