خرافة الحب العذري!

خرافة الحب العذري!

خرافة الحب العذري!


15/05/2019

رغم الانقلابات المتوالية، في منظومات القيم والمشاعر والصور النمطية على امتداد قارات العالم، ورغم التسارعات الشديدة على صعيد تطور وسائل الاتصال والتواصل بأنواعها، إلا أنّ أسطورة الحب العذري أو الحب الأفلاطوني أو الحب المبرّأ من الغرائز والرغبات والنزعات، ما زالت تستأثر بقلوب وعقول الملايين من البشر، بدءًا من نيويورك مرورًا بنيودلهي وليس انتهاء بالقاهرة. وليس أدل على استبداد هذه الأسطورة بوجدان الجماهير، من تلك التحف السينمائية التي ما انفكت هوليوود تنتجها وتمطر بها دور العرض في العالم، فتدر عليها مئات الملايين من الدولارات المضمّخة بدموع المشاهدين وآهاتهم وتنهداتهم!

أسطورة الحب العذري ما زالت تستأثر بقلوب وعقول الملايين من البشر، بدءًا من نيويورك مرورًا بنيودلهي وليس انتهاء بالقاهرة

هذه مقدمة ضرورية لتذكير القرّاء الأعزّاء، بأنّ الهوس بالحب العذري ليس مقتصرًا على العرب أو على الثقافة العربية التي ما زالت مأخوذة بهذا الضرب من الحب المستحيل، سواء في مكتوبها أم في مغناها أم في أفلامها أم في مسلسلاتها، رغم كل علامات الاستفهام التي تحيط بمصداقية الحب العذري عند العرب، تاريخيًا وموضوعيًا؛ إذ يمكننا من حيث المبدأ أن نتفهم اتجاه شباب وشعراء البوادي العربية الفقيرة في العصر الأموي، إلى إظهار التماوت في الحب والتغني بحبيباتهم الاستثنائيات، كرد فعل متوقع على اتجاه شباب وشعراء الحواضر العربية المترفة، التي أغرقها الأمويون بالأموال والجواري والمغنّين، لصرفها عن الانشغال بالسياسة، فأطلعت لنا نفرًا من الشعراء الحسّيين مثل؛ عمر بن أبي ربيعة والأحوص والعرجي.

اقرأ أيضاً: الحبّ في التاريخ الإسلامي شاهد ضد التشدد والكراهية
لكن ما يصعب أن يصمد للقبول، الزعم بأنّ قبيلة بأكملها مثل قبيلة (عذرة) قد تفرغت للموت حبًا، إلى درجة مطالبتنا بتصديق قول من قال بأنه خلّف ثلاثين شابًا من شباب هذه القبيلة وقد أجهز عليهم العشق! كما يصعب أن يصمد للتسليم أيضًا الزعم بأن من اشتهروا بالحب المستحيل مثل كُثَيّر عزّة قد ظلوا يمتلكون الوتيرة نفسها من الشغف بعد أن تزوجوا وأنجبوا وانشغلوا بتكاليف الحياة، وخاصة بعد أن قطع ابن سلام الجمحي بأن كُثَيِّرًا كان يتقوّل ولم يكن عاشقًا ولا صادق الصبابة! والأنكى من ذلك مطالبتنا بتصديق وجود عشّاق ظلّل الوهم حيواتهم حتى غلب الحقيقة، إلى درجة أن شيخ شيوخ العربية الأصمعي يقطع قطعًا لا لبس فيه أيضًا بأن عاشقًا مثل مجنون بني عامر لم يوجد على أرض الواقع وأنه محض نسج من خيال!

اقرأ أيضاً: الحداثة والحب: كيف تغيرت الهندسة الاجتماعية؟
وإذا نظرنا بعين الاعتبار، إلى حقيقة واقعية المشاعر والشخوص والأماكن والحوارات والتفاصيل في قصائد الشعراء الحسيين، حد اعتبارها وثائق تاريخية واجتماعية واقتصادية وثقافية تصلح لدراسة المجتمع العربي الإسلامي في صدر الإسلام والعصر الأموي، وإذا نظرنا أيضًا بعين الاعتبار إلى حقيقة تعالي وغموض المشاعر والشخوص والأماكن والحوارات والتفاصيل في قصائد الشعراء العذريين، حد اختلاط نسبتها واضطرارنا إلى التساؤل عن مدى استواء الحالة الذهنية والنفسية لهؤلاء العشاق الذين لا يتوهجون إلا بالصدود والمنع والهجر – وكأن الوصل يخيفهم ويبعدهم ويفقدهم مبرّر معاناتهم-، صار بمقدورنا تخيل الدور الإيهامي والتضخيمي الذي اضطلع به الرواة والقصاصون، لإشباع مخيلة الجمهور وإرواء تعطّشه لسماع قصص الحب المستحيل الذي ما لبث أن شغل مئات الصفحات من كتب الأخبار لاحقًا، مثل الأغاني للأصفهاني والفرج بعد الشدّة للتنوخي.

المجتمع العربي الإسلامي لم يخلُ من الحب العذري ولكنه لم يصل إلى الحدود الخارقة التي أوهمنا بها القصاصون

ما تقدم لا يعني أنّ المجتمع العربي الإسلامي قد خلا من الحب العذري، ولكنه يعني أن هذا الحب، كمًّا ونوعًا، لم يصل الحدود الخارقة التي لم يدخر القصاصون وسعًا لإيهامنا بها، فمن يمكنه أن يتنكّر مثلاً لقصة الصمّة القشيري الذي أحب (ريّا) ولم يتمكن من الزواج بها، فالتحق بالثغور وظل يلهج بذكرها حتى استشهد، وأورثنا رائعته الخالدة:
بروحي تلك الأرض ما أطيب الربى
وما أجمل المصطاف والمتربعا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني
  على كبدي من خشية أن تصدّعا

ومن يمكنه أيضًا، أن يتنكّر لحقيقة أنّ الإسلام قد أسهم إلى حد بعيد، في صقل عاطفة الحب عند العرب؟ حتى تصدّى لمعاينتها وتحليلها وفلسفتها نفر من الفقهاء والفلاسفة مثل ابن داود في (الزّهرة) وابن حزم في (طوق الحمامة). ومن يمكنه أن يتنكر كذلك لحقيقة أن (ليلى) التي صار كل العشّاق وكل الشعراء يدّعون وصلاً بها – وهي لا تقرّ لهم بذاكا- قد أصبحت أيقونة الصوفيين لاحقًا، بل صارت عتبة الولوج إلى الفناء في الذات الإلهية. ومن المؤكد أنّ الحب الحقيقي يقع في الوسط الذهبي الذي فُتن به الفقهاء والفلاسفة والنقاد العرب والمسلمون، وأعني بهذا الوسط ذلك الحد الماثل بين حسِّيّة عمر بن أبي ربيعة وتفريطه وعذريّة كُثيّر وإفراطه، لأنه مزيج من العواطف والمشاعر والحاجات والرغبات التي يحدّها الواقع ويحكمها العقل الجمعي.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية