دبلوماسية الوباء: كيف تستفيد الدول من أزمة كورونا في سياساتها الخارجية؟

دبلوماسية الوباء: كيف تستفيد الدول من أزمة كورونا في سياساتها الخارجية؟


25/12/2021

نوران هشام

أضافت جائحة وباء كورونا منذ اندلاعه منذ أواخر 2019 حتى وقتنا الحالي أبعادًا جديدة إلى لغة السياسة الدولية، وفي القلب منها العلاقات الدبلوماسية. وانعكس هذا التغير على ممارسات واتجاهات الدول في إدارة شؤونها الخارجية؛ فمنها من نجحت إلى حد كبير في استغلال تلك الأزمة لصالحها دبلوماسيًّا سواء في تحسين صورتها الخارجية أو في توسيع دائرة نفوذها أو في تحقيق مصالحها. ويمكن حصر هذه الممارسات تحت عنوان “دبلوماسية الوباء،” التي تعكس العديد من العناصر التعاونية والتنافسية بين قوى العالم.  

ما هي دبلوماسية الوباء؟

بشكل عام، تعتبر الدبلوماسية هي أحد أدوات الدول في سياستها الخارجية، للتأثير على قرارات وسلوك الحكومات والشعوب الأجنبية باتباع الأساليب السلمية. وفي سياق آخر قد يقتصر مفهوم الدبلوماسية على العلاقات الرسمية بين الدول وبعضها وما ينتج عنها من مهام البعثات الدبلوماسية. وكأداة مهمة في السياسة الخارجية، تهدف الدبلوماسية لحماية وتعظيم مصالح الدولة بدون اللجوء إلى القوة أو الحرب باستخدام أساليب اقتصادية كالعقوبات أو المعونات، أو التفاوض والدبلوماسية بأنواعها هي من أنواع القوة الناعمة للدولة.

أما عن “دبلوماسية الأوبئة” أو “دبلوماسية الفيروس” فهي محددة بالزمان، أي في ظل جائحة الوباء، وكذلك محددة بأدوات ونهج مرتبطة بدبلوماسية الصحة العامة “Health Diplomacy”. وأحيانًا يقتصر مفهوم “دبلوماسية الأوبئة،” على الدبلوماسية المرتبطة بتوزيع اللقاحات. وأكثر الدولة شهرةً بهذا النوع من الدبلوماسية في وقت أزمة كورونا بشكل صريح هي الصين، على الرغم من أن هناك دول أخرى، كما سوف نستعرض، قد استغلت الأزمة لأجل تحقيق مصالحها وتوسيع نطاق نفوذها مثل إيران.

الدبلوماسية الشعبية في الجائحة

استغلت بعض الدول، مثل كوريا الجنوبية والصين، وسائل الإعلام العالمية ومواقع التواصل الاجتماعي أثناء الجائحة لمخاطبة شعوب الدول الآخرى لأجل تحسين صورتها والتأثير على الرأي العام العالمي، وهذا ما يُعرف بالدبلوماسية العامة أو الدبلوماسية الشعبية.

أستغل مون جاي إن – رئيس كوريا الجنوبية الحالي – الجائحة وأطلق حملة دعائية قوية موجهة للخارج. واستهدف فيها تصدير فكرة أن الحكومة الكورية قادرة على إدارة الأزمة بما تمتكله من بيانات ومعلومات، وإمكانيات تقنية، وتجهيزات طبية ساعدتها على اختبار أكثر من 20,000 مواطن يوميًا. وكذلك لعب الشعب الكوري دورًا محوريًا حيث خلق لنفسه سمعة عالمية بأنه أول من طبق “العزلة الاجتماعية الإرادية”، وذلك يعكس أن الشعب الكوري على قدر كبير من الوعي وكذلك يقف خلف حكومته لأجل عبور الأزمة.

وواجهت الصين، في بداية الجائحة، تهديدًا لمكانتها وصورتها الدولية، خاصًة أن الوباء قد ظهر وتفشى في البداية في وهان، فقد رأى البعض أن الصين مسئولة عن انتشار الوباء لسوء إداراتها للأزمة. كما انتشرت “نظرية التسرب المختبري” التي تشكك أن فيروس كورونا قد تسرب، عن طريق الخطأ أو عن عمد، من أحد المعامل البيولوجية في مدينة ووهان، كما صرح وزير الخارجية السابق مايك بومبيو.  لذا شنت بيجين جهودًا دبلوماسية شعبوية مكثفة هدفها تكذيب تلك الانتقادات والادعاءات، ولم تقف عند ذلك بل تهدف إلى إقناع الرأي العام الدولي بأن للصين دورًا منقذًا في السيطرة على الوباء عالميًا.

انقسمت دبلوماسية الوباء الشعبية في الصين إلى مرحلتين، المرحلة الأولى هي الدفاع والرد على الاتهامات، والمرحلة الثانية هي الانتقال من دور المدافع إلى المهاجم؛ حيث بدأت في الهجوم المباشر على منتقديها وخاصًة الولايات المتحدة. بدأت المرحلة الأولى الدفاعية منذ يناير إلى مارس 2020. وشملت التسويق لسرعة استجابة الحكومة في بيجين ونجاحها في احتواء الأزمة، وعلى ضرورة الإشادة بشفافية الصين في المشاركة بالمعلومات مع باقي المجتمع الدولي وكذلك إرسال المساعدات والتبرعات للدول الأفريقية والأسيوية والأوروبية. ثم أطلقت حملة لمكافحة وصم الوباء بأنه “الوباء الصيني.”

بعد تنظيم الحملات الإعلامية الدفاعية في وسائل الإعلام الإقليمية والدولية، وكذلك مواقع التواصل الاجتماعي، انتقلت الصين للمرحلة الثانية وهي الهجوم. أخذت بيجين في اتهام الولايات المتحدة والدول الأوروبية بالفشل في احتواء الأزمة؛ بل وتسييسها بإلقاء اللوم على الصين بدلًا من أن يظهروا عاجزين أمام الرأي العام المحلي والدولي. ولم تقتصر بيجين على اتهام الولايات المتحدة في الفشل في  الإدارة الداخلية، بل شككت في قدرة الولايات المتحدة على قيادة العالم أيضًا. وزيادة في حدة الهجوم، صرحت بعض وسائل الإعلام الصينية أن أصل نشأة الفيروس كان في مختبر “فورت ديتريك” البيولوجي بولاية ماريلاند بالولايات المتحدة، وهذا المختبر يجري أبحاثًا لصالح الجيش الأميريكي. وفي أغسطس 2021، زادت المطالبات بفتح التحقيق في هذا المختبر.

دبلوماسية اللقاح 

بعد اندلاع أزمة كورونا، أخذت الدول تتسابق على الوصول إلى لقاح فّعال للحماية من فيروس كورونا، وبالفعل نجحت أكثر من 40 دولة، حتى وقتنا ذلك، في إنتاج أنواع من اللقاح، وبدأت حملات التوزيع والتبرع، لكن المعضلة هنا هي أي دول سوف تحصل على كميات كافية لتحصين شعوبها؟ نشأت عدة مبادرات مثل مرفق كوفاكس المدعوم من منظمة الصحة العالمية لضمان التوزيع العادل للقاحات خاصًة في الدول الفقيرة. وعلى الرغم من دعاوى منظمة الصحة العالمية المتكررة، فضلت أغلب الدول أن توزع وتتبرع باللقاحات بشكل ثنائي، والتفسير المنطقي لذلك أن هذا يخدم مصالحهم بشكل أفضل. ولكن كيف تستخدم الدول اللقاح دبلوماسيًا وسياسيًا؟ يمكن رصد عدة سبل في هذا السياق: 

أولًا، توسيع منطقة النفوذ عن طريق توزيع اللقاحات: تسابقت الصين وروسيا مع الولايات المتحدة في منطقة أمريكا اللاتينية في توزيع لقاحات فيروس كورونا والمساعدات الطبية. وتعتبر أمريكا اللاتينية هي محيط تأثير تاريخي للولايات المتحدة. بداية من فبراير 2020، بدأت بكين وموسكو في دعم منطقة أمريكا اللاتينية، حيث تبرعت الصين وحدها بتبرعات طبية تتخطى 128 مليون دولار، وظلت الصين هي المورد الرئيسي للقاح في المنطقة. واهتمت روسيا بتقوية علاقاتها مع المكسيك، والأرجنتين، وفنزويلا ومدتهم بملايين الجرعات من اللقاح الروسي “سبوتنيك-V”. وعلى الرغم من ذلك، رد فعل الولايات المتحدة كان بطيئًا؛ حيث أرسل الرئيس الأمريكي جو بايدن في مايو 2021 لأول مرة شحنات لا تتعدى 14 مليون جرعة من اللقاح إلى  بعض دول أمريكا اللاتينية.

ثانيًا، دبلوماسية اللقاح من أجل المساومة: وذلك من خلال تقديم المساعدات الطبية في مقابل “تنازلات” أو “طلبات محددة” لصالح الدولة المتبرعة. فعلى سبيل المثال، اُتهمت الصين بمساومة بعض الدول ببعض المواقف السياسية في مقابل إمدادهم بكميات كافية من اللقاح.  فاتهم وزير خارجية باراغوي أن بيجين عرضت، عن طريق وسطاء بشكل غير رسمي، إرسال كميات من اللقاح في مقابل أن تقطع باراغوي علاقاتها الدبلوماسية مع تايوان؛ وذلك لأن براغاوي هي واحدة من 19 دولة فقط معترفة رسميًا بتايوان كدولة ذات سيادة. علمًا بأن بيجين تزعم أن تايوان ليست دولة مستقلة ولكنها تابعة للصين. وعلى الرغم من أن المتحدث باسم الخارجية الصينية نفى تلك الاتهامات، لكن اتهامات شبيهة وجهت للصين عندما أرسلت اللقاح للدول التي تتفق مع سياسة “الأرض الواحدة” والرافضة للاعتراف باستقلال تايوان.    

ثالثًا، استخدام دبلوماسية اللقاح لأغراض رمزية وترويجية: وهي حالة امتزاج الدبلوماسية الطبية بالقوة الناعمة؛مثلما تفعل الصين لأجل الترويج لمبادرة الحزام والطريق. مبادرة الحزام والطريق هي استراتيجية طرحتها القيادة الصينية في 2013 تهدف لربط الصين بأوروبا عن طريق طرق تعبر في أسيا الوسطى وروسيا. ومنذ 2015، أخذت الصين تروج لمبادرة “الطريق الحريري الصحي” وما تمثله هذه المبادرة من أهمية للصحة العالمية وتتبع الأوبئة والأمراض. ثم جاءت جائحة كورونا لتكون فرصة لبيجين في توصيل التبرعات من اللقاحات للدول عبر هذا الطريق لتثبت فعالياته وأهميته، بينما الدول غير المرحبة بالمبادرة مثل دول أمريكا اللاتينية لم تتلق كمية كبيرة من اللقاحات. وذلك ما صرح به وزير الخارجية الصيني وانغ يي أن الحزام والطريق هو “ممر للإمدادات المنقذة للحياة“. 

رابعًا، توزيع اللقاحات لأغراض تجارية: وفي هذا المنحى، تختلط الدبلوماسية بالسعي وراء الأرباح، أي أن الدول تقوم بدور الشركات. لقد وجهت عدة انتقادات لموسكو لأن سعر اللقاح الروسي “سبوتنيك-V” عالٍ مقارنة بغيره. في فبراير 2021، عرضت روسيا 300 مليون جرعة من اللقاح “سبوتنيك-V” على الإتحاد الأفريقي بسعر 10 دولار للجرعة الواحدة، مع العلم أن اللقاح يتكون من جرعتين، ويعتبر بذلك أغلى من لقاح أسترازنيكا الذي يتكلف 3 دولار للجرعة الواحدة. وفي النهاية، وهو ما أدى إلى توقيع دول الاتحاد الأفريقي اتفاقات مع دول أخرى مثل الصين وبريطانيا والولايات المتحدة. 

وعلى الرغم من الهجوم على التصرف الروسي، لكن في نوفمير 2021 أعلنت الشركة البريطانية المنتجة للقاح أسترازنكا البريطانية أنها سوف ترفع من أسعار اللقاح لترفع من هامش ربحها، بينما ستحافظ على أسعارها نسبيًا للدول الفقيرة. إضافة إلى ذلك، لقاحات الشركات الأمريكية – فايزر ومودرينا – التي تحقق أرباح بمعدل 65,000 دولار أمريكي في الدقيقة، بحسب تصريحات حملة  تحالف لقاح الشعوب. وتأكيدًا على مركزية الربح بالنسبة لهذه الشركات، لم تتخط إمدادات شركة فايزر للقاح للدول الفقيرة 1% من إجمالي إنتاجها، وشركة موديرنا أرسلت 0.2% فقط من إنتاجها لتلك الدول.

“التسمية والتشهير”

على الرغم من الخسائر المادية الاقتصادية والإنسانية التي تعرضت لها إيران مع انتشار الوباء، إلا أنها حاولت استغلال هذه التأثيرات تخفيف العقوبات الأميركية عليها وكذلك كسب تعاطف المجتمع الدولي خاصةً بعد أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حملة “الضغط الأقصى” على إيران. بدأ ترامب حملة “الضغط الأقصى” على إيران في مايو 2018 وذلك بعد أن أنسحب من الاتفاق النووي وأعاد فرض العقوبات الاقتصادية وكذلك القيود الدبلوماسية على إيران. وقد ساهم هذه السياسة مضافًا إليها ثلاثون عامًا سابقة من العقوبات الغربية في إرهاق القطاعات الحيوية في إيران خاصة القطاع الصحي، وهو ما جعل البلد فريسة سهلة للوباء.   

استغلت طهران أزمة كورونا وأخذت في انتقاد ومهاجمة الولايات المتحدة علنيًا مدعية بأن الضغوطات التي تمارسها واشنطن تجعل الوضع الإنساني لانتشار فيروس كورونا في البلاد أكثر سوءًا حيث أن إيران غير قادرة على استيراد الأدوات الطبية اللازمة لمواجهة الوباء. وصّرح جواد ظريف وزير الشؤون الخارجية الإيراني أن واشنطن تمارس “الإرهاب الطبي” بتلك العقوبات التي تفرضها في الوقت الحرج. 

يمكن أن تندرج هذه السياسة تحت “التسمية والتشهير” أو “Naming and Shaming” أي التشهير بالطرف الآخر أنه غير رحيم ويخترق مبادئ حقوق الإنسان، وبالتالي يضغط عليه أن ينفذ طلباته. وأخذ الممثلون الدبلوماسيون الإيرانيون في بث تلك الرسائل في مناسبات مختلفة مثل السفراء الإيرانيون في فرنسا والمملكة المتحدة الذين طالبوا برفع العقوبات حتى تستطيع إيران أن تأتي بالموارد الطبية اللازمة. بالإضافة إلى المتحدث باسم الخارجية الإيرانية خطيب زادة والذي صرح في أكتوبر 2020 أن ما تفعله أمريكا يمثل جريمة لن تُغتفر، وسبقه بعدة أيام، تصريح مشابه لسفير إيران في الأمم المتحدة تخت رافانشي.

يندرج تحت هذا اللون الدبلوماسي، انتقادات المسؤولين الأوروبيين لبيجين وموسكو باستغلال الأزمة وإطلاق حملات تضخيمية حول “حملات التبرع باللقاح، على الرغم من محدوديتها” كما جاء على لسان رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل في مارس 2021. في المقابل، أكد ميشيل على أسبقية الاتحاد الأوروبي، إلى جانب الولايات المتحدة، في قيادة العالم نحو التخلص من الوباء، مشيرًا إلى مبادرات مثل كوفاكس COVAX، والتي تتم بالشراكة مع منظمة الصحة العالمية وجهات أخرى، وتستهدف تقديم اللقاحات المضادة للتحورات المتوقعة لفيروس كورونا ل20% من سكان العالم.    

ختامًا، يمكن القول إن الوباء قد خلق مساحة جديدة لمنافسات عميقة الجذور بين قوى العالم كم عكس العديد من آليات التفاعل التي أصبح عليها النظام الدولي في العقود الأخيرة، خاصة نفوذ الشركات وتلاقيه مع سياسات الدول. لم ينته العالم بعد من أزمة فيروس كورونا؛ وهو ما يعني أنه ما زالت هناك احتمالات لوقوع تغيرات ومستجدات على الممارسات الدبلوماسية حتى تستطيع الدول التعظيم من مكاسبها خلال الجائحة بطرق شتى، تختلط فيها الخصومات الجيوستراتيجية بالسعي وراء الأرباح، واكتساب المزيد من القوة الناعمة، والمساوامات وغيرها.

عن "مركز الإنذار المبكر"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية