رحلة الإنسان بين قمتين

رحلة الإنسان بين قمتين


23/06/2019

في نيسان (أبريل) 2019 نشر الكاتب الأمريكي، ديفيد بروكس، مقالاً في صحيفة "نيويورك تايمز" أورد فيه أنّ رحلة الإنجاز الشخصي والعملي للإنسان تتراوح بين مرحلتين أو قمّتين. وإذا كانت القمة الأولى تتمحور حول بناء الأنا وتحديد الذات، فإن القمة الثانية تتحدث، في الغالب، عن التخلص من الغرور وإنكار الذات. وإذا كانت القمة الأولى تدور حول الاستحواذ والتملك؛ فالثانية تتعلق بالمساهمة والعطاء.

اقرأ أيضاً: "المجتمع المعنوي": دولة الأخلاق هي الحل
ويرى بروكس أنّ الأشخاص الذين ارتقوا إلى القمة الثانية هم من يقودوننا إلى ثقافة جديدة، وأنّ التغيير الثقافي يحدث عندما تجد مجموعة صغيرة من الناس طريقة أفضل للعيش، ويقلدهم بقيّتنا. ويقودنا ذلك إلى الثورة الأخلاقية، ومن ثم إلى هدف مختلف.

حبّ الذات وليس الأنانية أمر مطلوب مدى الحياة وهو شرط شارط لحبّ الآخرين ونضج الأخلاقية

على القمة الأولى، يقول الكاتب الأمريكي، نرنو إلى السعادة، لكن على القمة الثانية نكافأ بالفرحة. والاختلاف، برأيه، أنّ السعادة تنطوي على انتصار للذات، وتحدث عندما نحقق أهدافنا، كأن نحصل على ترقية، على سبيل المثال. وأما الفرحة فهي في تجاوز الذات. وعندما نكون على القمة الثانية ندرك أنّ السعادة جيدة، لكن الفرحة أفضل، على حدّ قوله.
بالطبع، فإنّ كلام بروكس مجالٌ للنقاش والسجال والأخذ والردّ، فمثلاً، من الصعب الحديث الحِدّي عن مرحلة يتمّ فيها تحقيق الذات وأخرى يجري فيها إنكار الذات؛ فسيرورة تحقيق الذات لا تنقطع، وحبّ الذات، وليس الأنانية، أمر مطلوب مدى الحياة، وهو، في تقديري، شرط شارط لحبّ الآخرين، ونضج الأخلاقية، وفاقد الشيء لا يعطيه.

اقرأ أيضاً: الاستقامتان العقلية والأخلاقية إذ تصدران عن ضمير حي
من المؤكد أنّ بروكس يقصد الحديث عن أيّ أولوياتٍ تسيطر على الإنسان في مرحلة ما من حياته، وكيف تسمو الأخلاق والقيم بنزعة العطاء والبذل والمساهمة والحب، لتتقدم على نزعات الأنانية والغرور والنرجسية والتمركز حول الذات.

إنّ من يُحدِثُون فَرقاً في مجتمعاتهم الصغيرة أو الكبيرة تختلف معاييرهم وأولوياتهم عن أولئك الذين يمرّون مرور الكرام

والصحيح أنّ من "يُحدِثُون فَرقاً" في مجتمعاتهم الصغيرة أو الكبيرة إنما تختلف معاييرهم وأولوياتهم عن أولئك الذين "يمرّون مرور الكرام". لكن إذا أردنا توسيع الدائرة وإكساب الأمر شيئاً من التبسيط والتعميم، فقد يجوز القول إنّ الشيء الواضح أنّه مع سنين العمر يتسع باب القلق والغموض، ويُتركُ "شيءٌ من الالتباس يُنعِشُ الاحتمال"، بلغة جمانة حداد، وكأنّ خبرة الحياة ترتبط باتقان مهارة التسويات ومنطق التنازلات... و"فن التغاضي"، ولهذا ثمنه بكل تأكيد. هنا تبدأ "لعبة الحسابات"، وحساب الخسائر والأرباح، وحساب أكلاف احتمال الأشياء والأشخاص والأفكار، والارتباط بالأمور أو تركها.
وتبدو صفة العطاء ونكران الذات تجتذب في طريقها سياسة التحايل على المشاعر، وهذا يجعلنا غير راغبين برؤية الأمور على حقيقتها، وعلى ما هي عليه بالفعل. قد نقول بيننا وبين أنفسنا: من الأجدى لنا أن ننظر بنصفِ عينٍ؛ حتى لا تصدمنا الحقائق بقسوتها، وحتى لا ينقطع حبل الوصل والتواصل، والأخذ والعطاء.

اقرأ أيضاً: التربية الأخلاقية الفعالة ومحو الأمية العاطفية
في كثير من المراحل والأوقات قد يكون التحايل على الذات والمشاعر قنطرة لكثيرين لتجنّب العزلة عن الناس، وفقدان الأمل فيهم، جرّاء اكتشاف حقيقة نوازعهم ودوافعهم. وهذا التحايل هو في الواقع "تواطؤ" من أجل استمرار حياتنا، فنحن أيضاً يعتورنا النقص، وقد يملّنا الآخرون، وهم يطّلعون أكثر فأكثر على قصورنا، وبهذا المعنى نحن نحتاج أيضاً إلى "تحايلهم على ذواتهم" حيالنا وحيال غيرنا!

لماذا نودّ أكثر فأكثر لو نولدُ من جديد ونتهجى الأسماء والصور بقلب آخر وعين أخرى ولسان آخر!

إنّ القبول النفسيّ بمحدودية قدراتك وإمكاناتك وذاتك، ليس يتعارضُ مع إدراك ما تنطوي عليه من إمكانات وخبرات، وما تختزنه من تجربة وإبداع ومهنية وكفاءة وحكمة. وهذان الحدّان يخلقان إحساساً بالذات يحاول، وقد لا يُفلح، أنْ يبتعد عن الغرور والنرجسية الثملة أو المبالغة والاستعراض، بل يراه بعضهم شعوراً حقيقياً يعكس عمق الذات وإحساسها بأنّ الامتلاء النفسي من منابعه إدراكُ محدوديتنا وعدمُ التوهم أننا خارقون أو مكتفون بذواتنا.
لكنّ فضيلة الرضا والتواضع لا تمنع أوردةً وشرايين أنْ تطلبَ مزيداً من الهواء لتتنفس أكثر فأكثر، وتتساءل أكثر فأكثر: لماذا يُصابُ الكثيرون عند منتصف العمر تقريباً، وما بعدها، بِداءِ "النَهَم" وصولا ً إلى حافة الطيش والرغبة في المغامرة، وربما "التهوّر"؟!. لماذا ينتابنا هاجسُ "عدم الارتواء"؟. لمَ يُلحّ علينا هامسٌ سريّ يهتف في دمائنا: كم نحن عطشى؟! وكم نخشى أنْ يفوتنا شيء! لماذا نكتشف بإلحاح جارف أنّ "الحياة قصيرة" وأنّ عمراً واحداً ربما لا يكفي لعيشها واكتشافها وسبر اشتهاءاتها. لماذا نودّ، أكثر فأكثر، لو نولدُ من جديد، ونتهجى الأسماء والصور بقلب آخر وعين أخرى ولسان آخر!

اقرأ أيضاً: كيف تكون الأخلاق بلا دين؟

قد يكون العطاء حافزاً قوياً للتغلب على مأزق أنّ "الحياة قصيرة". قد يكون العطاء بحثاً عن خلود رمزي، وانتصار على الذات.

الورطة التي تداهمك مع جريان العمر تسألك: أتُراك الآن تكتمل أم تنقص؟ هل فاتك القطار أم عشتَ بالطول والعرض؟

ومع ذلك، فإنّ الورطة التي تداهمك مع جريان العمر تسألك: أتُراك الآن تكتمل أم تنقص؟ أيّ معنى للنضج والتعقل يلزمك؟ وهل تحقيق الذات متحقق من دون اكتشافها؟ وهل متاح لك اكتشافها؟ وهل أنت تبدأ أم تنتهي؟ هل فاتك القطار أم عشتَ "بالطول والعرض"؟ وهل... وهل...إلى أنْ تبدأ الأسئلة تكتسب تضاريسها، وتكشف عن ملامحها وصفاتها وأسرارها.. وتصبح أسئلتك أنت لا أسئلة الآخرين، إذْ لا جديد ولا تجربة خاصة من دون أنْ يكون لك مثل تلك الأسئلة التي تخصك أنتَ وتعتلج في صدرك أنت.. وتطلب مزيداً من الهواء ليخفف من وطأة اشتعالها.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية