خلدون النبواني: الفلسفة اليوم ليست بخير

خلدون النبواني: الفلسفة اليوم ليست بخير


08/08/2019

أجرى الحوار: حاتم زكي


قال المفكر السوري خلدون النبواني إنّ الفلسفة اليوم ليست بخير، وربما وصلت إلى طريق مسدود، وهذا ليس بسبب ما بعد الحداثة، وكلّ ما اتهمت به من عدمية وعبثية وفكر تخريبي، بل لأنّ الفلسفة أنهت مرحلة، كما حصل دائماً في تاريخها الطويل، وصارت في حاجة إلى أفق جديد.
ولفت النبواني، في حوار مع "حفريات"، إلى استثمار الفلسفة من قبل السياسة وحاجاتها وبرامجها، وبدل أن تكون السياسة، فرعاً من فروع الفلسفة أو سؤالاً يناط بالفلسفة وضعُ أسسه وفضح انحرافاته، صارت الفلسفة خاضعة لأجندات السياسة.

لم أسمع بفيلسوف أيّد مثلاً الحرب الأمريكية على العراق بل انبرى معظمهم لفضحها وفضح سياسات جورج بوش الابن

والنبواني من مواليد محافظة السويداء 1975 التحق بكلية الفلسفة في جامعة دمشق ليتخرج منها في عام 1999، تابع دراسته العليا في جامعة السوربون، ونال درجة الماجستير في الفلسفة عام 2006 قبل أن ينال درجة الدكتوراة في الفلسفة المعاصرة عام 2013، منذ مطلع 2017 يشغل منصب عضو مُنتخب في معهد العلوم التشريعية والفلسفية في جامعة السوربون، باريس 1.
من مؤلفاته: "نصوص أدبفلسفية"، و "في بعض مفارقات الحداثة وما بعدها، دراسات فلسفية وفكرية".
ومن كتبه المترجمة: "في السعادة: رحلة فلسفية" 2016 و"سرّ الصبر" 2008 و"الفلسفة في زمن الإرهاب: حوارات مع يورغن هابرماس وجاك دريدا".
ويعتقد النبواني بأنّ الغرب يشعر بحالة من القلق العميق على حال الفلسفة الغربية؛ بسبب غياب الأسماء الكبرى في سماء الفلسفة، التي رحل أغلب نجومها، مثل: فوكو، وجاك دريدا، وليوتار، وغيرهم. كما أشار النبواني إلى أنّ ما بعد الحداثة في رأيه؛ هي استمرار للحداثة، وكشف لإفلاس مقولات الحداثة، كما أكّد انحسار دور المثقف المناضل بسبب غياب الفيلسوف الكبير الحقيقي.

"نصوص أدبفلسفية"
هنا نصّ الحوار:

بعد انشغال الأكاديمية العربية بمتابعة مدارس الفلسفة الغربية يبدو أنّ هناك طارئاً منع العرب من استمرار التواصل مع الغرب. هل يمكن أن تطلعنا على أبرز المدارس الفلسفية الموجودة حالياً في الغرب الآن؟
ليس هذا الشعور بالانقطاع خاص بالعالم العربيّ؛ بل إنّ الأوروبيين أنفسهم يسألون بقلق عن حال الفلسفة الغربية اليوم، وعن سبب اختفاء الأسماء الكبرى من ساحة الفلسفة، خاصة في ألمانيا وفرنسا.
هناك إحساس حقيقي بالفراغ؛ فبعد أسماء كبيرة مثل: لاكان، وفوكو، ودريدا، ودولوز، وليوتار، أو ما سمِّي ﺑ "Frensh Theory" يجد الفرنسيّون، اليوم، أنفسهم متلعثمين عند سؤالهم عن فلاسفة فرنسا الكبار حالياً؛ فلم تعد توجد عندهم أسماء كبيرة فعلياً، ولا يقتصر الأمر على فرنسا التي برزت فيها ألمع أسماء الفلسفة المعاصرة منذ النصف الثاني من القرن العشرين؛ إذ تبدو الساحة الفلسفية الألمانية شبه خالية اليوم من الأسماء العملاقة التي جعلت من ألمانيا مع كانط وهيجل ونيتشه وماركس وهوسرل وهايدجر تبدو كما لو أنّها أرض الفلسفة الوحيدة بعد الإغريق، أما وضع الفلسفة الأنجلوساكسونية، فيبدو –اليوم- وكأنّه في وضعية موت سريري حقيقي.

اقرأ أيضاً: اللغة كترياق: هل يمكن تأسيس فلسفة دين استناداً إلى اللغة؟
يمكن لنا، بالطبع، ذكر العديد من الأسماء الفلسفية الغربية الحيّة، التي تشتغل في الفلسفة، مثل: طوني نيجري، وسلافوي جيجيك، وآلان باديو، ولوك فيري، وجوديث بوتلر، وجورجيو أغامبن، وفردريك جيمسون، وغاياتري سبيفاك، ومانفرد فرانك، وبيتر سولتيردايك، وأكسل هونيث، أو حتى هابرماس، وأسماء أخرى كثيرة تشتغل في الفلسفة، أو تقوم بتدريسها، لكن دون فلسفة حقيقة، أو فيلسوف حقيقي واحد كبير.
الفيلسوف هابرماس

عدد قليل جداً من الفلاسفة
في هذا الصدد؛ أتّفق مع ما قاله أحد أكبر الفلاسفة المعاصرين الراحلين، باول ريكور، في إحدى مقابلاته: "هناك الكثير من المشتغلين بالفلسفة، وعدد قليل جداً من الفلاسفة"، بالطبع قد يعترض العديد من أهل الاختصاص على عدم وصفي لهابرماس بالفيلسوف الكبير، وهو من كرّست له مجلة "Esprit" الفرنسية عدداً خاصاً عام 2015 بوصفه "آخر الفلاسفة"، لكنّ اشتغالي على أعماله وتكريس أطروحة الماجستير والدكتوراه حوله، كلّ ذلك يسمح لي بالقول: إنّ هابرماس، وفق التصور الذي أحمله شخصياً للفلسفة ولا ألزم أحداً به، "ليس فيلسوفاً؛ إنما مفكّر سياسيّ"، وهذه كلمات الفيلسوف الألماني الكبير الراحل، هانس جورج غاردامر، في هابرماس، على أيّة حال لا يمكن سلب كلّ هذه الأسماء الكبيرة التي ذكرتها قبل قليل حقها؛ بل علينا الانحناء أمامها وأمام جهودها، فبفضلها تستمرّ الفلسفة، لكنّها مع ذلك تشهد على اختفاء الفيلسوف الكبير لصالح أساتذة الفلسفة ومؤرخي الفلسفة وصغار الفلاسفة.

ما بعد الحداثة هي مرحلة كشف حساب الحداثة وإعلان إفلاس العديد من مقولاتها والكشف عن ضرورة تجديدها أو إصلاحها

لا بدّ من القول هنا: إنّ الفلسفة قد تحيا طويلاً، وتكون معافاة، حتى دون اسم فيلسوف كبير، بفضل مدارس فلسفية هنا وهناك وحضور الفلسفة في منتديات وجمعيات خاصة؛ بل كان لمأسسة الفلسفة في الفترة الحديثة، أي تحصّنها داخل الجامعة، دور في استمرارها وتأثيرها (رغم آثارها السلبية وهو ما سنعود إليه بعد قليل).
لكن لا شكّ كذلك في أنّ تاريخ الفلسفة قد شهد فترات خبت فيها الفلسفة، وتراجع حضورها في المجتمع وبين الناس، ثم عادت وازدرهت من جديد في هذا البلد أو ذاك، على يد هذا الفيلسوف أو ذاك، ويكفي أن نلقي نظرة على فترة ما يسمى بالقرون الوسطى حتى نشهد فترات انقطاع طويلة في الفلسفة الغربية، لكنها كانت تعود كلّ مرة إلى الحياة بشكل جديد وأفكار جديدة؛ هل نعيش اليوم مرحلة سبات مؤقت، أو اختفاء مرحليّ، أو كمون للفلسفة، أم أننا نعيش نهايتها الفعلية اليوم؟ كثيرون من الفلاسفة الكبار تحدثوا عن نهاية الفلسفة: هيجل، ماركس، هايدجر، فتجنشتاين، لكن الفلسفة كذّبت كل تنبؤاتهم وبقيت حية.
الطريف في الأمر؛ أنّ جميع هؤلاء الفلاسفة الكبار كانوا ينتجون نصوصاً فلسفية أصيلة، ستؤسس لغيرها ولغيرهم في المستقبل، هكذا كان هؤلاء الفلاسفة ينفخون الروح في الفلسفة، وهم يظنون أنّهم يبكون على قبرها.
الفيلسوف باول ريكور

لم يكن هيجل آخر الفلاسفة
لم يكن هيجل آخر الفلاسفة، كما يحلو للكثير من الفلاسفة اللاحقين وصفه، كلّ ما في الأمر أنّنا انتقلنا إلى شكل جديد في التفلسف من الأنساق الفلسفية الكبيرة إلى وعي الفلسفة بوهم المطلق، من فلسفة التوحيد (من الوحدة) إلى فلسفات التفكيك، من التشابه إلى الاختلاف، وكلّ هذا لم يقضِ على الفلسفة؛ إنما فتح صفحة جديدة فيها، كما فتحت الفلسفة الحديثة مثلاً صفحة فلسفة الذات على حساب الكلية الإلهية.

اقرأ أيضاً: أصل الفلسفة اليونانية.. ابحث عن حكمة الشـرق
ورغم توفّر ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية ...إلخ، لظهور فلسفة ما، إلا أنّ علينا أن نعترف بأنّ هناك عبقريات فلسفية كانت تفتح للفلسفة باباً جديداً كلّ مرة، ومن وجهة نظري؛ نحن نعاني اليوم من مشكلة فراغ فلسفيّ فعليّ، وغياب أسماء كبيرة لفلاسفة أصلاء منذ رحيل دريدا.
هل سنشهد ظهور فيلسوف حقيقي جديد؟ هل ستكون هناك مدارس فلسفية معاصرة؟ لا بدّ هنا من رفض التنبؤ، خاصة بعد تكذيب الواقع لنبوءات الفلاسفة بموت الفلسفة، كلّ ما يمكن لي الإدلاء به هنا هو تفسير تراجع الفلسفة اليوم حدّ الاحتضار، في أوروبا خاصة، والعالم عموماً.
في التصنيفات شديدة العمومية يتم تقسيم الفلسفة المعاصرة إلى مدرستين تقاسمتا الإنتاج الفلسفي الغربي:
1- فلسفة التحليل اللغوي أو الفلسفة الإنجلوساكسونية.
2- الفينومينولوجيا أو الفلسفة القاريّة (وهو اسم أطلقه الفلاسفة الأنجلوساكسون على الإنتاج الفلسفي في كلّ من فرنسا وألمانيا).
وهنا لا بدّ من التأكيد على أنّه إن كان هناك ما يجمع شتات هذين التيارين، وما يتفرع عنهما من فلسفات معاصرة، على اختلافها، وحروبها وتناقضاتها وتشعباتها؛ هو فلسفة اللغة.
قامت فلسفة التحليل اللغوي في صيغتها المتأخرة على نظرية ألعاب الكلام عند فتجنشتاين الثاني؛ (أي في "مؤلفاته" بعد التراكتاتوس، خاصة في كتابه "بحوث فلسفية") وهوسرل في أبحاثه في فلسفة اللغة اعتماداً على أفكار أوستين في أفعال الكلام.

اقرأ أيضاً: تكفير التفكير.. الصحوة والفلسفة
ومع أنّ وضع جميع الإنتاج الفلسفي الألماني والفرنسي في سلة الفينومينولوجيا الهوسرلية قد يبدو أمراً مبالغاً فيه، إلا أنّه لا يبتعد عن الواقع إلّا في بعض الاستثناءات، ومع أنّ فلسفة اللغة كانت حاضرة بشكلٍ ما في أعمال هوسرل في نظريته في الدلالة، ومع أنّ هايدجر، الذي نحّى الفينومينولوجيا نحو الفلسفة الوجودية، قد أعطى دوراً مهماً للغة في فلسفته، إلا أنّ تفرعات الفينومينولوجيا اللاحقة هي من ستجد ضالته، كي يستمر ويتجدَّد في اللغة وأبحاثها، وما أقصده هنا البنيوية الفرنسية وما بعدها، التي اعتمدت على أبحاث دو سوور، والنظرية النقدية عند هابرماس تحديداً.
الفيلسوف هيجل

الفلسفة المعاصرة هي فلسفة اللغة بامتياز
كلّ هذه المدارس، وهؤلاء الفلاسفة، وجدوا ضالة الفلسفة المعاصرة في اللغة، فصار التفلسف يعني عندهم عودة إلى اللغة، وتأملاً فيها، ونسجاً بكلماتها ورموزها ودلالاتها، ...إلخ.
الفلسفة المعاصرة هي فلسفة اللغة بامتياز، اليوم؛ أجد أنّ الفلسفة قد استنفدت نفسها في اللغة واستنفدت اللغة فلسفياً، فتوقفت وصار لا بدّ من إيجاد أفق جديد، لنتذكر أنّ الفلسفة الماقبل سقراطية كانت قد استنفدت أسئلة أصل الوجود والبحث عن المبدأ الأول فجاء سقراط ليجددها في فتحها على الموجود؛ أي بنقلها من الـ "Sein" إلى الـ "Dasein"، لو استعرت مفردات هايدجر، ولنتذكر أيضاً أنّ الفلسفة الوسيطة كانت قد استنفدت فكرة الواحد والمطلق واليقين والوحي، وكان لا بدّ للفلسفة، كي تستمر، من أن تغير جلدها؛ بل وروحها، فكان الشكّ الديكارتي والذاتية الديكارتية هما ما أعطيا للفلسفة حياةً جديدة.

اقرأ أيضاً: معهد تونس للفلسفة.. اشتباك الفكر الحر مع هموم الناس خارج الأكاديميات
أظن أنّنا نقف اليوم على أعتاب مرحلة انتهت فيها مرحلة فلسفة اللغة، وصار لا بدّ من أفقٍ فلسفيٍّ جديد لتخرج الفلسفة من حالة الكمون أو من حالة الاحتضار، فما هو هذا الأفق؟ المستقبل هو الذي سيقول لنا ذلك، إذا كُتبت للفلسفة حياة جديدة، لكنّني أظنّ أنّ الواقع الافتراضي (لنلاحظ هذه التسمية المتناقضة) يستفز الفلسفة اليوم ويفتح، بنفس الوقت، إمكانية البحث في آفاق جديدة ولغة جديدة.
نعيش اليوم في عالم يشبه الحلم أو الكابوس، سمّه كما شئت، لكنه يشهد -وللمرة الأولى منذ أفلاطون- عودة لتداخل الواقعي بالافتراضي وتبادل للأدوار يبعث على الدوران؛ حيث إنّنا لم نعد نقف على أرض الواقع الصلبة، وإنما نسبح في الفضاء الهلاميّ الافتراضيّ، لا شيء لتمسك أو لتتمسك به فتتبخر يقينيات الفلسفات المادية، ولا يعود الوعي قادراً على التعرُّف إلى مرجعياته السابقة التي تصدعت، وكلّ هذا يخلط من جديدة، ومرة أخرى، أوراق الفلسفة، ويفتحها على التساؤل ومحاولة تنظيم وضبط عالم مبعثر.
الفيلسوف كارل ماركس

مستقبل التكنولوجيا
كان هايدجر متشائماً جداً حيال مستقبل التكنولوجيا والقدرة على ضبطه والسيطرة عليه، وعلى مستقبل الديمقراطية والفلسفة فيه، لكنّ الواقع كذّب مرات ومرات نبوءات هايدجر، ورغم الطّابع الارتجالي والميلانكولي أيضاً لكتابات بودريار حول التكنولوجيا، إلا أنّه قد يكون محاولة أولى للتنطح الفلسفي للإجابة على هذا التحدي المطروح اليوم وبقوة أمام الفلسفة.

اقرأ أيضاً: الفلسفة كوصفة طبية
في انتظار ولادة الجديد فلسفياً، قد تكون هناك محاولات فلسفية جادة، بل وأسماء قد يثبت الزمن لاحقاً جدارتها بحمل لقب فلاسفة العصر، لكنّ إثبات الحضور والحصول على الاعتراف يحتاج إلى وقت طويل، قد لا يتحقق في حياة الفيلسوف حتى في زمن الأضواء وصناعة النجوم الذي نعيشه.

الجامعة الحديثة، في رأيي، هي كنيسة غير مرئية أو كنيسة متخفيّة دون صلوات وجوقات غناء وتعميد

قد نحتاج إذاً، ربما في زمن آخر قادم، لأن تخرج بعض الأسماء والأفكار من العتمة إلى النور، إذاً قد يكشف لنا الزمن بعض الأعمال الفلسفية المهمة، التي قد لا تحظى حين صدورها باهتمام كبير، ولنتذكر مثلاً؛ أنّ كتاب كانط الأهم "نقد العقل المحض" لم يلقَ أيّ اهتمام تقريباً حين صدوره في طبعته الأولى (1781)، وأنّ كتاب "رأس المال" (1867) لماركس لم يجد صدىً في البداية، رغم اجتهاد إنجلز لتقديمه إلى الصحافة والكتابة عنه عدة مرات، مع أنّ هذا الكتاب سيغدو أحد أهم أعمال الفلسفة الحديثة، بل والحركات السياسية التي ارتبطت بالماركسية.

اقرأ أيضاً: فلسفة رايش.. كيف ومتى تخدم الوطنية المفرطة الاستبداد؟

وكما أنّ الحاجة قد صارت ملحّة إلى فلسفة، كما أزعم، لتخرج من ارتهانها لفلسفة اللغة؛ فإنّه لا بدّ لها كي تحيا، من التمرد على المركزية الغربية التي لا تمنح بطاقة فيلسوف إلا لمن انتمى إلى دوائرها الضيقة، أي هويتها البيضاء الأوروبية.
في هذا الصدد؛ فاجأني تمركز الفيلسوف الفرنسي، باول ريكور، على مركزيته الأوروبية، فالفلسفة عنده لا تكون كذلك إلا إذا انتسبت إلى الفلسفة الإغريقية وامتداتها الغربية، أو إلى التراث اليهودي المسيحي الغربي (وليس الشرقيّ)، مؤكداً أنّ "ما أُنتج في الصين والهند، ليس من الفلسفة وإنما طريقة أخرى في التفكير".

اقرأ أيضاً: السعودية الجديدة: "إيوان الفلسفة".. فضاء للتفكير الحرّ في نادي جدة الأدبي
إنّ فكّ ارتهان الفلسفة بالإنتاج الغربي الأوروبي، هو أيضاً مرهون بولادة الفلسفة من جديد وتحريرها من قفص الهوية الأوروبية وتحقيق استقلالها.
الحداثة في الفكر الغربي

 "في بعض مفارقات الحداثة وما بعدها، دراسات فلسفية وفكرية"
ما هو موقع ما بعد الحداثة في الفكر الغربي المعاصر حالياً؟ هل هناك نكوص عنها أم أننا نعيش أعلى مراحلها؟ وهل ما يزال الجدل بينها وبين الحداثة دائراً؟

مع أنّ لفظ "ما بعد الحداثة" قد تمّ استهلاكه؛ حيث صار يعني أيّ شيء وكلّ شيء، وأشياء متناقضة في الوقت نفسه، إلا أنّ المعنى الذي أتبناه لما بعد الحداثة هو استمرار فعلي وحقيقي لفلسفة الحداثة، بهذا المعنى ليس الما بعد "post" هنا تجاوزاً، وإنما (in) ، (within)، أو (inside)، ولكنّه ذهاب إلى التخوم والخواتيم.

اقرأ أيضاً: لماذا يهاب العرب والمسلمون الفلسفة؟
ما بعد الحداثة بهذا المعنى جزء لا يتجزأ من الحداثة، وحلقة أخيرة ربما من حلقاتها لكن ليس شيئاً خارجها، هي مرحلة كشف حساب الحداثة وإعلان إفلاس العديد من مقولاتها والكشف عن ضرورة تجديدها أو إصلاحها أو حتى التخلي عنها وتجاوزها.
في محاولتي للإجابة عن السؤال الأول أوضحت، والواقع يقول ذلك بأنّ الفلسفة اليوم ليست بخير وربما وصلت إلى طريق مسدود، وهذا ليس بسبب ما بعد الحداثة، وكلّ ما اتهمت به من عدمية وعبثية وفكر تخريبي ...إلخ، كلّ ما في الأمر أنّ الفلسفة أنهت مرحلة، كما حصل دائماً في تاريخها الطويل، وصارت في حاجة إلى أفق جديد.

اقرأ أيضاً: الفلسفة الإسلامية: مشروع النسيان والنبذ
ما بعد الحداثة عبَّر بهذا المعنى عن هذا المأزق؛ كتاب هوركهايمر وأدورنو "جدل التنوير"؛ الذي وصفه هابرماس بانحراف نيتشويّ عند أستاذيه، ليس إلا كشفاً مهماً لانحرافات العقل ولانتهاء التنوير إلى الأسطورة التي ظنت الأنوار أنها تخلصت منها، وبعد اطلاعي على الكثير من الكتابات التي وُصِفَت سريعاً، ودون تفكّر وقراءة، بأنّها أعمال ما بعد حداثية خطيرة ومدمرة وهدّامة، أجد أنّ الفلسفات لا تخلو من صراع من قِبَلِ البعض، قائم على التشويه والشيطنة، ومحمول على أيديولوجيات وسوء فهم غالباً.
لن تجد عند دريدا مثلاً، الموصوف بعراب ما بعد الحداثة، أيّ تصريح بالانتماء إليها، ولا حتى تفكيك للعقل للخلاص منه، كما يشاع، وإنما نقد للعقل والتنوير لتبينان حدودهما وقصورهما ولفتحهما على ما أقصياه، ...إلخ.
لا شكّ في أنّ جدل الحداثة وما بعدها هو أمر لم تعد له أصداء اليوم تقريباً في أوروبا، وهي حملة شنها بعض الفلاسفة الألمان في الثمانينيات من القرن الماضي، من جانب واحد تقريباً، على الفكر الفرنسي الذي تأثر بفلسفَتَي نيتشه وهايدجر.
"نقد السُّلطة"
هكذا تتالت الكتابات والنصوص المنتقدة للفلاسفة الفرنسيين، فكتب مانفريد فرانك كتابه "ما هي البنيوية الجديدة؟" (1983)، وكتب أكسل هونيث "نقد السُّلطة" (1985)، وكتب ألبرت فالمر "جدل الحديث وما بعد الحديث" (1985)، وكتب هابرماس "الخطاب الفلسفي للحداثة" (1985). طبعاً لا بدّ هنا من التمييز بين هذه الأعمال؛ فكتاب فرانك (وهو مجموعة دروس جمعها في كتاب وترجم منها 20 درساً إلى الفرنسية)؛ هو كتاب موضوعيّ جداً، ولعله أفضل أحد أهم النصوص التي قرأتها حول ما بعد البنيوية، ولا يخفي هونيث إعجابه بفوكو، رغم نقده له في كتابه "نقد السلطة"، كما لم يخفِ فرانك إعجابه بأعمال دريدا الأولى.

اقرأ أيضاً: كيف يمكن فهم الدين وتطبيقه في نظام سياسي قائم على فلسفة الحرية؟
ولا يبتعد كتاب فالمر عن روح الفلسفة الفرنسية من خلال التأكيد على دور الفنّ والأدب، لكن وحده كتاب "الخطاب الفلسفي للحداثة" لهابرماس كان سجالياً وحادّ اللهجة تجاه الفلاسفة الفرنسيين، خاصة وفوكو ودريدا، هذا الكتاب السجاليّ لهابرماس هو ما وصلت أصداؤه إلينا بشكل أساسيّ، نحن العرب، فرحنا نتحدث عن معركة كبرى بين هابرماس المدافع عن الحداثة ضدّ مدمري الفلسفة من الفلاسفة الفرنسيين.
طبعاً لم يكن هناك ردّ مباشر من قبل الفلاسفة الفرنسيين على انتقادات هابرماس؛ ففوكو مات قبل صدور هذا الكتاب، ولعلّ محاضرته "ما التنوير؟" كانت رداً بشكل غير مباشر على انتقادات كان هابرماس قد وجهها له في محاضرة "الحداثة مشروع لم يكتمل"، بينما ردّ دريدا بعد عدة أعوام، في أربع مناسبات، وبشكل هامشي (في المرات الأربع جاءت ردوده السريعة على هابرماس في الهوامش والتعليقات لا في المتن) متهماً هابرماس بعدم قراءته، خاصة أنّه كرّس فصلين كاملين عنه في كتابه ذاك، دون الاستشهاد بنصوصه ولو لمرة واحدة في الفصل الثاني، وهو أمر سيقر به هابرماس لاحقاً، اليوم يبدو أنّ الغرب قد طوى هذا الملف الذي لم يعد له لا وهجٌ ولا صدى يذكر.

في رأيك؛ أين ذهب الفيلسوف المناضل والمتمرد، على شاكلة برتراند راسل وسارتر وغيرهما، رغم التحديات والأزمات الخطيرة التي نواجهها في عالمنا اليوم؟
يتعلق الأمر، في رأيي، بغياب الفيلسوف الكبير الذي يمكن أن يملأ الفراغ الناتج عن غياب الفيلسوف الكبير بقامة راسل أو سارتر، فالكثير من فلاسفة اليوم يهتمون بالشأن الإنساني ويدافعون عنه، وقد ذكرت العديد من أسماء فلاسفة اليسار الذين ينتصرون لقضايا الناس المهمشين والفقراء ويدافعون عن المساواة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، لكنّ قاماتهم الفلسفية قصيرة درجة أننا لا نراهم.
الفيلسوف والجامعة

الفيلسوف كانط
ولماذا انحسر دور الفيلسوف داخل أسوار الجامعة في رأيك؟

لنتذكر أنّ الفيلسوف/الأستاذ الجامعي هو تقليد وجد في القرن الثامن عشر، ومع كانط تحديداً، أما قبل ذلك، لم تكن هناك علاقة وديّة دائماً بين الفلسفة ومؤسسات التعليم.
لا شكّ في أنّ فيثاغورس وأفلاطون قد افتتحا أكاديميتين حملتا اسميهما، لكنّ سقراط كان يرفض تقييد الفلسفة ضمن أسوار، أو أن يكون لتعليمها مقابل أو أجر؛ فقد كان يراها رسالة سماوية، على خلاف السفسطائيين الذين احترفوا التفلسف (وليس السفسطة) كمهنة.

اقرأ أيضاً: ما سر عداء رجال الدين للفلسفة والمنطق؟
ربط الفلسفة بالمؤسسة التعليمية كان حاضراً بقوة عند أرسطو، الذي خاب أمله بأفلاطون حين عزف هذا الأخير عن تسليمه إدارة أكاديميته، تاركاً إياها لابن أخته "سبيوسيبوس" (Speusippus)، فنجح بعد محاولتَيْن سابقتَيْن في تأسيس مدرسته "Lúkeion"، بعد ذلك لن تحضر الفلسفة في مدارس وبين أسوار، إلا نادراً، ولنتذكر مثلاً؛ أنّه حتى القرن السابع عشر، كانت الفلسفة متحررة من عبء المؤسسة التدريسية، فلم يكن ديكارت ولا ليبنتز ولا سبينوزا أساتذة فلسفة، وإنما فلاسفة أحرار.
أما بالنسبة إلى شخص مثل كانط التأمليّ، شديد الانضباط والانتظام، الامتثالي (conformiste)، صاحب البنية الجسدية الهزيلة؛ فقد وجد -على ما يبدو- أنّ التدريس هو المهنة التي يمكن أن توفر له كسب عيشه، وتوفر له أقل الإكراهات لهذا النمط من الحياة الهادئة الدقيقة الوحدانية، منذ كانط إذاً؛ صار الفيلسوف/ الأستاذ الجامعي تقليداً مكّن الفلاسفة من العمل في اختصاصهم، لكنّه سجنهم في إطار المؤسسات.
ومع ذلك؛ فالحصول على وظيفة تدريس جامعية لم يكن سهلاً دائماً على الفلاسفة، فعلى سبيل المثال، وعلى خلاف شيلينغ الذي تمّ تعيينه في الجامعة بعد تخرجه مباشرةً تقريباً؛ بقي هيجل يحاول جاهداً الحصول على منصب جامعي يطعمه خبزاً، وظل يدرّس دون راتب تقريباً، إلى أن نجح وهو في السادسة والأربعين من الحصول على منصب جامعي حقيقيّ.

اقرأ أيضاً: ماذا يعني تدريس الفلسفة بالسعودية؟
وقد دخل نيتشه حقل التدريس الجامعي من باب الفيلولوجيا، لا الفلسفة، وكذلك كان حال بودريار الذي دخل الجامعة كعالم اجتماع مختص بالجرمانيات، وتظل حالة بودريار أفضل من غيرها من حالات عانى منها فلاسفة فرنسا الكبار، الذين طالما اصطدموا بمدرّسي الفلسفة الموظفين في الجامعات، والذين، بحكم الغيرة غالباً، يضعون كلّ العراقيل أمام دخول الفلاسفة إلى الجامعة؛ لم يكن بيرغسون أستاذاً جامعياً، وإنما أستاذاً في الثانويات، ولم يتمكن كلّ من ألتوسير ودريدا وبورديو وليفيناس من الحصول على منصب أستاذ جامعيّ، وإنما مساعدين في دار المعلمين العليا، أو مدرسين في بعض المؤسسات التعليمية الفرنسية الثانوية.

اقرأ أيضاً: هل كان العرب عالة على الفلسفة اليونانية؟
لم ترث الجامعات الحديثة في أوروبا عن الكنيسة احتكار سلطة الحقيقة فقط، وإنّما كلّ إكراهات الانضباط وطقوس الولاء والالتزام بالتعاليم؛ فرغم كلّ ما يمكن أن يقال عن انفتاح مؤسسات التعليم الحديث إلا أنّ الجامعة الحديثة، برأيي، هي كنيسة غير مرئية أو كنيسة متخفيّة، من دون صلوات وجوقات غناء وتعميد، محتفظة مع ذلك بالإله مصلوباً على جدرانها كتلميذ أبديّ محكوم عليه أن يتعلم الحقيقة ممن أستأثروا بها.  
طبعاً، مثل هذه المأسسة قد عقلنت التعليم والعلوم والمعارف، بما في ذلك الفلسفة، لكنّها حبستها في قوالب ومعايير حدّت من قدرتها، لحاجتها للمؤسسة، في التمرد على نظام المؤسسة نفسه.
كتاب "جدل التنوير"؛ لكل من هوركهايمر وأدورنو

جدل التنوير
في كتابهما "جدل التنوير"؛ يشير كل مو هوركهايمر وأدورنو، وبرؤية حاذقة، إلى أنّه توجب على أوليس أن يقيد نفسه حينما كان عليه أن يمر من أمام جزيرة السيرينيات، كي لا يستجيب لندائهن، الذي لا يمكن مقاومته، نجا أوليس بنفسه، لكنه اضطر إلى تقييد نفسه ليمرّ.

اقرأ أيضاً: أشهر 6 نساء مؤثرات في تاريخ الفلسفة
المؤسسات التعليمية هنا هي الطريق الذي لا يمكن اجتيازه دون قيود؛ لهذا لم يستطع العديد من الفلاسفة النزقين الصبر طويلاً على معايير التدريس الجامعيّ، فوجه شوبنهور ونيتشه نقداً كبيراً لعملية اغتيال الفلسفة في الجامعات، بينما سينتفض باول فايرباند على مناهج تدريس الفلسفة والعلوم والدوغمائية الأكاديمية المسيطرة، وسيطالب دريدا بجامعة بلا شروط.
لا شك في أنّ العصر الذي عاشته الجامعات الحديثة التي ورثت سلطة الحقيقة عن الكنيسة؛ هو عصر العقلانية العلمية بعلومها الدقيقة التي أثبتت فاعليتها في الاستثمار والتوظيف العمليّ، مما جعل الفلسفة، إضافة إلى إكراهات العمل المؤسساتي، تشعر بالنقص أمام دقة هذه العلوم ونجاحها وتحالفها مع رأس المال، ومع أنّ كلاً من دول أوروبا تحتفظ بالفلسفة في نظامها الجامعي، إلا أنّ نفعية العصر راحت تضغط على الفلسفة بأن تكون نافعة ومفيدة وعملية وبراغماتية، هكذا راح الحديث يدور عن ربط الجامعات بسوق العمل، ولا شكّ في أنّ الفلسفة هي الحلقة الأضعف في هذا المضمار، فما هي مردودية الفلسفة على عالم السوق والبيع والشراء؟ في العالم الأنجلو ساكسوني، يتم العمل على فرض الجوانب العملية البراغماتية ذات النتائج القريبة على الفلسفة، فرحنا نشهد طغياناً لكلمة تطبيق على فروع مثل الأخلاق التطبيقية والمنطق التطبيقي، ...إلخ؛ هكذا تمّ مسخ الفلسفة نهائياً، والقضاء على جانب السلب فيها، وتحديد نظرها بمناظير المناهج العلمية/العملية التي يضيق حقل رؤيتها كثيراً.

اقرأ أيضاً: السؤال الأخلاقي في فلسفة طه عبد الرحمن: من النظر إلى العمل
تمّ كذلك استثمار الفلسفة من قبل السياسة وحاجاتها وبرامجها، وبدل أن تكون السياسة، فرعاً من فروع الفلسفة أو سؤالاً يناط بالفلسفة وضع أسسه وفضح انحرافاته، صارت الفلسفة خاضعة لأجندات السياسة التي لا تدخل فقط عبر ما يسمى بسياسات وأنظمة التعليم، جعلت مدرّسي الفلسفة مجرد موظفين، لا قدرة لهم، رغم كلّ الحريات المتاحة، على مواجهة المؤسسة التي تحولت إلى بنية كاسحة لا يمكن اختراقها فردياً، هكذا تمّ تقليم أظافر الفلسفة وترويضها وجعلها في خدمة النسق والنظام والسلطة.
تدريس الفلسفة هو الحلقة الأضعف
من ناحية أخرى، وبوصفها مؤسسات حكومية على الأغلب؛ فإنّ الجامعات ومؤسسات التعليم، تُوضع لها ميزانيات مالية متواضعة؛ حيث يتم تقليصها كلّما تأزّم الوضع الاقتصادي، وبما أنّ هذا الأخير راح يشهد أزمات متكررة؛ فقد راح التضييق يطال الفروع غير المنتجة مادياً أو بشكل مباشر، ولا شكّ في أنّ تدريس الفلسفة هو الحلقة الأضعف هنا.

اقرأ أيضاً: هل ما زلنا في حاجة إلى الفلسفة؟
حتى في بلد يجعل من تدريس الفلسفة العنوان الأبرز لنظامه التعليمي، مثل فرنسا؛ التي عمّمت منذ القرن التاسع عشر تدريس الفلسفة في المدارس الثانوية وفي الجامعات، ويتصدر امتحان الفلسفة بقية المواد في الفروع الثانويات الأدبية، ورغم احتفاظ السوربون بسمعة الماضي التعليميّ العريق (رغم تراجعها المضطر في سلم تقييم الجامعات)، إلا أنّ الفلسفة اليوم في فرنسا تجد نفسها ضعيفة ومغتربة عما عرفته في زمن ديكارت والأنوار وما بعد البنيوية.
تجد الفلسفة الفرنسية نفسها اليوم، مع غياب فلاسفتها الكبار، دون هوية وعلى مفترق عدة علوم إنسانية، مضطرة لأن تلحق بهم، مجازفةً بذلك بمزيد من التشتت والضياع.
هكذا، لو ألقينا نظرة على محاور تدريس الفلسفة الجامعية اليوم في فرنسا لوجدناها تتركز في أربعة "تخصصات":

1- تاريخ الفلسفة.
2- الفينومينولوجيا.
3- الفلسفة التحليلية.
4- الفلسفة متعددة الاختصاصات، أو (pluridisciplinarité).
هكذا، في غياب فيلسوف عملاق كدولوز أو دريدا يتجمع أساتذة الفلسفة في حلقات وتخصصات محاولين تكوين جسم فلسفيّ، لكنه مجزء ومقسم، وعلى حساب قوة الفلسفة وسلطتها.
دراسة الفلسفة، للأسف، هي باب مفتوح على البطالة، وهذا الأمر راح يطال اليوم، دون استثناء تقريباً، نتيجة تأزم المجتمع وعدم قدرة الجامعة على تلبية متطلبات السوق بتكلفة رخيصة، كلّ الفروع العلمية تقريباً، بما في ذلك العلوم الدقيقة والمهن التي كانت مطلوبة قبل فترة.

اقرأ أيضاً: لماذا علينا تدريس الفلسفة؟
لكلّ ذلك؛ يُصبح ملحاً اليوم، ليس فقط إصلاح نظام التدريس الجامعي، فهو مع قدوم التكنولوجيا وعزوف السوق عن الكفاءات الجامعية، راح يترنح، وإنما بشكل أساسيّ فصل الفلسفة عن الجامعة، لإعادة الحياة إليها، وعتقها من أنظمة تدريس كبّلتها بدل أن تطوّرها.
لا بدّ بمعنى ما من العودة إلى الخيار السبينوزي، فسبينوزا مثلاً استطاع الفصل بين التفلسف والمهنة، رافضاً كرسي الفلسفة الذي عُرض عليه في جامعة هايدلبيرغ، مفضلاً على التديس المؤسساتي المقيد لحرية التفكير مهنة أخرى؛ هي صقل العدسات لتحسين الرؤية، هكذا أضع تصوري الثالث لإخراج الفلسفة من أزمتها من خلال:
1- ضرورة تجاوزها لفلسفة اللغة.
2- تحريرها من المركزية الأوروبية.
3-  فكّ ارتباطها بالجامعة وارتهانها لها.
مشكلات الإرهاب واللاجئين

تشهد أوروبا اليوم صعوداً للشعبوية السياسية ولليمين المتطرف
كيف تعاطت
الفلسفة الغربية مع ما تشهده القارة الأوروبية من مشكلات، مثل: الإرهاب، مشكلة اللاجئين، صعود تيارات يمينية متطرفة؟

تشهد أوروبا اليوم صعوداً للشعبوية السياسية ولليمين المتطرف وعودة للفاشيات القديمة بثياب جديدة؛ هناك تصاعد شعبي في معاداة الأجنبي، وكراهية الآخر، والعنصرية، والتمييز، ...إلخ، بما يذكرنا بأوروبا في بدايات القرن العشرين.
لا شكّ في أنّ مثل هذه السياسات تولِّد العنف الاجتماعي والإرهاب والتفكّك الاجتماعي، واستفحال التمييز ضدّ الأجانب، القائم على قدم وساق الآن، وهنا في أوروبا اليوم، يدرك معظم الفلاسفة الغربيين خطورة هذا الانحدار وهذه الردة، وعودة أشباح الفاشيات، ويحذرون منها؛ فعندما وقعت أحداث 11 سبتمبر، على سبيل المثال، لم يتوانِ الفلاسفة عن تحميل جزء من المسؤولية للسياسات الغربية في تعاملها مع العالم العربي والإسلامي، القائم على الرفض والإنكار والاحتقار والتهميش والاستغلال الاقتصادي، ...إلخ.

اقرأ أيضاً: الفلسفة طريق جامعة القاهرة لتحصين طلابها فكريا
هابرماس، دريدا، تشومسكي، ليوتار، رورتي، وأسماء كثيرة أخرى، رفعوا أصواتهم وطالبوا بتغيير السياسات الغربية في تعاملها مع الآخر.
لم أسمع بفيلسوف أيّد مثلاً الحرب الأمريكية على العراق، بل انبرى معظمهم لفضحها وفضح سياسات جورج بوش الابن، دافع هابرماس بشدة عن حقّ اللجوء واللاجئين، وصادق على سياسات الحكومة الألمانية في فتح باب اللجوء على مصراعيه، وحثّ الحكومة على المضي بهذا الطريق، وكان دريدا قد ناصر حقّ أصحاب المهاجرين غير الشرعيين في الحصول على إقامات نظامية، وطالب الدولة بالاعتراف بهم، ومساعدتهم، وتتركز جهود أكسل هونيث في الدعوة إلى الحقّ بالاعتراف ومقاومة سياسات التمييز والتهميش والتمايز والإقصاء الاجتماعي، في حين تدافع جوديث بوتلر عن حقوق المرأة، وعن حقّ اللجوء، ولا تألو جهداً لمساعدة الباحثين القادمين من بلاد الصراع والعنف، والأمثلة على مواقف الفلاسفة النبيلة، اليوم، تكاد لا تُحصى، الفلاسفة بهذا المعنى هم صوت الحقيقة المقموعة، وخطّ الدفاع الأخير عمّا يمكن أن يدافع عنه من قيم إنسانية.

الصفحة الرئيسية