
أوس أبو عطا
تعرّش تجربة الشّاعر والنّاقد والصّحافي الفلسطيني راسم المدهون في فناء البيت الفلسطيني الرحب ككرمة عنب تثمر صيفا وشتاءً؛ تظلّل الأقلام الغضّة بالفكر المتنوّر، لتقيه حر التطرّف ولهيب الشّعارات التي يسهل نُطقها ويستحيل تحقيقها.
لا يمكن حصر تجربة أبوغياث بعمله في إذاعة الثورة الفلسطينية في أوائل السبعينات في مطلع الشباب والتقائه مع رموز الثورة الفلسطينية من ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف ونايف حواتمة وياسر عبدربه وجورج حبش وأبوعلي مصطفى والغالبية العظمى منهم وبالأخص ماجد أبوشرار الذي ربطته معه صداقة عميقة خلال عمله في الإعلام الموّحد مع الأخذ بالحسبان أن الشهيد ماجد أبوشرار كان قاصا مبدعا ولا تغيب عن البال مجموعته القصصية “الخبز المر”، وكان دائم المزاح مع الصحافيين في الإعلام الموّحد ويقول لهم “لولا النضال الوطني لتفرغت للكتابة وتفوّقت عليكم جميعا.”
غني عن البيان أن راسم المدهون من أبرز الوجوه الصحفية الشّابة لمجلة فلسطين الثورة ومن أشد المؤيدين – قولاً وكتابةً – للبرنامج المرحلي وأشد المعارضين لليمين الفلسطيني المتشدد، يضاف إلى ذلك تأييده المطلق للثورة السورية، حيث فقد ابنه الأصغر غسان خلالها.
المدهون الشّاعر المنحاز لقصيدة النثر والناقد المهم، صاحب الشّعبية الجارفة بين المثقفين والأدباء العرب وأكثر من يسلّط الضوء على المواهب الشّعرية الشّابة.
غزّة أرض البدايات الحالمة
غزة التي نزحت إليها عائلته وأمّه تحمله في قفّة على رأسها وعمره ثلاثة أشهر فقط بعدما ولدته بمجدل عسقلان في العام 1948 وغادر قطاع غزّة وهو في التاسعة عشرة من عمره.
تعرج به ذاكرته إليها، فهي الطفولة والقراءات الأولى وبدايات التعرف على العالم وعلى تفاصيل التراجيديا الفلسطينية.
الزمن الذي مرَّ منذ غادرها يبدو له في الكثير من الأحيان واقفا عندها وممتلئا بها وبالملايين من الصور التي تحمل كل صورة منها تفصيلا يثير في روحه الحنين والأسى معا حسب تعبيره.
وبهذا المعنى تظل غزة أمًّا كبرى تحنو على روحه، ورغم ما تمرُّ بها من آلام لا تزال تحفر عميقا في خلاياه كل يوم وكل لحظة. هي أيضا أرض البدايات الأولى، الحالمة، والرومانسية والتي اقترنت كثيرا بالشعر وببدايات كتابته وببساطة وحتى سذاجة تجاربه الأولى التي احتاجت سنوات طويلة كي تنمو قليلا واستطاع أن يثق بها.
ولعل أكثر ما تجذّر بذاكرة الشّاعر؛ الكتب الفريدة التي طالعها في مكتبة خان يونس من الشوقيات والأطلال لإبراهيم ناجي و طبقات الشعراء لابن المعتز وإعجاز القرآن الكريم لمصطفى صادق الرافعي، وكتب عباس محمود العقاد ومجلّد مجلة الرسالة التي أصدرها أحمد حسن الزيات ومنها قرأ قصة بائعة الكبريت الشّهيرة؛ فكانت النافذة الضيقة وشبه الوحيدة للحداثة، أضف إلى ذلك القليل من الكتب التي كان يحضرها شقيقه الروائي المعروف ربعي المدهون أثناء مرحلته الدراسية الجامعية وحين يعود كل صيف من الجامعة في مصر؛ من كتب جان بول سارتر وروايات نجيب محفوظ.
وهج صحافي لا يخبو
في العام 1972 انضم راسم المدهون لكادر إذاعة الثورة الفلسطينية في مدينة درعا بسوريا، وعمل كمحرر للأخبار والتعليقات السياسية إلى أيلول 1973 حين قام النظام السوري البائد بالاستيلاء على الإذاعة واعتقال المدهون وزملائه وزجّ بهم في سجن المزة العسكري حيث تم الإفراج عنهم قبل أيام قليلة من حرب تشرين 1973، ثم غادر المدهون برفقة كادر الإذاعة سوريا إلى العاصمة العراقية بغداد للعمل في إذاعة الثورة الفلسطينية التي كانت تبث من موجات إذاعة صوت الجماهير العراقية إبان الحرب في 1973.
ثم كان العمل في مجلة فلسطين الثورة التي كانت ناطقة باسم منظمة التحرير الفلسطينية وفيها أوائل العمل الصحفي الحقيقي ومنها إلى دورة صحفية لمدة عام كامل في برلين الشرقية، ومن ثم العودة إلى دمشق للعمل في وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية (وفا) لسنوات وبعدها في مجلة الحرية التابعة للجبهة الديمقراطية ومنها إلى العاصمة القبرصية نيقوسيا، حيث العمل في مجلات الحرية والبلاد والأفق، وبعدها العودة إلى سوريا في العام 1992.
واظب على الكتابة في جريدة الحياة الدولية منذ العام 1989 حتى إغلاقها في العام 2018، وهو يعتبرها من أغنى تجاربه الأدبية حيث تميزت بالقليل من الشعر والكثير من مقالات النقد الأدبي والفني من الدراما التلفزيونية والمسرح والسينما. وبما أنه لا يوجد تقاعد في مهنة الكتابة، ما يزال راسم المدهون إلى يومنا هذا؛ يكتب النقد الأدبي بشكل دوري في موقع ضفة ثالثة التابعة لصحيفة العربي الجديد.
لم تخل صحيفة أو مجلة فلسطينية من مقالات أو قصائد راسم المدهون الذي يعتبر أن مجلة الكرمل هي درّة تاج منشوراته الأدبية والتي كان رئيس تحريرها صديقه الشاعر الكبير محمود درويش.
ولا أبالغ حين أقول إن غالبية الصحف العربية وبالأخص الخليجية، كتب فيها المدهون بشكل متفرّق، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، الوطن والعربي في الكويت، والاتحاد في الإمارات العربية المتحدة ونزوى العُمانية وبشكل شبه دائم في المستقبل والسفير في لبنان.
الكتابة على أزيز الرصاص
حط الرحال بأبي غياث في حي الضاحية بمدينة درعا السورية منذ العام 1992، التي يعتبرها مرحلة قاسية لتعرّضه فيها لمضايقات مزعجة من أجهزة النظام السوري القمعي، كان أبرزها المنع من السفر، الأمر الذي حال دون مشاركته في المهرجانات الشعرية العالمية رغم تلقيه دعوات رسمية من إدارة المهرجانات، مع الاستدعاءات المتكررة للتحقيق في مراكز الأمن العسكري ومراكز أمن الدولة باتهامات شتى، مثل تهمة العمل مع ياسر عرفات في التسعينات والعمل مع المعارضة السورية قبل الثورة السورية. أمّا بعد انطلاق شرارة الثورة من مدينة درعا، فقد عايش المدهون المعارك العسكرية الخطيرة بين قوات المعارضة والنظام البائد حتى انتصار الثورة السورية وسقوط النظام الشمولي في سوريا.
وكانت سنوات الثورة السورية فترة غنية بكتابة الشعر، حيث كان ولم يزل يعتبر أن كتابة الشعر تحت أزيز الرصاص نوع من مقاومة الحرب ومخاطرها، وقد أثمرت هذه الفترة العصيبة عمّا يقارب ألف قصيدة، أي بغزارة لم تكن من عاداته الكتابية، فهو شاعر مقلّ، نشر بعضها في مجموعتين شعريتين وما تبقى من قصائد أخرى ما زال ينتظر النشر في مجموعات قادمة.
كتب أكل.. لم يكتب لم يأكل
” كتب أكل لم يكتب لم يأكل” هذه الجملة هي من بنات أفكار الكاتب راسم المدهون في وصف حالته وحالة أقرانه في العمل الكتابي والصحفي.
احترف المدهون الكتابة الصحفية حين كان يبلغ من العمر 22 ربيعا، ولم يمارس مهنةً غيرها قط، فكانت مصدر رزقه الوحيد، فساعات عمله تمتد لطوال اليوم من قراءة وكتابة.
ولا يوجد عطل رسمية في الكتابة، وهذا الأمر يعرفه جيّدا من يعملون بالصحافة بوفاء.
ويرى المدهون أن الصحافة تؤثر سلبا على الكتابة الإبداعية، فهو ينصح الشعراء والروائيين والقصاصين بعدم الاقتراب من الصحافة والتركيز فقط على كتابتهم الإبداعية، وأوّل من أخذ بهذه النصيحة وطبّقها قولا وفعلا، ابنه البكر الشاعر غياث المدهون الحائز على جوائز شعرية عالمية والمتنقل في العواصم الأوروبية على عاتق المنح الكتابية الإبداعية التي تقدمها الحكومات الأوروبية للكُتاب المبدعين.
لا بديل عن منظمة التحرير
يعتبر المدهون أن انقلاب حركة حماس في صيف العام 2007 كان البداية العملية لضرب المشروع الوطني الفلسطيني عن طريق شقّ غزة عن الضفة الغربية بالقوة العسكرية التي ترافقت مع استخدام الدين في السياسة بقصد تأثيم النضال الوطني الفلسطيني الذي سبق حماس، والذي راكم إنجازات حقيقية للشعب الفلسطيني سواء في الانطلاقة الأولى في مطلع العام 1965 أو معركة الكرامة في مارس 1968، أو كل العمليات العسكرية الفدائية التي حظيت بإعجاب العالم الحر وشهدت انضمام الكثير من المتطوعين للثورة الفلسطينية، وكرّست بعد ذلك منظمة التحرير الفلسطينية كحركة وطنية للشعب الفلسطيني وكممثل وحيد له.
شكّل الانقلاب بقصد أو بغير قصد خدمة لأهداف العدو في عدم قيام دولة فلسطينية مستقلة ومنع الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره وبناء دولته المنشودة.
هذا المشروع المضاد للمصالح الفلسطينية العليا جرى دعمه لاحقا من خلال إيران وصولا إلى تأسيس ما يسمّى محور المقاومة؛ وعنوانه الأبرز القفز على منظمة التحرير وإلغاء استقلالية الكفاح الفلسطيني وتحويله إلى مجرّد ذراع لدولة الملالي في طهران، خدمة لمصالحها الضيقة بالاستيلاء على قدسية القضية الفلسطينية ورمزيتها وتسخيرها لخدمة دورها السياسي والمذهبي في منطقة الشرق الأوسط.
عينٌ على القصائد
“نامي لأحلم” عنوان المجموعة الشعرية الأحدث للمدهون، والتي صدرت عن دار “كل شيء” في حيفا. وتدقيقا بتجربته الشعرية الثرّية، كتب المدهون القصائد النثرية والموزونة في مجموعته الشَعرية الأولى “عصافير من الورد” في العام 1983، واقتصرت كتابته على قصائد التفعيلة في مجموعته الشعرية الثانية “دفتر البحر” في العام 1985 والثالثة “ما لم تقله الذاكرة” في العام 1989 والرابعة “حيثُ الظهيرة في برجها” في العام 2002، ثم الانحياز الكامل لكتابة قصيدة النثر فيما صدر بعد، “أغنية للذبول” في العام 2018 و”نامي لأحلم” في العام 2023. وفي سياق متصل، من يقرأ قصائد المدهون يلاحظ بوضوح بروز الصّوت الدّرامي في غالبية قصائده الشّعرية.
وفي تصريح فريد لـ”العرب”، يعتبر الشّاعر المخضرم أن جيله الشعري الذي انطلق في السّبعينات هو جيل تميّز بأن النجومية فيه للحركة الشَعرية بمجملها وليست لأصحابها كأفراد بحالة استثنائية وحيدة ألا وهي محمود درويش، وربما بسبب أن الشَعر الفلسطيني تحت ظل هذه الحركة الشعرية، نقل القصيدة الفلسطينية من حالة القصيدة الوطنية إلى حالة القصيدة الإنسانية التي تنطلق من التعبير عن الذات الفردية ووصولا إلى الكُل الفلسطيني على العكس من سابقتها التي أعطت الأولوية للعناوين الوطنية والسياسية.
وباعتقاده؛ بعدما شَهد الشَعر الفلسطيني هذا التطور الملموس أصبح ذا مصداقية أكبر في التعبير عن المأساة الفلسطينية غير المسبوقة في تاريخنا المعاصر.
العرب اللندنية