في محاولة تقديم قراءة موضوعية لبنية النص -أي نص- في ضوء علاقته بالمتلقي، فإنّ القيمة الحقيقية التي يُضفيها تحليل الخطاب، هي وضعية القراءة المتقدمة لقبليّات الخطاب، والحيز الذي تخلّق فيه، وظروف نشأته، وجملة التشكيّلات الخطابية التي يمكن أن تنتج عنه مستقبلاً.
في غيابات السجن تواصل الغزالي سرديتها التراجيدية في مبالغة فائقة؛ فالجلاد يذيقها أصناف العذاب
ولعلّ ما خطّته زينب الغزالي، سيدة الإخوان الأولى، في مذكراتها المعنونة بـ "أيام من حياتي"، يستحق تطبيق آليات تحليل الخطاب عليه، وتقديم نوع من المقاربة النفسية للذات التي تعالت أول الأمر بالدين، وما لبث هذا التعالي أن قذف بها نحو مدارج الهوس بالذات ككيان (رسولي) متفرد، وهو ما أخرج الـ(أنا) من نطاق الجماعة المفارقة والباحثة عن خلاص، إلى عوالم الـ(أنا) المتعالية، في لحظة تماهيها وذات المُخلّص، وقد تقمصت شخصيته في بحثها الدؤوب عنه.
التعالي بالدين
يوصف التعالي بالدين كرد فعل لعقل جمعي منهزم، يتأمل في يأس وحسرة استحالة تطبيق مشروعه، فــ(تتحوصل) الذوات التابعة لهذا العقل حول نفسها، لتأمين أكبر قدر من الحماية، قبل أن (تتمترس) خلف تعاليها بالمطلق الذي تؤمن به كحيلة دفاعية للبقاء، وهو ما يمنح وجودها نوعاً من الأهمية المركزية، كخط دفاع أخير عن الدين، وهنا تتحول المظلومية إلى أداة فعالة لتبرير الهزيمة، والرفض المبطن لاستحالة المشروع، بترويج خطاب المظلومية التاريخية.
اقرأ أيضاً: الإخوان المسلمون وسلاح المظلومية
ويمكن القول إنّ التعالي بالدين يتم على مستويين؛ مستوى جماعي: يجري على نطاق الفرقة الناجية التي اختصها الله تعالى باليقين المطلق، واصطفى أصحابها بممارسة طقس عبور استثنائي من الجاهلية إلى نور الحق، ومن ثم فعلى الجماعة الوظيفية، التي تتمتع بهذا الاصطفاء الرباني، أن تتعالى في عزلتها الشعورية عن المجتمع الجاهلي، وتبتعد عن كل ما يمثله من قيم.
يتم التعالي بالدين على مستويين، جماعي على نطاق الفرقة الناجية وفردي إذ ينكر فيه الشخص وجوده لصالح الجماعة
والمستوى الثاني هو مستوى الذات الفردية، التي لابد أن تنكر وجودها لصالح الجماعة، وتمتثل للطاعة (الولاء والبراء)، مع الاستعداد الكامل لتقديم النفس قرباناً خلاصياً وقت اللزوم.
تدشن زينب الغزالي مذكراتها، بمقولة مركزية تفصح عن بنية العقل المتعالي بالدين، والرافض لأي تصورات مغايرة، إذ تقول: "لا صلاح لأمة، ولا لهذا العالم إلا بالدعوة إلى الإسلام". وإذا كان حق الدعوة بالحسنى مشروعاً، إلا أنّ زينب الغزالي تكشف عن نزعة تكفيرية تعبر دوماً عن نفسها، في ثنايا خطابها المتعالي بنوع من العنف اللفظي، الذي ربما يكون ناتجاً عن هذا الغضب الكامن في أعماق الذات المنهزمة .
وتضيف: "وليس أمام البشرية اليوم للخلاص من ذلك الضلال، وهؤلاء الطغاة من البشر إلا أن ينتهجوا منهج الحق، وينتهجوا منهج الله، المنهج المحمدي الموحى به في القرآن الكريم، والملهم به من السنة الصحيحة". وتحمل في ضراوة على ما أسمته بتيارات الكفر والالحاد، وتتكرر مفردة (الإلحاد) بشكل لافت للانتباه، لتصف بها كل معارضي الجماعة، وتؤكد في نهاية الأمر أنّها ترى بوادر النصر وإرهاصاته، بقيام الأمة عن طريق عودة المجتمع، وهو في نظرها مجتمع الجماعة الواحدة، الذي سيعلو بتوحيده فوق توليفات البشر مما يغزو بلادنا اليوم من تيارات الإلحاد"، على حد تعبيرها.
اقرأ أيضاً: خطاب المظلومية لدى الإخوان المسلمين..محمد قطب نموذجاً
تتكرر ثنائية (الإلحاد والحق)؛ مراراً وتكراراً في مذكرات "الغزالي"، للدلالة عن طريقين لا ثالث لهما؛ طريق يسلكه الآخر -أي آخر- وطريق الجماعة المؤمنة المتعالية بدينها، والمقاتلة في صبر خلف رايات التوحيد على طريق الجهاد.
ثم تتجسد الثنائية المتضادة عندها حين تقول: "إنّ جمال عبدالناصر كافر يحارب الإسلام في شخص جماعة الإخوان المسلمين"، ليفصح خطاب التكفير عن مراده، باختزال الاسلام في جماعة، تقف في مواجهة نظام سياسي كافر بالضرورة، وبالتالي فإنّ الخلاص النهائي لا يتأتي إلا بوصول الجماعة التي تمثل الاسلام حصرياً إلى الحكم.
التعالي بالذات
في افتتاحية الباب الأول من مذكراتها، تضع صاحبة "أيام من حياتي" عنواناً يحمل قدراً من الذاتية، ويفصح في الوقت نفسه عن احتياج عارم للشعور بالأهمية، "عبدالناصر يكرهني شخصياً"، هكذا جاء العنوان بحمولته ودلالاته المعنوية، ليكشف عن طبيعة زينب الغزالي، ورغبتها في تجاوز كونها امرأة تنتمي إلى جماعة لا تكترث كثيراً بمشاركة النساء في الحياة العامة؛ فالمؤسس حسن البنا يقر صراحة في "الرسائل" أنّه من حسن تأديب النساء "تعليمهن تدبير المنزل، والشؤون الصحية، ومبادئ التربية، وسياسة الأطفال، وكل ما تحتاج إليه الأم في تنظيم بيتها ورعاية أطفالها"، ويرى البنا صراحة أنّ المرأة ليست في حاجة إلى التبحر في تعلم اللغات المختلفة، ولا الدراسات الفنية، ولا دراسة الحقوق والقوانين، ويؤكد في وضوح "أنّ المرأة للمنزل أولاً وأخيراً".
تكرر الغزالي ثنائية الإلحاد والحق مراراً للدلالة عن طريقين لا ثالث لهما طريق يسلكه الآخر وطريق الجماعة المؤمنة
في محاولتها لتجاوز هذا الدور، قررت زينب الغزالي وهي تكتب مذكراتها، أن تضع نفسها في خط المواجهة الأول مع نظام عبدالناصر، باصطناع مُتخيل لصراع درامي بينها وبين عبدالناصر نفسه، صراع يتجاوز الدولة والجماعة، إلى مواجهة مباشرة بين رأس الدولة وسيدة الجماعة، وهو ما يمنحها دوراً يفوق الواقع بكثير، ويوحي بدلالات رمزية، تحيل بالطبع على مركزية دورها في مواجهة الطغيان، مثلها مثل قادة الإخوان من الرجال، بل وأكثر.
تكرر رئيسة المركز العام لجماعة السيدات المسلمات، فكرة اضطهاد عبدالناصر لها باستمرار في مواضع مختلفة، وبشكل يفصح عن رغبة عارمة في إظهار الذات، وفي كل مرة تأتي الرواية على لسان شخص مختلف، ففي إحدى الأمسيات تقول لها إحداهن تعقيباً على قرار الحكومة بحل الجماعة التي ترأسها: "عبدالناصر مُصر على حل الجماعة، هو يكرهك شخصياً يا حاجة زينب، لا يطيق أن يسمع اسمك على لسان أي انسان، عندما يذكر اسمك يثور ويغضب وينهي المقابلة".
لكن عبدالناصر، يقرر فجأة إرغام الغزالي على الالتحاق بالاتحاد الاشتراكي، ويرسل لها عنوة، بطاقة عضوية، قبل أن يُطلب منها الذهاب إلى المطار لاستقباله، فترفض.
اقرأ أيضاً: المظلومية.. سلاح الجماعة المفضل
في غيابات السجن، تواصل الغزالي سرديتها التراجيدية، في مبالغة فائقة، فالجلاد وهو يذيقها أصناف العذاب يقول لها: "جمال عبدالناصر أمر بجلدك كل يوم ألف جلدة بالسوط".. "أنت هنا في جهنم عبدالناصر"... "إذا قلت يا رب فلن ينقذك أحد، لو قلت يا عبدالناصر فستفتح لك الجنة، جنة عبدالناصر".
ومرة أخرى يأمر عبدالناصر باغتصابها في السجن، ويفشل الطغاة! وتكرر على مدار السردية ملامح المأساة الإغريقية، وتتكرر أوامر عبدالناصر الشخصية بتعذيبها، وصولاً إلى إرساله أمراً ممهوراً بتوقيعه لقتلها في السجن .
تسهب زينب الغزالي في زعمها رواية التعذيب، إلى الحد الذي يتجاوز قدرة البشر على الاحتمال بمراحل، ألف جلدة في اليوم، وفئران مذعورة وكلاب مفترسة تنهش في لحمها، وإغراق في الماء، وتعليق وصلب على الجدران، ورغم الأوامر الصريحة باغتصابها، يفشل الجنود في ذلك، فأحدهم يتوب على يديها، والآخر تقتله بأظافرها، وهي المنهارة تحت وطأة التعذيب!!
إنّ وهم الاعتقاد الذي يدفع الإنسان نحو المبالغة، بادعاء امتلاك قدرات ومواهب وأسرار خاصة، يبدو جليّاً في حالة زينب الغزالي، وإذا كانت البارانويا تعبر عن نوع من الاقتناع بجملة من الأوهام يؤمن من خلالها الشخص بتعرضه للاضطهاد المبالغ فيه، بسبب امتلاكه قابليّات استثنائية، وأهمية عظيمة تجعله مصدر خوف للآخرين، فإنّ مذكرات زينب الغزالي تكشف صراحة عن حالة متقدمة من كل هذا، فوزير الحربية شمس بدران يشرف بنفسه على تعذيبها، ويعرض عليها مندوب الرئاسة منصباً وزارياً في مقابل وشايتها بجماعة الإخوان، ليتواصل التعذيب الخرافي، وتتواصل قدرتها الأسطورية على الاحتمال!
اقرأ أيضاً: جدل المحنة والمنحة: كربلاء الإخوان والمظلومية التي لا تنتهي
يتجاوز التعالي بالذات حضوره في الواقع الملموس، إلى مساحات الاصطفاء الإلهي المفارق، فتحت عنوان (الرؤية) تحكى زينب الغزالي واحدة من رؤاها الأربع للنبي: " ...... فإذا به يجيبني أنت يا زينب على قدم محمد عبدالله ورسوله، سألت: أنا يا سيدي يا رسول الله على قدم محمد عبده ورسوله؟ قال عليه الصلاة والسلام أنت يا زينب يا غزالي على قدم محمد عبد الله ورسوله، سألت ثانية أنا يا حبيبي يا رسول الله على قدم محمد عبد الله ورسوله؟ قال عليه الصلاة والسلام أنتم يا زينب على الحق .... أنتم يا زينب على الحق... أنتم يا زينب على قدم محمد عبد الله ورسوله.. وقمت من النوم وكأنني ملكت الوجود بهذه الرؤية".
تتكرر الرؤية مراراً في أيام المحنة، حتى إنها بعد الحكم عليها بالسجن، رأت فيما يرى النائم صورة زوجها في صفحة الوفيات وهي تنعاه، وفي صباح اليوم التالي قرأت نعيه في الجريدة.
من الناحية البنيوية، يبدو النص شديد الركاكة، حيث تتداخل فيه التراكيب اللغوية الضعيفة؛ فالذات هي الموضوع في مواجهة العالم، وحين تكون الذات على هذا القدر من الاضطراب النفسي، تصبح لغة النص أكثر ارتباكاً وتوتراً، فيسود الاستطراد والتناقض، والسقوط في دوائر السذاجة المفرطة.
وهكذا، يفصح النص عن توجه مفرط في الذاتية، تبحث صاحبته عن دور يضمن لها مكانة، لم تكن لتأتي دون بناء عوالم مفارقة من الوهم، كما بالغت في التأكيد على الاستهداف المباشر، وارتدت مسوح القداسة المفارقة، حتى أوتيت من الله قدرة استثنائية على احتمال ما لا يمكن لبشر احتماله، وتجاوزت الممكن إلى المستحيل، لتكشف الذات عن وجودها المركزي صدارة خطاب المحنة، ولعلها صدمة السجن، ومحنة سقوط التنظيم، وإعدام سيد قطب، ولعل كل هذا تداخل ليصنع تلك الحالة المفرطة من تعظيم الذات.