
أجرى الحوار: رامي شفيق
يمثّل ملف الهجرة غير الشرعية عبر ليبيا واحدًا من أخطر التحديات الأمنية والإنسانية في منطقة المتوسط، فقد تحوّلت البلاد خلال العقد الأخير إلى مركز عبور رئيسي لجحافل المهاجرين الساعين إلى الوصول إلى الشواطئ الأوروبية.
في هذا الحوار نسلّط الضوء على أبرز مسارات الهجرة الراهنة، وتحولات أنماط التهريب، والدور الذي تلعبه شبكات إجرامية عابرة للحدود في تأجيج الظاهرة، فضلًا عن الأبعاد السياسية والأمنية المرتبطة بها. كما يناقش الحوار المخاوف المتصاعدة من تقارير تتحدث عن توطين عناصر إجرامية دولية داخل ليبيا، وتأثير ذلك على موازين النفوذ والجريمة المنظمة إقليميًا ودوليًا.
تحوّلت ليبيا خلال عقدٍ من الفوضى إلى بوابةٍ دموية بين أفريقيا وأوروبا، حيث تتقاطع الطرق المهجّرة مع شبكات الجريمة العابرة للحدود.
تتداخل في هذا الملف المعقّد اعتبارات عديدة؛ بدءًا من هشاشة الحدود الليبية، مرورًا بتصاعد نفوذ الميليشيات وشبكات التهريب، وصولًا إلى ضغوط أوروبية لإبقاء الظاهرة تحت السيطرة بأيّ ثمن. وفي ظل غياب سياسة وطنية واضحة لإدارة الهجرة، وجدت بعض الحكومات الليبية نفسها أمام إغراء توظيف هذا الملف كورقة ضغط سياسي أو وسيلة لانتزاع شرعية دولية، دون جهد ملموس لتحقق ذلك.
وفي المقابل، يبرز هاجس أمني جديد يتعلق بإمكانية تسلل عناصر إجرامية أجنبية، وهو ما ينذر بتحولات عميقة في خريطة الجريمة المنظمة وتأثيراتها على الأمن الإقليمي في شمال أفريقيا ودول المتوسط.
حول ذلك قالت الدكتورة ريم البركي السياسية والإعلامية الليبية المتخصصة في قضايا الأمن والهجرة: "إنّ التحول الأبرز اليوم لا يكمن في المسالك الجغرافية، بل في درجة التنظيم، وتزايد الانخراط المنهجي لشبكات تهريب البشر، ممّا جعل المسارات أكثر خطورة وأشدّ تعقيدًا".
لم تتغير جغرافيا الهجرة غير الشرعية من ليبيا، لكن تغيّر عمقها؛ من عابرين بسطاء إلى ضحايا منظومة تهريب محكمة التنظيم.
وأكدت البركي في حوارها لـ "حفريات" تورط منظومات تهريب عابرة للحدود تمتد من دول المصدر إلى داخل ليبيا، وصولًا إلى الشواطئ الأوروبية.
وتابعت صاحبة كتاب: "ليبيا صندوق رمل أم بوابة المتوسط !" قائلة: "إنّ ليبيا في هذا السياق تخسر أوراقًا تفاوضية كان يمكن أن تُستثمر لبناء شراكة دولية حقيقية حول ملف الهجرة".
وشددت البركي على أنّ التقارير التي تتحدث عن توطين المجرمين في بلادها ـ إن صحّت ـ فنحن أمام سابقة أمنية خطيرة.
ووصفت غياب ردّ فعل حازم من الحكومة الليبية بأنّه "ارتهان سياسي أو تراخٍ متعمَّد"، خصوصًا في ظل ضعف المؤسسات الرقابية والدبلوماسية.
ولفتت الدكتورة ريم البركي إلى أنّ هذا الصمت يثير القلق حول ما إذا كانت الحكومة في طرابلس تدار من الداخل أم أنّها تنفذ أجندات مفروضة من الخارج.
نص الحوار:
ما أبرز المسارات التي تتخذها الهجرة غير الشرعية انطلاقًا من ليبيا في الوقت الراهن؟ وهل تغيّرت خلال الأعوام الأخيرة؟
ـ سأكون دقيقة في تحديد ذلك، حيث إنّ مسارات الهجرة غير الشرعية من وإلى ليبيا، لم تشهد تحوّلات جوهرية خلال الأعوام الأخيرة من حيث عامل الجغرافيا، لكنّها حقيقة تغيّرت من حيث الكثافة العددية وآليات العبور فيما بعد.
ما تزال البلاد ـ ليبيا ـ تُعدّ نقطة تمركز وانطلاق رئيسية، بسبب هشاشة الحدود البرية والفراغ الأمني كنتيجة مباشرة للوضع السياسي المتردي منذ سقوط نظام العقيد معمر القذافي، وذلك في عدة مناطق من خلال عدة مسارات هي:
المسار الشرقي: يتدفّق المهاجرون عبر الحدود الليبية-المصرية، خصوصًا من منطقة السلوم، ثم يتوغّلون جنوبًا لتفادي نقاط التفتيش، مرورًا بصحراء الجغبوب، وصولًا إلى طبرق أو البردي في الشمال الشرقي.
حلّ أزمة الهجرة لا يمكن أن يكون ليبيًا منفردًا، بل تحالفًا متوسطيًا صارمًا، يواجه التهريب والسياسة والارتهان معًا.
المسار الغربي: يبدأ من دول غرب أفريقيا (غينيا، بنين، التوغو، بوركينا فاسو، ساحل العاج)، مرورًا بمالي، فإلى الجزائر، ثم العبور إلى تونس وصولًا إلى الحدود الغربية الليبية. وهذه المسارات تصبّ في مدن مثل زوارة وصبراتة والزاوية.
المسار الجنوبي: يتمركز في مثلث الحدود مع تشاد والنيجر والسودان، خصوصًا عبر منطقة الكفرة أو سبها، حيث يُعاد تجميع المهاجرين قبل نقلهم إلى الشمال عبر الشويرف وبني وليد، وصولًا إلى نقاط الانطلاق نحو أوروبا.
إنّ التحوّل الأبرز اليوم لا يكمن في المسالك الجغرافية، بل في درجة التنظيم، وتزايد الانخراط المنهجي لشبكات تهريب البشر في هذه العمليات، ممّا جعل المسارات أكثر خطورة وأشدّ تعقيدًا.
في رأيك، ما مدى تواطؤ أو تورّط شبكات محلية أو إقليمية في تسهيل هذه الظاهرة؟
ـ من غير الممكن الحديث عن هذه الظاهرة دون الإشارة إلى تورّط منظومات تهريب عابرة للحدود، تمتدّ من دول المصدر إلى داخل ليبيا، وصولًا إلى الشواطئ الأوروبية.
سابقًا، كان المهاجر يتحمّل بنفسه تكاليف الرحلة. أمّا اليوم، فالأمر تغيّر جذريًا؛ تجّار بشر ليبيون يتولّون عملية "الاستجلاب"، بالتعاون مع وسطاء محليين في بلدان المصدر، على نفقة التاجر نفسه. ثم يُستغلّ المهاجر في العمل القسري، ويُباع ويُعاد بيعه داخل السوق السوداء إلى أن يُنقل لاحقًا إلى أوروبا.
في ليبيا، الهجرة غير الشرعية ليست حركة بشر، بل مسرح لنفوذ سياسي، وصراع دولي على الجغرافيا والشرعية.
هذا التوصيف لا يُعبّر عن نشاط هواة، بل عن بنية إجرامية منظّمة ذات امتدادات إقليمية ودولية. الأدوار موزّعة بصرامة: من التجميع، إلى النقل، إلى الابتزاز، ثم التهريب البحري.
التنسيق بين هذه الشبكات ـ محليًا وإقليميًا ـ واضح ومتشعّب، ولا يمكن تفكيكه دون مقاربة أمنية متعددة الأطراف فضلًا عن ضرورة وضع الاستقرار السياسي محط اهتمام دولي وإقليمي.
هل تعتقدين أنّ مسألة الهجرة تُستثمر سياسيًا في ليبيا أو تُستخدم كورقة ضغط خارجية؟
ـ للإجابة المنضبطة عن هذا السؤال ينبغي تفكيكه على مستويين:
من الجانب الليبي: للأسف، ليبيا لم تطوّر سياسة خارجية استراتيجية توظّف ملف الهجرة لصالح الدولة، بل استخدمته بعض الحكومات، لا سيّما في طرابلس، كورقة ابتزاز سياسي قصير الأمد لتثبيت شرعيتها أمام المجتمع الدولي، عبر تقديم تنازلات أمنية غير مدروسة، بدلًا من بناء موقف تفاوضي سيادي.
أصبح المهاجر بضاعة تُستجلب مسبقًا، يُباع ويُستغل، ثم يُدفع به إلى البحر. إنها سوق سوداء للجسد والنجاة.
من الجانب الأوروبي: نعم، الفراغ السياسي في ليبيا استُغلّ بوضوح. هناك ضغوط أوروبية مستمرة على الحكومات الليبية لتوقيع اتفاقات أمنية تخدم أمن أوروبا أكثر من مصالح ليبيا، ممّا يُعيد إنتاج العلاقة اللّامتكافئة بين الطرفين.
إذاً النتيجة في تقديري، خسارة ليبيا لأوراق تفاوضية كان يمكن أن تُستثمر لبناء شراكة دولية حقيقية حول ملف الهجرة.
انتشرت مؤخرًا تقارير تتحدث عن توطين عناصر مطلوبة جنائيًا في بعض المناطق الليبية، كيف تتعامل الدولة مع هذا الملف؟ وهل هناك تساهل متعمّد من قبل الحكومة في طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة؟
ـ إن صحّت التقارير عن نقل عناصر مدانة جنائيًا ـ تحديدًا من السجون الأمريكية ـ إلى الأراضي الليبية، فنحن أمام سابقة أمنية خطيرة، لكنّها حتى اللحظة لا تتجاوز كونها تسريبات إعلامية مصدرها أجهزة استخباراتية أمريكية.
مع ذلك، غياب ردّ فعل حازم من الحكومة الليبية يعكس ـ على الأقل ـ مستوى من الارتهان السياسي أو التراخي المتعمّد، خصوصًا في ظل ضعف المؤسسات الرقابية والدبلوماسية. هذا الصمت يُثير القلق حول ما إذا كانت الحكومة تُدار من الداخل أم أنّها تُنفّذ أجندات مفروضة من الخارج.
ما الأثر الأمني والاجتماعي المتوقع نتيجة هذا التوطين؟ وهل هناك مؤشرات على أنّ ذلك قد يُستخدم لإعادة تشكيل موازين النفوذ؟
ـ إنّ توطين عناصر إجرامية أجنبية في ليبيا ـ إن حدث ـ سيُحدث اضطرابًا في منظومة الجريمة داخل البلاد، ويُعيد تشكيل مشهدها على نحو غير مسبوق. فأنماط الجريمة في أمريكا اللاتينية ـ حيث تنشط الكارتلات ـ تختلف في منهجها وتوحّشها عن الجريمة في المنطقة العربية.
لم تُطوّر ليبيا موقفًا تفاوضيًا سياديًا حول الهجرة، بل سلّمت مفاتيح الملف تحت مسمّى "الشراكة"، بلا شروط تحمي أمنها.
التهديد ليس محليًا فقط، بل يمتدّ إلى مصر وتونس ودول المتوسط. وجود هذه العناصر يُمكن أن يفتح الباب أمام تمدّد منظّم لعصابات عابرة للقارات إلى شمال أفريقيا، ويحوّل المنطقة إلى نقطة وصل بين أمريكا الجنوبية وأوروبا.
الحلّ لا يمكن أن يكون ليبيًا منفردًا؛ على العكس، ينبغي تشكيل تحالف متوسطي مشترك للتفاوض الجماعي مع الولايات المتحدة، لأنّ ليبيا اليوم لا تملك القوة الكافية للرفض بمفردها، لكنّها تملك القدرة على توظيف الإجماع الإقليمي لصدّ هذا التهديد المحتمل.