"قرار ترامب" ضربة لعملية السلام وقبلة الحياة للمتطرفين والمتشددين

"قرار ترامب" ضربة لعملية السلام وقبلة الحياة للمتطرفين والمتشددين


23/12/2017

ثمَّة تداعيات كثيرة لقرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، والبدء في الإجراءات التنفيذية لنقل السفارة الأميركية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، وزوايا متنوعة يمكن النظر إليه من خلالها. لكن أخطر ما في القرار، من وجهة نظري، أنه أعاد الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي مرة أخرى إلى بعده الديني، بصفته صراعاً دينياً عقائدياً بين المسلمين واليهود لا مجال فيه للحلول الوسط، بعد الجهود الجبارة التي بُذِلت على مدى سنوات طويلة، ولعبت فيها الدول العربية المعتدلة دوراً كبيراً، لتجريد الصراع من هذا البعد الديني، وتحويله إلى صراع سياسي يتم حلُّه من خلال الأطر والآليات السياسية. وبذلك فإن الرئيس الأميركي قد أضر، بهذا القرار، بإسرائيل، ولم ينفعها، لأنه وضعها في مواجهة المسلمين في كل مكان، وليس في مواجهة الفلسطينيين أو العرب فقط، وهذا يضع المنطقة كلها أمام خطر داهم، لأن الصراعات الدينية هي أخطر أنواع الصراعات، هكذا يقول التاريخ في كل مكان، في منطقتنا وفي غيرها. ولعل الحروب الدينية، التي شهدتها أوروبا على مدى ثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت خلال الفترة من عام 1618 إلى عام 1648، هي خير شاهد على ذلك، بما تسبَّبت فيه من كوارث ومآسٍ، ومقتل ملايين البشر، وإغراق أوروبا بالحروب والصراعات التي أكلت الأخضر واليابس.

وربما هذه التجربة المرَّة للحروب الدينية التي عاشتها أوروبا هي التي تجعل دولها أكثر إدراكاً ووعياً من الولايات المتحدة الأميركية بخطورة قضية القدس وحساسيتها الدينية والعقائدية لدى نحو مليار ونصف المليار مسلم في العالم.

ولعل ما يساعد على عودة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي إلى بعده الديني مرة أخرى أن القرار الخاص بالقدس قد منح قبلة الحياة للتيار الديني المتطرف، الذي كان يعاني سكرات الموت بفعل الضربات القوية التي تعرَّض لها خلال السنوات الماضية، حيث عاد هذا التيار يرفع صوته، ويردِّد شعاراته الدينية حول العداء مع اليهود، وحتمية المواجهة الدينية معهم، ويوجه سهام نقده إلى الحكومات العربية المعتدلة، وإلى مسار السلام برمته، ويغازل الشعوب العربية والإسلامية، ويدعوها إلى الثورة والانتفاض، مستغلاً أن القدس ليست كغيرها من القضايا في العملية السلمية، فهي ليست المستوطنات أو اللاجئين أو المياه أو غيرها، ولكنها ثالث الحرمين الشريفين، ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولها في قلوب المسلمين منزلة عالية، ورمزية خاصة في التاريخ والعقيدة الإسلاميَّين. وأعتقد أن إدارة ترامب قد أخطأت تقدير هذه الأهمية للقدس، وما يمكن أن يؤدي إليه قرار نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إليها، من عواقب وآثار سلبية بعيدة المدى في مجمل سياسات الولايات المتحدة الأميركية ومصالحها في العالمَين العربي والإسلامي.
وفضلاً عما سبق، فإن القرار حول القدس قد وجَّه ضربة إلى كل الدعوات والتحركات والمبادرات الجدِّية والمخلصة للإصلاح الديني، التي انطلقت خلال السنوات الماضية في المنطقة العربية والإسلامية، وبدأت بالفعل تؤتي ثمارها، وتقوم على التعايش والتسامح وقبول الآخر ورفض العنف والتمييز على أساس الدين أو المذهب أو العرق، أو غيرها، لأن القرار يعيد منطق الصراع الديني الإسلامي- اليهودي إلى السطح مرة أخرى، ويرفع من صوت المتعصبين والمتشددين ودعاة الصدام في مواجهة أصوات الاعتدال والتسامح والحوار، ولعل نظرة سريعة إلى ردود الأفعال في العالمين العربي والإسلامي حول قرار الرئيس ترامب بشأن القدس تكشف عن ذلك بوضوح، حيث عاد الشحن الديني من جديد ليس ضد إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية فحسب، وإنما ضد اليهود بشكل عام.

واتصالاً بما سبق، فإن قرار الرئيس دونالد ترامب بشأن القدس يضع الدول العربية والإسلامية المعتدلة، التي تعاملت مع الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي من منطلقات سياسية وليست دينية، ودافعت عن عملية السلام، وعدَّتها الخيار الاستراتيجي لحل القضية الفلسطينية، وعملت على دعمها ودفعها إلى الأمام على مدى سنوات طويلة، بل قدمت مبادرات تاريخية لمساعدتها على التقدم، وأهمها مبادرة السلام العربية في عام 2002، يضعها في موقف صعب وحرج، وفي المقابل يدعم مواقف المتطرفين والمتشددين والمهووسين بالحروب الدينية والمعارضين لمسار السلام والمزايدين في المنطقتين العربية والإسلامية، ويعلي صوتهم، ويتيح لهم الفرصة لتحريك مشاعر الناس وإثارة الاحتقانات والاضطرابات في المنطقة لتحقيق أهداف خاصة، ربما لا تكون لها علاقة بالقدس أو فلسطين، وهذا من شأنه أن يضيف أسباباً جديدة لعدم الاستقرار في منطقة لا ينقصها مزيد من أسباب الاضطراب والفوضى.

وفي الوقت الذي يضع فيه القرار الأميركي حول القدس الدول العربية والإسلامية المعتدلة في موقف صعب، فإنه يقدم خدمة مجانية إلى دولة دينية متطرفة هي إيران، وأتباعها من الميليشيات الطائفية المسلحة، لأنه يصرف نظر الشعوب العربية والإسلامية عن الخطر الذي تمثله، والتهديد الذي تجسِّده، ويوجهه وجهة أخرى هي إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية. ومن جانبها ركبت إيران الموجة، واستغلت الموقف، وأعادت رفع شعاراتها حول الدفاع عن المسلمين والقدس والفلسطينيين وغيرها من الشعارات الأخرى المخادعة، لدغدغة مشاعر العرب والمسلمين، وإظهار الولايات المتحدة الأميركية في صورة الدولة العدو لهم، وليست الحليفة معهم. والغريب في الأمر أن الرئيس ترامب رأى، منذ مجيئه إلى السلطة، أن إيران هي الخطر الأكبر الذي يجب مواجهته بالتعاون مع الدول الإسلامية والعربية المعتدلة، وهذا ما جسدته القمة العربية الإسلامية- الأميركية بالرياض في مايو 2017، لكنه بقراره حول القدس قدم إليها، أي إيران وما يرتبط بها من ميليشيات وقوى وجماعات متطرفة، فرصة استراتيجية كبرى، فيما وضع حلفاءه من الدول العربية المعتدلة، التي تواجه إيران ومشروعها التوسعي والإرهابي، في موقف معقد.

إن قرار الرئيس ترامب حول القدس، إضافة إلى كل ما سبق، يعني نهاية دور الولايات المتحدة الأميركية كطرف راعٍ وضامن للعملية السلمية، وتجريد عملية السلام نفسها من مضمونها وجدواها، ونسف الأسس التي قامت عليها منذ انطلاقها في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، لأن قضية القدس قضية محورية وجوهرية فيها، بل إن مستقبل السلام، سواء بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أو بين العرب والإسرائيليين، أو حتى بين المسلمين والإسرائيليين، مرتبط بإيجاد تسوية عادلة لهذه القضية، وثمَّة اتفاق دولي واعتراف أميركي سابق بأن حل قضية القدس يجب أن يكون من خلال مسار التسوية، وعبر المفاوضات، وفي إطار قضايا الحل النهائي، وليس ضمن أي إطار آخر يقوم على فرض الأمر الواقع والخطوات الفردية والقسرية.

ثمَّة أطراف دولية كثيرة لعبت وتلعب أدواراً مختلفة في عملية السلام العربية-الإسرائيلية منذ انطلاقها، لكن يبقى الدور الأميركي هو الدور المحوري والحاسم، الذي لا يمكن تحقيق السلام من دونه، لأن الولايات المتحدة الأميركية هي الطرف العالمي الوحيد الذي يملك القدرة على تغيير مواقف إسرائيل، ودفعها إلى الرضوخ لالتزامات السلام، وضمان هذا التنفيذ، ورعايته. وهذا يكشف عن مدى الخطورة الكامنة في قرار الرئيس الأميركي حول القدس، لأن واشنطن بهذا القرار انحازت إلى إسرائيل بشكل كامل، ولم تعد مصدر ثقة لدى الفلسطينيين أو العرب. ومن الواضح أن الإدارة الأميركية الحالية تتبنَّى بشكل كامل مفهوم «السلام الإسرائيلي» الذي يقوم على فرض الأمر الواقع (كما هو الحال بالنسبة إلى سياسة بناء المستوطنات التي تهدف إلى خلق أمر واقع جغرافي وديموغرافي في الأراضي المحتلة يتم فرضه على الفلسطينيين)، والتخلي عن الأسس التي قامت عليها عملية السلام منذ بدايتها، وأهمها مبدأ الأرض مقابل السلام، وحل الدولتين، حتى إن الرئيس دونالد ترامب في بيانه بشأن نقل السفارة الأميركية إلى القدس ربط حل الدولتين بـ«موافقة الطرفين» عليه، ولم ينظر إليه بوصفه هدفاً أساسياً غير قابل للنقاش بصرف النظر عن موافقة إسرائيل من عدمها، وقال في استقباله لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في البيت الأبيض في الخامس عشر من فبراير 2017، إن حل الدولتين ليس السبيل الوحيد من أجل السلام! وقال «البيت الأبيض» حينها إن الولايات المتحدة الأميركية لن تصرَّ بعد الآن على هذا الحل. وهذا يُعَدُّ بمنزلة «انقلاب» كامل في الموقف الأميركي يجعله متماهياً مع موقف نتنياهو الذي لا يعترف بمبدأ «الأرض مقابل السلام»، ويطرح، منذ أن رأس الحكومة الإسرائيلية للمرة الأولى في عام 1996، بدلاً منه مبدأً آخر هو مبدأ «السلام مقابل السلام». إن كل الرؤساء الأميركيين السابقين كانوا ملتزمين أمن إسرائيل منذ إنشائها في عام 1948، ولم يكونوا أقل حرصاً من الرئيس ترامب على دعمها وحمايتها، لكن على الرغم من ذلك امتنع بيل كلينتون وبوش الابن وباراك أوباما عن تنفيذ قانون الكونجرس الأميركي الصادر في عام 1995 بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، اقتناعاً بأن أي قرار فردي حول القدس، لا يراعي حساسيتها الدينية والتاريخية، هو لعب بالنار لا يمكن توقع نتائجه، أو قُلْ كوارثه ومآسيه.

ربما تتراجع قضية فلسطين في قائمة الاهتمامات العربية والإسلامية في بعض المراحل لأسباب مختلفة، وربما ينشغل العرب والمسلمون في همومهم وقضاياهم الخاصة، وربما تتسع الخلافات العربية- العربية، أو الإسلامية- الإسلامية، بحيث لا يمكن تصور موقف عربي أو إسلامي موحَّد بشأن أي قضية، لكن تظل قضية القدس ذات وضع خاص، لأنها تتصل بالدين والعقيدة، ومن ثم تتراجع الأولويات والهموم الخاصة للمسلمين والعرب، وتتوارى خلافاتهم، إذا تعرضت القدس لتهديد أو اعتداء، وهذا ما لا تدركه إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، أو تسيئان تقدير حساباتهما بشأنه.

ولعل ردود الفعل العربية والإسلامية والعالمية، التي حدثت، والتي من المتوقَّع أن تحدث، على القرار الأميركي بشأن القدس تكون درساً مهماً يجب استيعابه في مقبل الأيام في صياغة أي مقاربة أميركية بشأن تحريك العملية السلمية. وأعتقد أن أوروبا يمكنها أن تلعب دوراً مهماً وإيجابياً في السيطرة على تداعيات القرار الأميركي حول القدس وتقليل آثاره السلبية، لأنها الأكثر قرباً من منطقتنا، ومعرفة بحساسياتها، وخبرة بأزماتها ومشكلاتها، ولذلك فإنها، أي أوروبا، مطالبَة بالتحرك لإعادة الأمور إلى نصابها من خلال علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية، بحيث تصدر تأكيدات أميركية واضحة لالتزام أسس عملية السلام الأصلية وحل الدولتين، وممارسة الضغط على إسرائيل لقبول هذا الحل، وإذا حدث ذلك، فسوف تجد الولايات المتحدة الأميركية أكبر قدر من المساعدة والدعم من الدول العربية المعتدلة التي تؤمن بمسار السلام، وفي مقدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر والأردن والمغرب وغيرها، لأن هدف هذه الدول هو السلام الحقيقي والقابل للحياة، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بحل الدولتين، وإيجاد تسوية للقدس تجعل القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، وفقاً لما نصَّت عليه كل قرارات الشرعية الدولية ومرجعيات العملية السلمية.

وأختتم هذا المقال بالقول: إن ما يحقق أمن إسرائيل، ويضمن وجودها الطبيعي في المنطقة وتعايشها مع جيرانها، ليس مكاسب قصيرة الأجل لا تملك القدرة على الصمود، مهما كانت كبيرة، وإنما تسويات جذرية وطويلة الأجل وقابلة للاستمرار والحياة، لأنها قائمة على العدل والإنصاف والقانون الدولي.

أ.د.جمال سند السويدي-عن"الاتحاد"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية