شادية.. أثر الفراشة لن يزول

شادية.. أثر الفراشة لن يزول


03/12/2017

خفّة في الرّوح تنساب كالحرير بلا تكلّف، وموهبة فذّة يصنعها أداء عفويّ متقن؛ مثلتْ تلك العناصر الاستثنائية التي حظيتْ بها الفنانة شادية، فاطمة أحمد شاكر، المولودة في 8 فبراير عام 1931، صورة مكثفة من العذوبة والجسارة، عبر حضورها الفنيّ المؤثّر بمستوياته المتعددة، وفضاءاته الغنيّة، السينمائيّة والمسرحيّة والغنائيّة، وكذلك في الإذاعة والدراما التلفزيونيّة، من خلال مواقف سياسيّة وتاريخيّة وعاطفيّة، يتقاطع فيها الخاص مع العام، فتحتلّ ذاكرتك وتخدش ذائقتك الفنيّة بنعومة، وتتمدّد كغشاء رقيق داخلك، يطربك مثلما يقلقك.

شهدت تلك الفترة صعود الإسلام السّياسي في المجتمع المصري ومدّ نفوذهم الفكري فيه، ومحاولة تطويع أفراده لأفكارهم بشكل قسري

وُلدتْ شادية في حيّ عابدين، بوسط القاهرة، عام 1934، لأبٍ مصري، وأمّ مِن أُصول تركيّة، ويُعدّ المخرج أحمد بدرخان الكلمة المفتاحية في حياتها الفنية والتمثيلية، التي بدأتْ منذ أربعينيات القرن الماضي، حيث مثلتْ وغنّتْ أمامه عندما كان يبحث عن مواهب جديدة للتمثيل في أحد أفلامه، عام 1947؛ فوقّعَ معها عقداً لمدة خمس سنوات، مقابل 25 جنيهاً، عن كل فيلم، لكن المشروع تعطّل.
"العقل في إجازة"
قام بترشيحها بدرخان بعد ذلك للمخرج حلمي رفلة، الذي أسند إليها دوراً صغيراً، في فيلم "العقل في إجازة"، مع الفنان محمد فوزي، عام 1948، وقبلها بعام، شاركتْ في فيلم "أزهار وأشواك"، سيناريو وإخراج محمد عبد الجواد  بدور متواضع أيضاً.
تفاوتت الأدوار التي قدمتْها شادية في السّينما المصرية، وطبيعة الشخصيات التي ظهرت فيها، واستطاعتْ أنْ تتفادى التكرار والاعتيادية والتنميط داخل صورة تختزلها، فكانتْ تملك مهاراتٍ فنية وقدرات تمثيلية كبيرة تمكّنت مِن توظيفها. ففي المرحلة الأولى التجريبية مِن حياتها الفنية وحتّى قيام ثورة يوليو 1952، شاركتْ في حوالى 42 فيلماً حازتْ فيها أدوار البطولة وظهرتْ بشخصيّة المرأة الرومانسيّة، المنتمية للطبقة الوسطى، والمرحة خفيفة الظل "الدّلّوعة".

رحّب الشعراوي بشادية، فقالت: "ربنا يغفر لنا؟"، فرد: "إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك"

لكنّها، خطتْ مع بداية الثورة، إلى مرحلة جديدة تُفصح عن نضجها الفني واختياراتها المختلفة، فأعادت اكتشاف ذاتها داخل مساحات فنيّة مختلفة، تختبر فيها موهبتها، ومن خلال أربع روايات للأديب المصري نجيب محفوظ، جسّدتْ شخصياته المتميزة والمركبة، فضلاً عن التعاطي مع خطوطها النفسية والانسانية المعقدة، بكلّ ما تحتاجه من قدرات تمثيلية عالية، وبإتقان شديد، فبرزتْ خلال سنوات الثورة، كطاقة هائلة من الفن والابداع، تتقاطع مع حالة الصّعود السّياسي وأفوله، في كل تعبيراتها الانسانية والوجودية.
في شخصية "فؤادة"، أضحتْ أيقونة الحرية بوجه الطغيان والاستبداد، في فيلم "شيء من الخوف" من تأليف ثروت أباظة، عام 1989، ومواجهته بصلابة، حتى تحولتْ إلى رمز عميق يتم استدعاؤه، طوال الوقت، في مواقف مختلفة، كرّست لوجوده في ذاكرة جمهورها، كتعبير عن النّضال ضدّ كلّ محاولات البطش بقيمة الحرية.

اعتزال الفن
"لأنني في عز مجدي أفكر في الاعتزال.. لا أريد أنْ أنتظر حتى تهجرني الأضواء بعد أنْ تنحسر عنّي رويداً رويداً.. لا أحبّ أنْ أقوم بدور الأمّهات العجائز في الأفلام في المستقبل بعد أنْ تعود النّاس أنْ يروني في دور البطلة الشابة"، كانت تلك الكلمات هي سطور الفصل الأخير، التي اختتمت به الفنانة شادية مشوارها الفني، في منتصف الثمانينات والذي تصادف مع وقوفها للمرة الأخيرة على المسرح، تؤدي الأغنية الدينية: "جه حبيبي وخد بإيدي" عام 1986 لتقرر بعدها الاعتزال، وقد شهدت فترة السبعينيات والثمانينات تراجع أعمالها السينمائية.
قالت تبرّر قرارها: "آن الأوان لتلك المرحلة، وليكتفِ جمهوري بما قدمته له، لا أريد أنْ أنتظر حتّى تهجرني الأضواء. أريد أنْ أظلّ في ذاكرة الجمهور بأجمل صورة لي عنده"، لتظهر بعد ذلك مرتدية الحجاب كنوع من الالتزام الديني الذي درج عليه كثير من الفنانين بعد اعتزالهم.
مرضتْ شادية خلال أيام عرض مسرحيتها الوحيدة "ريّا وسكينة"، حيث عرفت بإصابتها بمرض سرطان الثّدي، والذي كان بمثابة صدمة لها، لكنها استكملتْ عملها باحتراف، ثم قررت السّفر للعلاج، وبعد أنْ عادتْ توجهتْ إلى مكّة المكرّمة لأداء العمرة، حيث التقتْ بالشّيخ الشعراوي الذي نصحها بالاعتزال تماماً ووجّهها إلى الالتزام الديني، وهو الأمر الذي تكرّر مع نجوم كثيرين قرّروا الاعتزال، مثل، الفنّانة شمس البارودي ومريم فخر الدين والفنّان حسن يوسف، والذي ترافق مع صعود الخطاب الدّعوي للشّيخ الشّعراوي وجماهيريته الواسعة خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات.
شادية والشعرواي
يروي محمود جامع في كتابه "عرفت الشعراوي" أنّ شادية قابلت الشّيخ محمد متولي الشعراوي هناك بالصدفة لدى ركوبها المصعد، فعرّفته بنفسها قائلةً: "عمّي الشّيخ الشعراوي، أنا شادية"، فرحّب بها، ثم قالت: "ربنا يغفر لنا"، فردّ عليها: "إنّ الله لا يغفر أنْ يُشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء".

لم يختلف الخطاب الديني للشيخ الشعراوي عما كان يتم الترويج له، خلال تلك الفترة التي شهدت صعود الإسلام السياسي

لم يختلف الخطاب الديني للشّيخ الشعراوي عمّا كان يتمّ الترويج له، خلال تلك الفترة التي شهدت صعود الإسلام السّياسي في المجتمع المصري ومدّ نفوذهم الفكري فيه، ومحاولة تطويع أفراده لأفكارهم بشكل قسري، وخاصة، مع بزوغ نجم جماعة الإخوان المسلمين، في منتصف السبعينيات، والتي بدأتْ بتجميد الأنشطة الفنيّة وفعالياتها في الجامعات والتحريض ضدّها، ومن ثمّ فرض الحجاب على الفتيات والفصل بين الجنسيين في أماكن الدراسة.
كانتْ تلك الظّواهر جديدة وغريبة في حينها وهي تتسلّل إلى المصريين، وتجد مبرّرها الدّيني والشّرعي في تلك المرجعيّات المتشدّدة، حيث ساد خطاب تكفيريّ صريح، يشن هجوماً على الإبداع ويهاجم الأُدباء والمفكرين ويتهمهم بالخروج عن الدّين وثوابته، وبالتالي تحريم الفنّ على اختلاف أنواعه، وبات الترويج عمّا يُعرف بـ"السّينما النظيفة" التي تتفادى مشاهد العُري والقُبلات. بالإضافة إلى التّذكير بالعذاب الأخرويّ ومصير الإنسان ودغدغة الشعور الديني الذي يعطّل الموهبة ويقتل الإبداع ويجفّف منابع الفن بدلاً من تجفيف منابع الارهاب.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية