بسمان، زهران، الخيام، ريفولي، الحمرا، فيلادلفيا، الفردوس.. أسماء لدور سينما في وسط عمّان، لا تزال حاضرة في ذاكرة من شهد عصر ازدهار مسارح الفن السابع في العاصمة الأردنية، والتي بات غالبيتها اليوم مهجوراً، لتصبح مجرد ذكريات على لسان الرواد السابقين، بعد أن شكّلت خلال عقود مضت، ظاهرة اجتماعية ثقافية، وأضفت طابعاً حيوياً على وسط المدينة.
شكلت دور السينما خلال عقود مضت ظاهرة اجتماعية ثقافية وأضفت طابعاً حيوياً على وسط المدينة
من أصل عشرات الدور، بقي اليوم منها فقط ثلاث، ما تزال تفتح أبوابها للزوار على استحياء، في الشارع الخلفي لسوق الصاغة، وعلى مدخل أحد الأدراج المعتمة، يجلس أبو أشرف، بائع تذاكر الدخول لسينما فلسطين، وهو نفسه المتضمن لها. شُحّ الإقبال هو أول ما يُلاحظ، ولكن ذلك لا يبدو أمراً جديداً بالنسبة له، فقد اعتاد على ذلك منذ قرابة العقدين.. يقول أبو أشرف لـ"حفريات": "إلى غاية الثمانينيات كان هناك ازدحام وإقبال كبير، وكان مشهد الطوابير الممتدة مألوفاً، خاصة في أيام العطل والأعياد"، ويضيف: "قبل ظهور النسخ المحمّلة من النت، لم يكن بالإمكان مشاهدة الأفلام الجديدة إلا في دور العرض"، وعند سؤاله عن نوعية الأفلام المعروضة، يشير الى تنوعها، ما بين "الآكشن"، والهندية، إلى "أفلام البكيني"، على حد تعبيره.
وعلى درج جوبير، على يمين المتجه الى نهاية شارع الملك طلال، تلفت الانتباه بوسترات أفلام مهترئة، لنصعد عبر الدرج ونقف أمام بائع التذاكر لـ "سينما الكواكب الجديدة"، التي تعتبر من أقدم الدور، ويعود تاريخ تأسيسها إلى العام 1955، وبحسب المسؤول عنها، فإنها "لا تستقبل أكثر من 20 – 30 زائراً في اليوم، وتعرض أفلاماً أجنبية (آكشن) وبعضاً من الأفلام العربية"، وتظهر للعابر الحالة المهترئة للمكان، وغير المؤهلة أبداً لاستقبال العائلات.
أبو ضياء، صاحب مستودع بيع كتب أمام السوق الشعبي، وفي موقع محاط بالعديد من دور السينما القريبة، يتحدث لـ "حفريات" عما كانت تعرفه هذه الدور -المغلقة اليوم- في السابق من ازدحام وإقبال واسع، وعن التفاوت في نوعية الأفلام التي كانت تعرض؛ "فمنها ما كان يعرض أفلاماً مخلّة، وكان يرتادها المراهقون، وهناك سينما "فرساي" التي كانت مختصة بالأفلام التركية، بالإضافة إلى سينمات راقية، كانت ترتادها العائلات، وتعرض أفلاماً عائلية مناسبة، مع الالتزام بتقطيع وحذف المشاهد غير اللائقة؛ مثل سينما الرينبو في جبل عمان، وكذلك سينما الخيام في جبل اللويبدة، وسينما بلازا في عمارة البرج، في العبدلي".
ويتحدث الستيني أبو محمد، صاحب بسطة في الشارع ذاته، عن طقوس عرض الأفلام آنذاك، "حيث كان يسبق العرض، رفع السلام الملكي في البداية، مع وقوف الناس حتى نهايته"، كما يذكر أنّ "بياعي التسالي والمشروبات داخل السينما، كانوا يقفون على المدخل، ويمرون بين الحضور أثناء العرض منادين على "البزر"، و"البيبسي"".
في الماضي كانت السينما ظاهرة اجتماعية، الصحف تضع الاعلانات الخاصة بالأفلام، والقارمات في الشوارع تغطى بالأفيشات
ويتذكر أبو علاء، صاحب أحد المحال في شارع بسمان؛ حيث يقع محلّه على بعد أمتار من داري عرض مغلقتين، كانتا من أشهر دور العرض في السابق، وهما "سينما بسمان"، و"سينما رغدان".. كيف كانت هذه الدور تضفي طابعاً حيويأ خاصاً على الشارع، وكيف كان يحضر في الثمانينيات هو وخطيبته إلى سينما رغدان، ويقول متحسراً: "الحياة في عمّان تلك الأيام كان لها رونق جميل".
يشير الناقد السينمائي عدنان مدانات، مسؤول قسم السينما في مؤسسة عبد الحميد شومان، في حديثه لـ "حفريات" إلى الاختلاف البائن ما بين واقع دور السينما الحالي، وما كان الحال عليه في عقود سابقة من القرن الماضي، "إذ نشأت وازدهرت في عقد الخمسينيات والستينيات مجموعة من كبيرة من صالات السينما، لعلّ من أشهرها "الحسين" و"فلسطين"، وتركزت هذه الصالات في منطقة وسط البلد"، مضيفاً أنّ أهم ميزة لها أنها "شكلت مجالاً للفرجة العائلية؛ حيث كانت العائلة تذهب بأكملها، في طقس اجتماعي ثقافي، أكثر ما يكون في العطل والأعياد، وقد استمر هذا الطابع لدور السينما في عمّان تقريباً حتى نهاية عقد الثمانينيات؛ حيث استمر ظهور دور عرض جديدة حتى ذلك العقد، كسينما فيلادلفيا وسينما الكونكورد، والتي كانت تعتبر من أفخم صالات العرض، على مستوى المنطقة العربية".
ويرى مدانات أنّ "الانهيار" حصل منذ قرابة العقدين، "حين أغلقت معظم الصالات، وجرى التحول نحو نمط جديد من السينما المتعددة الصالات المتوسطة الحجم داخل المراكز التجارية الكبرى (المولات)، وأحياناً بعض الفنادق الفخمة، وهو النمط الذي فرض نفسه عالمياً".
ويعيد مدانات ذلك أيضاً إلى عامل مهم، وهو "اختفاء" الموزعين الأردنيين التقليديين للأفلام؛ إذ أصبح توفير الأفلام "محصوراً بشركات وكيلة توفر الأفلام، وأصبح صاحب الصالة مجرد مستأجر للفيلم، وهو ما انعكس على نوعية الأفلام المعروضة؛ فمعظم شركات التوزيع تابعة للسينما الأمريكية، التي عادة ما تفتقد الطابع الثقافي وتكون مرتبطة بأفلام الآكشن والإثارة، وهي أفلام بطبيعتها غير عائلية، لا تجذب العائلات، وإنما موجهة فقط لفئات الشباب والمراهقين".
أمر آخر أدى الى انصراف العائلات عن دور العرض الجديدة هو "غلاء الأسعار في دور العرض الجديدة هذه، بحيث لا تتحمل العائلات المتوسطة الحال كلفة حضورها بجميع أفرادها"، على حد قول مدانات الذي يلفت إلى أنّ "كثيراً من الدور الجديدة هي في حالة شبه إغلاق اليوم، حيث لا تنشط إلا في نهاية الأسبوع".
ويضيف مدانات: "في الماضي كانت السينما ظاهرة اجتماعية؛ الصحف تضع الإعلانات الخاصة بالأفلام، والقارمات في الشوارع تغطى بأفيشات الأفلام؛ حيث كانت جزءاً من المشهد البصري للمدينة، أما اليوم، فلم تعد السينما ظاهرة اجتماعية".
أما الناقد السينمائي ناجح حسن، فيعتبر أن عمّان عرفت منذ وقت مبكر السينما والثقافة السينمائية، فقد تعرف المواطنون على دور عرض السينما منذ العشرينيات، ويعود تأسيس أول دار عرض، وفق قوله لـ"حفريات" إلى "العام 1923، حيث كانت أولى الأفلام المعروضة هي الأفلام الأمريكية الصامتة، وقد ازدهرت دور العرض ونشطت لاحقاً في عقدي الأربعينيات والخمسينيات، وأصبحت الأفلام العربية (المصرية) تحتل مساحة كبيرة من الأفلام المعروضة".
ويشير حسن الى أنّ "الشوام" هم أول من أسس دور العرض في العشرينيات، ومع هجرة الفلسطينيين، عززوا الاستثمار في هذا القطاع، لافتاً الى أنّها كانت وسيلة ترفيه أساسية لساكن المدينة؛ "حيث كانت جميع دور العرض في الوسط التجاري للمدينة، وقريبة من التجمعات السكانية، وبقيت عامل ترفيه رئيسي للعمّانيين، كما المقاهي".
يعود تأسيس أول دار سينما في الأردن إلى العام 1923 وكانت تعرض الأفلام الأمريكية الصامتة
ومع بداية بث التلفزيون الأردني عام 1968، ساهم ذلك في تقليل عدد الرواد، حيث وجد البعض في ما يعرض من أفلام كفايةَ عن التوجه إلى دار السينما، وهو الخيار الذي لم يكن متاحاً فيما قبل. ولكن التراجع الأكبر جاء بفعل ظهور أشرطة الفيديو في الثمانينيات؛ حيث صار بإمكان العائلات والأفراد شراء الأشرطة واستئجارها، والاختيار من بين تشكيلة واسعة من الأفلام، وبأثمان زهيدة.
وبالرغم من هذه التحولات ظل لدور السينما روادها ممن يفضلون رؤية جماليات الصورة من خلال الشاشة البيضاء، وهو ما انحسر بشكل نهائي مع ظهور شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الحديثة، حيث أصبحت جميع الأفلام متوفرة دون أي مجهود، وبقي الخيار الوحيد لمريد الشاشة البيضاء هو "سينما المولات"، وهي عادة ما تكون فروعاً لشركات أجنبية، تعرض أفلام موحدة عبر العالم، ولا تتوزع هذه الدور على مختلف مناطق المدينة، وإنما تتركز في المناطق والضواحي الأرقى، وقد حال ارتفاع أسعار تذاكرها بينها وبين عموم طبقات وشرائح المجتمع، وهكذا تحولت السينما في عمان من كونها ظاهرة مدنية، ومشهداً عائلياً، و"عامل تنوير وتثقيف في المجتمع"، لتنحصر في إطار الحيز الفردي.
ولا يبدو أنّ ثمة أملاً في إحياء هذه الدور اليوم إلى سابق عهدها، خاصة مع افتقاد الابتكار في وسائل العرض والتسويق والإعلان، ويذكر أنه قد جرت محاولات لإحياء بعض هذه الدور، وإعادة دمجها في المجتمع العمّاني، كما وقع لسينما الأردن الواقعة على سفح جبل عمان بالقرب من وسط البلد؛ إذ جرى ترميمها وتحولت إلى "مسرح البلد"، و"سينما الرينبو"، بالقرب من الدوار الأول في جبل عمّان، التي تم إعادة تأهيلها وتحولت إلى "مسرح الرينبو"، ويشهد هذان المسرحان اليوم إقامة العديد من الفعاليات الثقافية، وأحياناً تعرض فيهما بعض الأفلام.