دول الخليج وحرب غزة: مُقاربة أوضح لخفض التصعيد في المنطقة

دول الخليج وحرب غزة: مُقاربة أوضح لخفض التصعيد في المنطقة

دول الخليج وحرب غزة: مُقاربة أوضح لخفض التصعيد في المنطقة


04/02/2024

محمد برهومة

مع استمرار الحرب الكارثية في قطاع غزة، يتبلور موقف خليجي أكثر وضوحاً وحزماً؛ عبر تأكيد المسؤولين السياسيين في دول مجلس التعاون الخليجي على إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، والإصرار على أن وجود أفق سياسي حقيقي وجاد للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، من شأنه خفض التصعيد في الشرق الأوسط، وتسهيل جهود تعزيز الأمن الإقليمي، بما في ذلك أمن الممرات البحرية.

وتتخذ المقاربة الخليجية الناشئة من حرب غزة وتداعياتها فُرصةً للانتقال من إدارة الأزمة إلى تقديم حلول عملية، ومن الوصفات المؤقتة إلى تبني رؤية استراتيجية. هذه الرؤية، بالتأكيد، لا تخلو من التحديات؛ في ظل عدم اليقين بأن الحرب أوجدت بالفعل، لدى الجانب الإسرائيلي، أرضية لقبول جادّ لحل الدولتين، وتقوية المسار السياسي. كما لوحظ مرة أخرى، وبعد أربعة أشهر من حرب غزة، أن إضعاف ذلك المسار يُقوّي المحور الإيراني في المنطقة، ويُضعِف مقاربة خفض التصعيد، ويُعزز الحلول العسكرية والأمنية، ويرفع مستوى الخطر الذي تمثله قوى ما دون الدولة أو حكومات المليشيات والجماعات المسلحة، ليس فقط على مفهوم الدولة الوطنية، بل أيضاً على الأمن الإقليمي.

رؤية أكثر ترابطاً

وإذ تبدو المواقف الخليجية حيال ما يجري في قطاع غزة والبحر الأحمر منطلقة من أهمية التركيز على الحلول الشاملة، وضرورة تجاوز منطق إدارة الأزمات في الإقليم، فإن النجاح في إقناع أطراف الصراع واللاعبين الدوليين بهذا المنطق، سيمنح الفرصة لإحداث انعطافة استراتيجية في مقاربة شؤون الشرق الأوسط؛ بعد أكثر من عقدين على مقاربات فَصْل الملفات وتجزئتها، والركون فقط إلى منطق توازن القوى على الأرض، وهو ما دلّت الأحداث والتجارب العديدة أنَّه ينطوي على كثير من الثغرات والقصور، ويجعل الأزمات تزداد حِدّة واتساعاً.

اليوم، يزداد الترابط بين المسألة الفلسطينية والمسألة الإيرانية وفروعها؛ وهو ما يتجلى، مثلاً، في العسكرة المتصاعدة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب على وَقع التطورات الدموية في غزة. وثمة وضوحٌ كافٍ في تصريحات بعض المسؤولين الخليجيين حول أهمية وقف إطلاق النار الفوري في قطاع غزة، الذي يُعدّ مقدّمة لخفض التصعيد في بؤر توتر أخرى في الإقليم. لعل هذا ما أراد أن يشير إليه رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس يوم الثلاثاء (16 يناير 2024) بقوله إن الضربات العسكرية لن تكبح هجمات الحوثيين على ممرات الشحن التجارية في البحر الأحمر، إنما إنهاء الحرب في غزة هو السبيل لذلك، واصفاً الوضع الإقليمي الحالي بأنه "وصفة للتصعيد في كل مكان"، ومن ثمَّ فإن "نزع فتيل الصراع في غزة سيوقف التصعيد على جبهات أخرى".

 وفي تأكيده مركزية القضية الفلسطينية في ترسيخ نهج خفض التصعيد، خلص المسؤول القطري إلى أننا "نحتاج حل الأزمة الرئيسة، وهي غزة، حتى تتوقف جميع الأزمات الأخرى الناتجة عنها... إذا ركّزنا على الأعراض فقط وأهملنا علاج المشكلات الحقيقية، ستكون [الحلول] مؤقتة".

وتتوقع دول الخليج من الولايات المتحدة أن تقوم بدور محوري في إنزال مثل هذه المقاربة على أرض الواقع، وفي شكلٍ يتسم بالشمولية والسرعة. ففي نوفمبر الماضي، وقبل التصعيد الجاري حالياً في البحر الأحمر بشهرين، كانت ثمة دعوة إماراتية بأنه "يتعين على الولايات المتحدة الضغط من أجل إنهاء الحرب بين إسرائيل وحركة حماس سريعاً، وكذلك وضع استراتيجية جديدة، وإلا فلن ينظر إليها (إلى الولايات المتحدة) على أنها بالقدر نفسه من الكفاءة. وكانت هذه الدعوة الإماراتية تؤكد، بحسب الدكتور أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات "أن سياسة الاحتواء التي انتهجتها إسرائيل على مدى العقدين الماضيين فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية لم تُؤتِ ثمارها، [والمطلوب] اتباع نهج جديد في ما يتعلق بمسائل اللاجئين والحدود والقدس الشرقية".

لقد كانت دعوة المستشار الدبلوماسي الإماراتي واضحةً في تركيزها على أن النفوذ الأمريكي سيُقاس "بالمدى الزمني لانتهاء هذه الحرب. وكلّما كان ذلك أسرع كان أفضل". وهو يربط ذلك المعيار بآخر مفاده بأن القياس كذلك سيكون على ما إذا كان في الإمكان اتباع منهجية أخرى لحل المشكلات. ويُفصِّل ذلك بقوله "إذا استمرت هذه الأزمة، وخصوصاً الجانب الإنساني منها، وإذا مررنا بدورة كاملة في هذه الأزمة وعدنا إلى سياسة الاحتواء القديمة التي كانت سائدة قبل السابع من أكتوبر 2023، أعتقد أن الدور الأمريكي... لن يُعتبر فعالاً".

المعيار الرقمي

ومعيار المدى الزمني ينطوي على بُعدٍ/تفصيلٍ آخر مُهم أيضاً أوضحه رئيس الوزراء القطري في دافوس بقوله "لا يمكن تجاهل الصورة الكبرى، [التي تتضمن حثَّ] المجتمع الدولي على مطالبة إسرائيل بالموافقة على مسار محدد زمنياً ولا رجعة فيه نحو حل الدولتين". وهذا يعني عدم "ترك هذا الأمر في أيدي الإسرائيليين فقط".

وإذْ نتحدث عن مقاربة خليجية ناشئة بوضوح أكبر، فليس بالضرورة أن يعني ذلك أنه تمّ التوافق المسبق خليجياً بشأن هذه التصريحات، لكنّ هذا لا يُقلل من أهميتها، ولا يمنع من وصفها بالمنسجمة مع بعضها بعضاً، والمتكاملة في نظرتها إلى مقولة "خفض التصعيد". 

وقد كان للمملكة العربية السعودية موقفها الصريح في هذا الصدد، وذلك على لسان وزير خارجيتها الأمير فيصل بن فرحان، الذي قال: "متفقون على أن إقرار السلام الإقليمي يشمل السلام لإسرائيل، لكن لا يمكن حدوث ذلك سوى من خلال تحقيق السلام للفلسطينيين عبر إقامة دولة فلسطينية". وأضاف الوزير السعودي "يجب أن يكون وقف إطلاق النار من جانب جميع الأطراف نقطة انطلاق لتحقيق سلام دائم ومستدام، وهو ما لا يمكن حدوثه إلا من خلال تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني".

تَفهُّمٌ أمريكي؟

المقاربة الخليجية المتشكلة بوضوح أكبر لخفض التصعيد في المنطقة على وَقع الحرب في غزة قد وجدت، على ما يبدو، تَفهُّماً ما لدى وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، وهو أمر ظهر بعضُ مؤشراته المعلنة في تصريحاته الأخيرة، التي ذكر فيها أن الدول العربية ليست حريصة على المشاركة في إعادة إعمار غزة إذا كان القطاع الفلسطيني "سيُسوَّى بالأرض" مُجدداً خلال بضعة أعوام. وشدّد على أهمية إقامة دولة فلسطينية من أجل التوصل لأي تسوية إقليمية. ولفت الوزير الأمريكي إلى أنه كانت هناك "معادلة جديدة" في الشرق الأوسط، وأن جيران إسرائيل العرب والمسلمين كانوا مستعدين بمقتضى هذه المعادلة لدمج إسرائيل في المنطقة، لكنهم كانوا ملتزمين بالقدر ذاته بمسار يؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية. 

الخلاصة

أظهرت الحرب في غزة قيود سياسات القوة وحدودها، وأن الأزمات لا تجد سبيلها للحل المستدام إلا عبر أفق سياسي عادل وشامل. وفي سبيل الوصول إلى إعادة هيكلة مقولة "خفض التصعيد" في الشرق الأوسط ومنع توسع الصراع، يزداد الترابط بين المسألة الفلسطينية والمسألة الإيرانية وفروعها؛ كما يتبدى ذلك في التصعيد العسكري الحوثي في البحر الأحمر وبحر العرب. وأظهرت تصريحات بعض المسؤولين الخليجيين المشددة على أهمية وقف إطلاق النار الفوري في قطاع غزة، أن هذه الخطوة مقدّمة لا غنى عنها لخفض التصعيد في بؤر توتر أخرى في الإقليم. ومعنى ذلك، أن الاستعداد الناجح لليوم التالي في غزة، وما هو أبعد منها، غير مُنفصل عن معالجة أسباب الصراع الجذرية والحقيقية وتجددها، بحسب ما ذكرت وزارة الخارجية العمانية في تعليقها على القصف الأمريكي البريطاني على مواقع الحوثيين في اليمن في ليلة الحادي عشر من يناير الجاري؛ أيْ ضرورة ربط اليوم التالي باليوم السابق، والتوقف عن سياسة ازدواجية المعايير.

وإذْ يُعارِض زعماء اليمين في الائتلاف الحاكم الحالي في إسرائيل إقامة دولة فلسطينية، فإن رئيس الدبلوماسية الأمريكية، أنتوني بلينكن، أشار إلى أن التحدي هو مدى استعداد المجتمع الإسرائيلي للتعاون لتحقيق رؤية جديدة مع المنطقة وشعوبها. لكن الوزير نبّه في الوقت نفسه إلى أنّ أي سلطة فلسطينية لا تجد دعماً من إسرائيل لن تستطيع تقديم ما يتطلبه الأمر للشراكة بين الطرفين. 

لعلَّ من أهم الدروس المستفادة من حرب غزة المشتعلة، أن الحديث عن ضرورات المسار السياسي يتطلب ضمانات أقوى، خاصةً من الطرف الأمريكي، والتزاماً فعلياً وسريعاً بهذا المسار، واقتناعاً إسرائيلياً بقصور سياسات القوة في تعزيز الاستقرار الإقليمي، بل الاقتناع بأنها مدخل للفوضى والتطرف.

عن "مركز الإمارات للسياسات"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية