وضع مؤسس حركة الإخوان المسلمين حسن البنا مجموعة من "الرسائل" لعلّ أشهرها وأخطرها على الإطلاق رسالة التعاليم، مستعيراً هذا النهج من شيوخ وعلماء السلف حين كانوا يضعون كتاباً موجزاً يشتمل على قليل من المسائل تكون ذات موضوع واحد.
"فهذه رسالتي إلى الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلمين الذين آمنوا بسموّ دعوتهم، وقدسية فكرتهم، وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها، أو يموتوا في سبيلها، إلى هؤلاء الإخوان فقط أوجّه هذه الكلمات، وهي ليست دروساً تُحفظ، ولكنها تعليمات تُنفّذ، فإلى العمل أيّها الإخوان الصادقون".
لا يمكن تجميل النظرة الاستعلائية الواضحة التي ينضح بها تقسيم البنا للمسلمين إلى الإخوان وغير الإخوان
بهذه الكلمات يبدأ البنا رسالته موجهاً إيّاها حصراً إلى الإخوان المسلمين، أما غير هؤلاء، كما يقول "فلهم دروس ومحاضرات، وكتب ومقالات، ومظاهر وإداريات، ولكل وجهة هو مولّيها فاستبقوا الخيرات، وكلاً وعد الله الحسنى".
اقرأ أيضاً: أسرار حوارات القيادي الإخواني أبو شقة مع حسن البنا وأعضاء النظام الخاص
ولا يمكن تجميل النظرة الاستعلائية الواضحة التي ينضح بها هذا التقسيم للمسلمين: الإخوان المسلمون أصحاب الحظ والحظوة الذين أنعم الله عليهم بأن كرّمهم المرشد بهذا الخطاب، أما الآخرون المساكين أصلحهم الله فلهم خطاب أقل شأناً، حاثاً إياهم على بذل المزيد من الإخلاص حتى يلحقوا بإخوانهم فـ "لكل وجهة هو مولّيها فاستبقوا الخيرات"، كأنّ البنا لم يسمع بقوله تعالى: "إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم" إلا أن تكون هذه التعاليم هي المقاييس المعيارية للتقوى التي ظلّ المسلمون غافلين عنها قروناً وكانت تحتاج لهذا الإيضاح الذي تفرد به عن غيره!
وبعد أن يفرغ حسن البنا من تلقيناته الصارمة لـ "الأخ المسلم" التي يجب ألا يحيد عنها يختتم قائلاً: "أيها الأخ الصادق :هذه مجمل لدعوتك، وبيان موجز لفكرتك، وتستطيع أن تجمع هذه المبادئ في خمس كلمات: (الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن شرعتنا، والجهاد سبيلنا، والشهادة أمنيتنا)، وأن تجمع مظاهرها في خمس كلمات أخرى : "البساطة، والتلاوة، والصلاة، والجندية، والخلق .فخذ نفسك بشدة بهذه التعاليم، وإلا ففي صفوف القاعدين متسع للكسالى والعابثين" .
اقرأ أيضاً: حسن البنا والأدلجة السياسية للإسلام في القرن العشرين
مستعيناً بـ24 استشهاداً قرآنياً وبضعة أحاديث أُخرجت معظمها عن سياقاتها، يتبع البنا كعادته أسلوب الرسائل الخطابية القصيرة المركَّزة المنظمة سهلة الحفظ؛ بل واجبة الحفظ كما يقول عند ذكر أركان البيعة العشرة التي استولت على معظم رسالته هذه، وهي: الفهم والإخلاص والعمل والجـهــاد والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والأخـوَّة والثقة.
اقرأ أيضاً: حسن البنا وفضيحة إخوانية بين "النيويورك كرونيكل" و"النيويورك بوست"
لم يبدأ البنا بركن "الفهم" هذا عبثاً؛ لأنَّه بداية ترك "الأخ المسلم" عقله ومتابعة شخص أقلّ ما يقال فيه، وفق هذا الفهم، إنّه "ملهم" لا يُستدرك عليه، "إنما أريد بالفهم :أن توقن بأن فكرتنا إسلامية صميمة وأن تفهم الإسلام كما نفهمه، في حدود هذه الأصول العشرين الموجزة كل الإيجاز"، وهذه أخطر مقولات البنا على الإطلاق، التي يصادر فيها أي رأي آخر وكأنه يتمثل ما ورد في الآية الكريمة "مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ".
ثم يشرع في تعداد أصول الفهم هذه، لعلّ أطرفها ما يحمل الرقم (18) التي أنّى لها أن تستقيم مع مفتتح كلامه السابق: "الإسلام يحرر العقل، ويحث على النظر في الكون، ويرفع قدر العلم والعلماء، ويرحب بالصالح والنافع من كل شيء، والحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق الناس بها"!
اقرأ أيضاً: هل سرق حسن البنا النار من صديقه السكري؟
وحين نقرأ الأصل رقم (8) ونصه " والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سبباً للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء ولكل مجتهد أجره.." ألن نصطدم مع البنا مرة أخرى وهو القائل عن تعاليمه "وإن انصرفت عنها وقعدت عن العمل لها فلا صلة بيننا وبينك"، عندها ليس أمامنا لنجمع بين هذين القولين إلا أن نفهم أنّ ما يورده هو عين "الأصول" التي لا يجوز أن يقع خلاف حولها من مسلم صادق، هذا هو خلاصة ما يريد قوله؛ أي إنّ الرجل ليس في كلامه "فروع" تحتمل الخلاف، وهو ما يؤكده عند توضيحه للركن الثامن من أركان البيعة: "أما التجرد فأن تتخلص لفكرتك مما سواها من المبادئ والأشخاص؛ لأنها أسمى الفكر وأجمعها وأعلاها: (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً)".
يتوعد البنا من يخرج عن هذه التعاليم بما يوحي أنها خطيئة ترقى إلى الخروج من الإسلام ذاته
وينتقل البنا إلى فصل الخطاب الذي يريد إيصاله من هذه التعاليم في الركن العاشر والأخير من أركان البيعة ألا وهو "الثقة"، ولكن الثقة بمن؟ "وأريد بالثقة :اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه اطمئناناً عميقاً ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة؛ (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65)".
ولا يكتفي البنا بأن يدعّم مقولته في الثقة العمياء بقيادة الإخوان (المتمثلة بشخصه) بالآية الكريمة الموجهة للرسول صلى الله عليه وسلم، بل يتابع مشدّداً عليها بقوله: "وللقيادة في دعوة الإخوان حق الوالد بالرابطة القلبية، والأستاذ بالإفادة العلمية، والشيخ بالتربية الروحية، والقائد بحكم السياسة العامة للدعوة، ودعوتنا تجمع هذه المعاني جميعاً، والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات".
اقرأ أيضاً: لماذا قدّم الإخوان 3 تفسيرات مختلفة لرسالة التعاليم لحسن البنا؟
إنّ من ينتهي به الأمر مؤمناً بهذه التعاليم قولاً وفعلاً، كما يطلب صاحبها، سيصل إلى نتيجة بيّنة لا تحتمل أي تأويل؛ بأنّ هذا هو الإسلام وفهمه الصحيح ولا مكان للخلاف حوله، وهذا سر الفلاح في الدنيا والآخرة، وفي ذلك يقول البنا: "وأعتقد أنك إن عملت بها وجعلتها أمل حياتك وغاية غايتك، كان جزاؤك العزة في الدنيا والخير والرضوان في الآخرة، وأنت منا ونحن منك".
يختتم حسن البنا "التعاليم" بوعيد عجيب لكل من خرج عن هذه الجادّة، بما يوحي أنّ هذه "الخطيئة" ترقى إلى الخروج من الإسلام ذاته، وبما يوجب المحاسبة الإلهية على هذا الذنب الذي لا يغتفر "وإن انصرفت عنها وقعدت عن العمل لها فلا صلة بيننا وبينك، وإن تصدرت فينا المجالس وحملت أفخم الألقاب وظهرت بيننا بأكبر المظاهر، وسيحاسبك الله على قعودك أشد الحساب، فاختر لنفسك ونسأل الله لنا ولك الهداية والتوفيق".
فصل الخطاب الذي يريد البنا إيصاله في الركن العاشر والأخير من أركان البيعة هو الثقة بالمرشد
وبعد أن ينتهي المرشد الأول من شرح أركان البيعة، ينتقل إلى "واجبات الأخ العامل"، وهي في معظمها توجيهات مسلكية تتسرب إلى أدق التفاصيل في حياة العضو الإخواني من عمل ومأكل وملبس ومسكن والحض على مطالعة رسائل الإخوان وجرائدهم، ويبلغ الأمر حد "مقاطعة المحاكم الأهلية وكل قضاء غير إسلامي، والأندية والصحف والجماعات والمدارس والهيئات التي تناهض فكرتك الإسلامية مقاطعة تامة".
وتصل هذه الواجبات التي يبلغ عددها 38 إلى منتهى التحكم بالحياة الشخصية وحرية الاختيار والحركة في الثلاثة الأخيرة منها: "أن تعرف أعضاء كتيبتك فرداً فرداً.. وأن تحضر اجتماعاتهم فلا تتخلف عنها إلا بعذر قاهر، وتؤثرهم بمعاملتك دائماً"، و"أن تتخلى عن صلتك بأية هيئة أو جماعة لا يكون الاتصال بها في مصلحة فكرتك وخاصة إذا أُمرت بذلك"، وأخيراً "أن تحيط القيادة علماً بكل ظروفك ولا تقدم على عمل يؤثر فيها جوهرياً إلا بإذن،.. وأن تعتبر نفسك دائماً جندياً في الثكنة تنتظر الأوامر".
رغم أن رسالة التعاليم لا تتجاوز 10 صفحات إلا أنها تمثّل خطاباً مشبعاً بالمتناقضات
ويبلغ البنا ذروة التزكية للمنهج الذي اختطه حين يختار الآية الكريمة خاتمة هذه التعاليم في إيحاء لا يخفى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ".
رغم أنّ هذه الرسالة لا تتجاوز من الصفحات عشراً، إلا أنّها تمثل خطاباً مشبعاً بالمتناقضات، فحين نستمع للبنا بعد كل ما ذكره يقول "ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجرَّ ذلك إلى المراء المذموم والتعصب"، لن يكون أمام من تتملّكه الحيرة من إجابة إلا أن يدرك أنّ ملخّص رسالة التعاليم هذه بكل بساطة: اترك عقلك واتبعني.