حوادث حرق المصحف في أوروبا والحاجة إلى إصلاح قانوني

حوادث حرق المصحف في أوروبا والحاجة إلى إصلاح قانوني

حوادث حرق المصحف في أوروبا والحاجة إلى إصلاح قانوني


12/07/2023

ابتسام الكتبي

بعد حادثة حرق صفحات من المصحف الشريف في السويد، صباح يوم عيد الأضحى، قلتُ في تغريدة على تويتر "إن هناك فرقاً بين حرية التعبير وحرية التدمير، فالسماح بحرق القرآن الكريم أو تدنيسه لا يدخل في نطاق الحريات وإنما يعكس تطرفاً وكراهية دينية. وكما طالبَت الدولُ الغربية البلدانَ المسلمة بمحاربة التطرف والمتطرفين، عليها أيضاً واجب محاربة التطرف في مجتمعاتها وعدم السماح لمواطنيها بالتعدي على مقدسات المسلمين تحت شعار حرية التعبير".

وسبق أن أَشَرتُ في كتابي الأخير حول الدبلوماسية الدينية إلى أن من أولويات عمل الدبلوماسية الدينية إثارة الجدل حول الكيفية التي نحاول فيها إيجاد توازن ينتصر لحرية التعبير من جهة، ويُولي عنايةً، في الوقت نفسه، إلى منع الإساءة إلى مجموعات دينية أو ثقافية وإهانتها وتحقير رموزها ومقدساتها من جهة أخرى، لأن ذلك قد يقود إلى استسهال البعض ممارسة العنف ضدها أو استسهال أفراد من تلك المجموعات ممارسة عنف مضاد، وكانت الحكمة تقتضي عدم تحفيز العنفيْن المحتملين المرفوضيْن كليهما. هذه مسألة فيها الكثير من السجال بكل تأكيد.

أهمية الإصلاح القانوني في مكافحة الكراهية الدينية

ويَجدُر، في هذا الصدد، عدم المبالغة كثيراً بالتعويل على العنصر الديني وحده في ترشيد سلوك الأشخاص ونظرتهم للأديان والمقدسات والرموز الثقافية، فبعض المجتمعات الأوروبية، كما بات مُلاحَظاً، تكاد تعيش في مرحلة ما بعد المسيحية، بالنظر إلى أن 9% فقط من السكان في السويد، مثلاً، يذهبون إلى الكنيسة مرة واحدة على الأقل شهرياً، فيما لا تتخطى نسبة هؤلاء في الدنمارك، المجاورة، سقف الـ 10%. وعندما يكون التدين في المجتمعات الأوروبية الأصلية منخفضاً جداً - بخلاف السكان المهاجرين، الذين غالباً ما يحتفظون في دواخلهم بمشاعر دينية قوية - يحدث أحياناً سوء تفاهم وتواصل؛ من تجلياته عدم تأثير حرق كتاب ديني مقدس (القرآن الكريم هنا) على تلك المجتمعات الأصلية (أو غير المتدينة) بالطريقة نفسها التي يؤثر بها في شخص متدين أو مسلم، فضلاً عن أنَّه غير مجرّم قانونياً في تلك المجتمعات.

لهذا، فإن البُعد التشريعي والإصلاح القانوني مهم في حماية المجتمعات من تأجيج الكراهية الدينية. وتبدو حالة فنلندا، في هذا السياق، جديرة بالاهتمام والاحتذاء، حيث اتخذت السلطات هناك خطوة حكيمة مهمة وملهمة في هذا المجال، إذْ قال مجلس الشرطة الوطنية في فنلندا إن حرق نسخ من القرآن من المرجح أن ينتهك السِلم الديني، ويعد جريمة يعاقب عليها القانون الفنلندي. وذكرت السلطات الفنلندية أن الحرق العلني أو أي تدنيس آخر لكتاب مقدس لدى طائفة دينية سيُقابَل بتدخل الشرطة.

في سياقٍ متصل، يمكن القول إن انخراط السياسيين أو المثقفين في القضايا الدينية يكون موفقاً أحياناً وغير موفق في أحيان أخرى، والأمر نفسه ينطبق، كذلك، على انخراط القادة الدينيين في المجال العام. والحل، بالطبع، ليس بمنع حرية التعبير، بل بتعزيز وعي عام ورأي عام يُراهن على خيارٍ يتعاونُ فيه السياسيون والمثقفون وعلماء الدين والقادة الروحيون والنُخب الفكرية والقانونيون على تطوير مقاربات لقضايا الدين والسياسة أكثر اتزاناً وإنصافاً ومرونة وواقعية؛ لتوحيد الجهود في سبيل حماية القيم العالمية وتحقيق العيش المشترك والتفاهم والاحترام والقبول بين أطياف البشر المختلفة، وتمكين الإنصاف وإدانة الظلم. ولعلّ هذا هو مدار اشتغال الدبلوماسية الدينية، ووظيفتها المركزية.

الدبلوماسية في مواجهة الإساءة

إن حادثة تدنيس القرآن الكريم الأخيرة في ستوكهولم هي حادثة شائنة ومقيتة بكل المقاييس، ويتعيّن أن يتعامل معها المجتمع الدولي بوصفها تصرفاً يحرّض على الكراهية الدينية، ومن هنا أهمية الإصلاح القانوني. ومن شأن هذه الحادثة، وغيرها من الحوادث المشابهة، أن تُمثِّل تحدياً مستمراً لأدوار الدبلوماسية الدينية وتأثيرها حول العالم، وفي الوقت نفسه يُمكن عدّها فرصة لمزيد من تفعيل هذه الأدوار المهمة لتعزيز التعايش الإنساني. وهذه المسألة أخذت أهميتها تتزايد بالفعل، إذ شدَّد الأزهر الشريف، وهو واحدٌ من أهم المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي، على أن "حرق المصحف وتمزيقه في عيد المسلمين [يُعدّ] دعوة صريحة للعداء والعنف وإشعال الفتن، وهو ما لا يليق بأي دولة متحضرة أو مسؤولة عن قراراتها". وفي موقف مُماثِل، أكَّد البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، أن مثل هذه التصرفات المُستَهجَنَة تدعو للاشمئزاز، مُشيراً إلى أن "أيّ كتاب يعتبر مقدساً من أصحابه يجب أن يُحترم احتراماً للمؤمنين به"، وأنَّه ينبغي ألا "تُستَغلّ حرية التعبير ذريعة لاحتقار الآخرين، والسماح بهذا مرفوض ومدان".

وضمن اتجاه مواجهة الإساءة بالدبلوماسية، دأبت دولة الإمارات على التعبير عن مواقف واضحة، تعكس رفضها الدائم "لجميع الممارسات التي تستهدف زعزعة الأمن والاستقرار وتتنافى مع القيم والمبادئ الإنسانية والأخلاقية"، وهو موقف أكدت عليه، مثلاً، بعد إقدام أحد المتطرفين في لاهاي بهولندا، في يناير 2023، على حرق نسخة من القرآن الكريم، وشددت وزارة الخارجية الإماراتية، في بيانها الخاص بتلك الحادثة، على ضرورة احترام الرموز الدينية والمقدسات والابتعاد عن التحريض والاستقطاب، في وقت يحتاج فيه العالم إلى العمل معاً من أجل نشر قيم التسامح والتعايش، ونبذ الكراهية والتطرف.

وفي المنحى ذاته، أدانت الإمارات ومجلس حكماء المسلمين بشدةٍ، في يناير 2023 أيضاً، ما أقدَم عليه أحد المتطرفين في السويد من حرق لنسخة من القرآن الكريم، وهو سلوكٌ عَدَّهُ مجلس الحكماء "استفزازاً واضحاً لمشاعر ما يقرب من ملياري مسلم حول العالم"، مؤكِّداً أن "مثل هذه الانتهاكات تُعَدُّ وقوداً لخطاب التطرف والإرهاب، وتنال من جهود نشر قيم السلام والتعايش الإنساني".

كما تتناغم هذه المواقف مع إدانة دولة الإمارات الصريحة لحوادث أخرى تسيئ لمشاعر المسلمين الدينية، من قبيل اقتحام وزير إسرائيلي، في يناير 2023، باحة المسجد الأقصى المبارك بحماية من القوات الإسرائيلية، مُعتبرة مثل هذه التصرفات الاستفزازية دلالة على عدم الالتزام بالوضع التاريخي والقانوني القائم في الأماكن المقدسة في القدس، فضلاً عن زعزعتها استقرار الوضع الهش في الأرض الفلسطينية المحتلة، وتمثل تطوراً خطيراً يُبعد المنطقة عن طريق السلام الذي نَصبو إليه جميعاً. وفي الاتجاه نفسه، أدانت الإمارات أيضاً الاعتداء الذي نفذه متطرفون يهود، في يناير 2023، على المقبرة المسيحية في جبل صهيون بالقرب من البلدة القديمة بالقدس، وطالبت بمحاسبة المسؤولين عن انتهاك حُرمَة المقابر وتخريب هذا المَعلَم التاريخي والديني المهم، مُشيرةً إلى أن هذه الأفعال الشنيعة تأتي ضمن سلسلة من الاعتداءات على المقدسات الدينية.

ويمكن القول، ختاماً، إن مثل هذه المواقف الواضحة التي عبَّرت عنها دولة الإمارات، إلى جانب مواقف غيرها من الدول العربية والإسلامية، في إدانة إقدام شخص من أصل عراقي بإحراق صفحات من القرآن في السويد قد تمكَّنت من ملء بعض الفراغ الذي يستغله المتشددون من كل طرف في نشر سرديتهم الداعية للعنف والتعصّب وتفخيخ المجتمعات وتقويض مؤسسات الدولة الوطنية وتمزيق رابطة المواطنة ومبادئ الإخوة الإنسانية، وتعد هذه المواقف خطوة مهمة في طريق تعزيز دور الدبلوماسية الإيجابي في ترسيخ قيم التعايش بين البشر في عالم يحفل بالكثير من التحديات والرهانات الصعبة.

عن "مركز الإمارات للسياسات"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية