خالد خليفة.. اهتم بأسئلة "الإنسان" وعَشِقَ "الحياة" ثم رحل عن مائدتها

خالد خليفة.. اهتم بأسئلة "الإنسان" وعَشِقَ "الحياة" ثم رحل عن مائدتها

خالد خليفة.. اهتم بأسئلة "الإنسان" وعَشِقَ "الحياة" ثم رحل عن مائدتها


02/10/2023

نضال بشارة

لم أكن أتوقع أن الروائي والسيناريست خالد خليفة الذي أضحكني بافتتاحيته الماهرة في آخر مقال نشر له منذ أيام قليلة في مجلة " المجلة" بعنوان: (حمص مدينة الضحك التي صارت أطلالاً وخرائب).

إذ مضى يقول: "دُهشت، حين رأيت للمرة الأولى في حياتي عائلة حمصية كاملة، كانوا عائلة خال صديقي في المدرسة الإعدادية الذي سألنا: هل تريدون رؤية الحماصنة؟ ذهبنا لرؤية عائلة حمصية كاملة في حلب، كانوا أربعة: أب مهندس في مصفاة حمص، وأم مدرّسة رياضيات، وفتى من جيلنا وفتاة مراهقة تكبرنا بسنتين، كانوا يبتسمون بلطف رأيته مبالغا فيه...". لم أكن أتوقع بعد أن أضحكني على اعتبار أنني ابن حمص أن يبكيني على رحيله المفجع والمبكر، كما أبكاني أيضاً في سياق مقالته! وكنت قد قمعت نفسي عن كتابة ملاحظة حول المقال خشية أن يزعل مني رغم إعجابي بها، وأنا الذي لم ألتق به منذ فترة بعيدة.

عشق الحياة

لم يكن الراحل خالد خليفة المقيم في حلب قبل نهاية القرن المنصرم، يملك صورة شخصية يرسلها لي لنشرها مع الاستطلاع الذي أعددته لإحدى المجلات السورية، عن الكتاب الأول لمجوعة من الأدباء بأجناس أدبية مختلفة، فلم يكن قد أصدر سوى روايته " حارس الخديعة"، ونشرتُ الاستطلاع منصاعاً لرغبته من دون صورته، ومن دون أن يكون جاهلاً لأصول العمل الصحفي فهو أحد الذين أسسوا عام 1990 مجلة "ألف" بدعوة من الأديب سحبان السواح، وكان معهم شقيقه وائل السواح، ولقمان ديركي، وأسامة إسبر، والشاعر الراحل محمود السيد كرئيس تحرير، وآخرين.

لكن ومع نشره روايته الثانية "دفاتر القرباط" وعرض له بالتوازي معها مسلسله الأول "سيرة آل الجلالي" من إخراج المتألق هيثم حقي، حتى باتت صوره تزين الكثير من الصحف والمجلات، كان ذلك عام 2000.. استعادتي لما سبق فرضها تنوع الصور التي انتشرت بنار المحبة على وسائل التواصل الاجتماعي عقب معرفة كل محبيه بخبر رحيله الصادم عن عمر يناهز 59 عاماً، مستنكرين الخبر وغير مصدقين له.. لكن الموت كعادته، لم يكترث بعشق خالد للحياة وبانغماسه بكل تفاصليها وجوارحها، وبإيمانه بأنها مثل حديقة، فيها نباتات ضارة وأشواك، إلى جانب ورود جميلة وأشجار وارفة محبة.

دراما متقنة

أدرك الراحل خليفة مبكراً أهمية الدراما التلفزيونية فمنحها الكثير من وقته فرفد الدراما السورية بأعمال تؤكد أن الأعمال التي يكتبها أدباء قاصون أو روائيون، هي الأكثر عمقاً وإتقاناً من جهة البناء الدرامي ورسم الشخصيات والأحداث، وهي الفن الأقدر على إيصال الخطاب الفكري للكاتب لأوسع شريحة من الجمهور، فمضى يكتب فيها منجزاً أكثر من خمسة أعمال، فكان عمله الثاني بعنوان " قوس قزح" عام 2001، وأخرجه أيضاً المخرج القدير هيثم حقي الذي أسس دعائم الدراما السورية مع انطلاقة الفضائيات.

وقد قارب خليفة في هذا المسلسل فكرة القيم الإنسانية وعرض العناصر الضرورية لتكوين أسرة مثالية، يعتمد أساسها لتنتج مجتمعاً مثالياً على: الحب، الذات، الطموح، التفاهم، الحرية، الاعتماد على النفس والنزاهة وحب الفن والعلم.. ثم تتالت أعماله الدرامية أفلاماً روائية قصيرة وطويلة، ومسلسلات تلفزيونية وهي الأكثر حضوراً ومتابعة، فكان مسلسل " الوردة الأخيرة" إخراج محمد فردوس أتاسي، عام 2006، الذي كسر به خليفة، بقدر لا بأس به النمطية التي عُرفت بها المسلسلات والتي تناولت حقبة الاحتلال الفرنسي لسوريا، فضلاً عن مقاربته المعاناة من سطوة الاستعمار الغربي وادعاءاته المزيفة في أنه يحتل أي بلد لأنه يرغب في تطويره حضارياً.. وفي ضوء ذلك نستطيع أن نفهم دوافع خليفة بكتابة مسلسل تناول فيه الاحتلال الأمريكي للعراق حمل عنوان "هدوء نسبي"، أخرجه الراحل شاباً أيضاً التونسي شوقي الماجري، وذلك عام 2009 الذي عرض فيه لمجموعة من الإعلاميين من دول مختلفة سافروا إلى العراق قبيل الاحتلال الأمريكي بعشرة أيام، ما اضطرهم إلى البقاء فيه شهراً كاملاً بعد الغزو الأمريكي حتى استطاعوا العودة لبلادهم، ليسردوا فيما بعد تفاصيل حكاياتهم.

تحولات كبرى

وبين الوردة الأخيرة وهدوء نسبي كتب خليفة مسلسل "ظل امرأة" عام 2007 إخراج نذير عواد، تناول فيه مصير رجل يصاب بكف البصر ثم يخسر زوجته من جراء ذلك، فالعمل حالة إنسانية خاصة يمكن تعميمها على مطلق إنسان قد يصاب بإعاقة ما.. وفي العام ذاته أنجز خليفة مسلسلاً آخر هو "زمن الخوف" الذي شاهدنا فيه شخصية الشاعر رياض صالح الحسين الذي توفي شاباً، رصد العمل بجرأة نقدية حالة الأحزاب والتحولات السلبية الكبرى التي شهدتها البلاد العربية بدءاً من العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982 وصولاً إلى غزو النظام العراقي للكويت، ثم نشوب حرب الخليج الثانية.. ثم كُلِف الراحل خالد خليفة بكتابة الجزء الثاني من مسلسل العرّاب الذي كتبه رافي وهبي عن الرواية الشهيرة لماريو بوزو، عرض عام 2016 وأخرجهما المأسوف على شبابه أيضاً حاتم علي.. ولعل أهم مسلسل كتبه خالد خليفة في نظرنا هو "المفتاح" الذي كان أيضاً من أهم ما أخرجه الراحل هشام شربتجي، وقد سبق أن أشرنا في مقالة منذ سنوات أنه اقتبس الفكرة من فيلم مصري بعنوان "العرضحالجي في قضية نصب"، لكن خليفة بحكم دراسته للحقوق جاء مسلسله أكثر قيمة وعمقاً بما قاربه فيه، إذ تناول فيه تأثيرات الفساد الذي نخر عظام المجتمع السوري بطبقاته كافة، فانتقد أحد كبار المتنفّذين وسطوته الاقتصادية والاجتماعية، وتجليات ذلك على بقية جوانب الحياة، خاصة بعض رجال القانون وكيفية تجاوزهم له.

جوائز وترجمات

وفي غمرة نجاحات خليفة في الدراما التلفزيونية لم ينشغل عن عشقه للكتابة الروائية فإن كان قد تجاوز في روايته الثانية "دفاتر القرباط" لغته الشعرية التي نسج بها روايته الأولى، والتي لم تصنع ذلك العالم السردي المأمول منه لقارئ الرواية بكل شخصياتها وأحداثها، ولم تحقق له ما حققته روايته الثانية من حضور لافت، التي هي بدورها التفتت لحيوات "القرباط" أو النّوَر، وفق بعض التسميات، على الرغم من أن تسمية الغجر هي ما تليق بهم.. وهي رواية عن شخصيات تبحث عن الحب والغربة، والروح التي تبحث عن الطمأنينة.

بعد ذلك أصدر رواية "مديح الكراهية" عام (2006) والرواية تسرد الصراع الذي دار بين جماعة الإخوان والسلطة في دمشق خاصة في أحداث عام 1982 في مدينة حماة، ووصلت الرواية إلى القائمة القصيرة لجائزة "بوكر" العربية، بعدها جاءت رواية "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" عام 2013 وحازت على جائزة نجيب محفوظ للأدب في العام ذاته، التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة "بوكر" العربيّة.. وهي عن مجتمع عاش بشكل متواز مع البطش والرغبات المقتولة٬ عبر سيرة عائلة اكتشفت أن كل أحلامها ماتت وتحولت إلى رماد، أثارت الرواية وطرحت أسئلة أساسية وحاولت الكشف عن حقائق خراب الحياة العربية في ظل الأنظمة الاستبدادية التي استباحت ودمرت حياة وأحلام المواطنين العرب.. وترجمت كما ترجمت روايته السابقة ضمن برنامج الجائزة إلى أكثر من لغة، وآخر رواية صدرت للراحل خليفة هي "لم يصلِّ عليهم أحد"، في العام 2019 ، رواية تحفر في سرديات المنطقة، وتقترح سردية جديدة ومختلفة لمدينة حلب في القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، عبر قصص متشابكة عن الحب الموؤود، والموت المحقق عبر المجازر والطاعون والزلازل والكوليرا، ومفهوم الهوية والانتماء وأسئلتهما.

عن موقع "24"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية