
على وقع فشل التوصل إلى هدنة بين إسرائيل وحركة حماس، وبعد أسابيع من تهديدات إسرائيلية باجتياح رفح الفلسطينية، بحجة وجود (4) ألوية عسكرية لحماس فيها، يقدّر عدد المقاتلين فيها بـ (20) ألف مقاتل، شهدت رفح تصعيداً جديداً، يُذكّر بالأيام الأولى للحرب والدخول البري لقطاع غزة، وصلت معه القوات الإسرائيلية إلى معبر رفح الفلسطيني وإغلاق المعبر من جهة غزة، بالتزامن مع عمليات قصف وانتشار عسكري في مناطق شرق رفح، فيما تجددت عمليات إطلاق الصواريخ من قبل حماس باتجاه مستوطنات غلاف غزة، وصولاً إلى رشقات جديدة باتجاه بئر السبع.
التصعيد الجديد يؤكد أنّ إمكانية الوصول إلى "هدنة" ليست مستحيلة، لكنّها صعبة جداً، ومن المبكر الحديث عن صفقة كبرى بين الجانبين، لا سيّما أنّ الهدنة مرتبطة بإجراءات وقف "مؤقت" لإطلاق النار مشروط بتبادل الرهائن وحجم شاحنات الإغاثة التي تدخل إلى قطاع غزة المنكوب، وإعادة انتشار القوات الإسرائيلية داخل القطاع، وليس انسحابها بشكل تام، فيما الصفقة مرتبطة بإجراءات ما بعد الحرب، وتركز على حكم غزة ما بعد الحرب وأدوار السلطة الفلسطينية وحماس بهذا الحكم، والمنطقة العازلة للحدود بين إسرائيل وقطاع غزة.
وقد بات واضحاً أنّ "المدنيين" المقدّر عددهم بحوالي مليون ونصف المليون نازح في رفح، تحولوا إلى "سلاح مشترك" بالنسبة إلى إسرائيل وحماس، فإسرائيل تراهن على أنّ تهديد حياة المدنيين سيشكل ضغطاً على حماس لتقديم تنازلات في مفاوضات الهدنة، وتراهن حماس على أنّ شلالات الدم المفترضة والمجازر التي سترتكبها إسرائيل ستكون سلاحها للضغط على إسرائيل، لا سيّما مع توسع الاحتجاجات في العواصم العالمية على الوحشية والمجازر الإسرائيلية.
وقد أفرزت التطورات في رفح قضيتين؛ وهما: أوّلاً حقيقة الخلافات بين أمريكا وتل أبيب حول خطط اجتياح رفح، وثانياً مستقبل الهدنة بين حماس وإسرائيل ولماذا أفشل نتنياهو موافقة حماس على المقترحات المشتركة التي تم إعدادها بالتنسيق من قبل واشنطن بالاتفاق مع القاهرة والدوحة؟ وبعيداً عن مبالغات يتم تداولها حول الخلافات بين واشنطن وتل أبيب حول اجتياح رفح، فإنّ الحقيقة المؤكدة هي أنّ القيادة الأمريكية ما زالت تشارك تل أبيب في الأهداف الاستراتيجية للحرب بالقضاء على حركة حماس عسكرياً وإنهاء حكمها في قطاع غزة، لكنّها تختلف في كيفيات تحقيق هذا الهدف، وهي خلافات مع اليمين الإسرائيلي المتطرف، إذ تطالب أمريكا بمنع التهجير القسري لسكان غزة، وترفض "التوسع" في عمليات القتل للمدنيين، بالتزامن مع خلافات أخرى مع تل أبيب حول مقاربات ما بعد الحرب، ولعل أهمها أن تتولى السلطة الفلسطينية ـبعد إصلاحهاـ الحكم في قطاع غزة.
ورغم الحديث عن تقييد وضبط عمليات تصدير الأسلحة لإسرائيل، إلا أنّ واشنطن سرعان ما تراجعت وأكدت أنّ إسرائيل تستخدم الأسلحة المصدرة إليها وفقاً للقانون الدولي، فيما تواصل الغطاء الدولي الذي تقدمه أمريكا لإسرائيل في المحافل الدولية، وآخرها تعطيل المطالبة الدولية بـ "عضوية" كاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، رغم أنّ هذه المطالبة ذات أبعاد رمزية.
ورغم ارتباط حرب غزة باحتجاجات الرأي العام الأمريكي على خلفية المجازر الإسرائيلية ضد سكان قطاع غزة، بالتزامن مع تحضيرات للانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في تشرين الثاني (نوفمبر) القادم، إلا أنّ قانون الوحدة والصراع سيبقى يحكم العلاقة بين أمريكا وإسرائيل، أي الالتزام الأمريكي بالحفاظ على أمن إسرائيل "الدولة والشعب" وإدارة الخلافات مع حكوماتها، دون المساس بهذا الالتزام.
أمّا قضية "إفشال" قبول عرض حماس للهدنة، فقد جاء بعد ضغوطات مارسها اليمين الإسرائيلي على نتنياهو للبدء في عملية برية برفح الفلسطينية، وعدم التقدم في المفاوضات، لا سيّما أنّ أعضاء من حزب الليكود مارسوا ضغوطاً على نتنياهو لإصدار أمر بغزو فوري لمدينة رفح جنوب قطاع غزة، وبصورة عكست تصاعد الضغط العام في صفوف اليمين الإسرائيلي لوقف التفاوض مع حماس لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين، والمضي قُدماً بدلاً من ذلك في الهجوم على آخر معقل مهم للحركة في غزة، وهو ما يطرح تساؤلات حول حقيقة ربط التصعيد الإسرائيلي فقط بشخص نتنياهو، والمبالغة في دور نتنياهو في رفض وقف إطلاق النار على خلفية احتمالات تقديمه للمحاكمة، وأنّه يريد استمرار الحرب فقط لضمان "سلامته"، وهي مقاربة تنتشر في أوساط محللين، لا سيّما في الشرق الأوسط.
تتعدد سيناريوهات اجتياح رفح، ورغم التسريبات الإسرائيلية المكثفة حول اجتياح شامل ووصول الدبابات الإسرائيلية إلى معبر رفح وإغلاقه، إلا أنّ المرجح أن يكون هذا الاجتياح مختلفاً عن الاجتياحات السابقة في شمال ووسط غزة، ومن أبرز اتجاهاته: هجمات نوعية عبر الطائرات المسيّرة ضد أهداف نوعية في رفح، والدخول برّاً إلى المناطق ذات الكثافة السكانية الأقلّ كثافة، خاصة في شرق رفح، واستمرار الضغط لمواصلة عمليات نزوح المدنيين، وعدم استهداف المستشفيات ومدارس الـ (أونروا)، ومواصلة تنفيذ عمليات "كر وفر" في مختلف مناطق غزة، بالاستناد إلى معلومات ذات طبيعة استخبارية، وهو ما يتوافق مع "توجيهات" أمريكية بخصوص إدارة الحرب، على غرار عمليات واشنطن ضد قادة (داعش والقاعدة).