يستغرب عراقيون كثيرون من تبوّئ حزب الدعوة الإسلامية صدارة المشهد السياسي منذ ٢٠٠٥ واحتمال بقائه في الصدارة في المرحلة المقبلة على رغم كثرة الأحزاب المنافسة له ووجود قادة آخرين يتمتعون بمقبولية وطنية وقدرة على جمع الناس حولهم. لكن مثل هذا الاستغراب، المقرون بالغضب والإحباط أحياناً، يتبدد أمام المراقب المحايد عندما يستعرض البدائل الأخرى وامتداداتها وبرامجها، إن وُجِدَت، وطريقتها في الحكم.
وعلى رغم أن القانون يُحتِّم على المشاركين في الانتخابات أنْ يسجّلوا كأحزاب، وأن يتمتع الحزب بعضوية معينة في محافظات عدة، فالجماعات (السياسية) ظلت تتمحور حول أشخاص وعائلات معينة، بلا برامج اقتصادية مدروسة أو أهداف سياسية وطنية، سوى القفز إلى السلطة والتمتع بالمكاسب التي تجلبها وتوزيع "المغانم" على الأتباع، وهذا ينطبق على معظم الجماعات السياسية، الإسلامية والعلمانية.
ظل العلمانيون مشتتين، يتصرفون كقيادات (كبيرة) تتمتع بشعبيات مناطقية وليست وطنية، وافتقروا جميعاً إلى التماسك والتنظيم الحزبي العصري والتمويل المنظم، بل اعتمد معظمهم على الدعم الخارجي، ما جعلهم مرتبطين بطريقة أو أخرى بأجندات خارجية فأضعف أداءهم وشعبيتهم. أكبر عملية تنسيق بين هذه القوى تمت قبيل انتخابات ٢٠١٠، عندما شكلت إطاراً انتخابياً مهلهلاً رُتِّب على عجل بقيادة أياد علاوي.
كانت الثقة غائبة بين قادة تحالف "العراقية" إذ ظلوا يتوجسون شراً ببعضهم حتى أن أحدهم تجسس على حلفائه وسجِّل لهم حديثاً شخصياً جرى في مقره ثم بثه على الإنترنت لإحراجهم! وقد استغربتُ عندما سألني أحدهم عن رأيي بعلاوي وهل يستحق أن يمنحه ثقته! قيادات علمانية أخرى، كأحمد الجلبي وقاسم داوود وآخرين، انضوت في القوائم الشيعية لأنها أدركت أنها غير قادرة على الفوز بمفردها.
بين القيادات العلمانية، تميز علاوي بالثبات على خطه السياسي وكسب شعبية واسعة، بادئ الأمر، في المدن الكبيرة كبغداد والبصرة والموصل وبابل والرمادي، وكاد ينافس القوى الإسلامية مجتمعة لولا أنه افتقر في شكل حاد إلى التنظيم الحزبي العصري والشركاء الأكفاء المؤمنين بقيادته. لم يعالج هذا الخلل الذي رافقه منذ ٢٠٠٣ وظل اختياره مستشاريه وشركاءه السياسيين قاصراً، وكان كثيرون منهم شيوخ عشائر أو رجال دين، ما افقده شريحة كبيرة من العلمانيين، بينما افتقر إلى الرؤية البعيدة الأمد فبقي يتصرف في شكل فردي ويسعى إلى تحقيق مكاسب وقتية، على رغم كثرة مؤيديه الفعليين والمُحتَمَلِين، الباحثين عن بدائل للقوى الإسلامية المنقسمة طائفياً، فأضاع بسبب ذلك فرصة تاريخية نادرة.
وبين القوى الإسلامية، تميز الدعوة بكونه منظماً تنظيماً عصرياً وبامتلاكه مؤسسات بحثية ومراكز ثقافية ومنظمات حقوقية وجماعات ضغط حول العالم، وممولين من دول مختلفة مؤمنين بأهدافه وخطه السياسي-الاجتماعي-الديني، ونجح في أن ينسج امتدادت جماهيرية واسعة في العراق ودول أخرى.
ويمتلك الحزب نظاماً داخلياً يحترمه الجميع تُجرى وفقه انتخابات دورية للقيادة والمكتب السياسي، وتتغير القيادات وفق نتائج الانتخابات. كما يتميز بتنوع حقيقي في الآراء، ولهذا فلديه أتباع حقيقيون مقتنعون بدوره وبرنامجه. كما ساعده في كسب الصدقية تاريخه الممتد ستين عاماً والذي لم تتخلله مواقف انتهازية او مساومات. صمد الدعوة بوجه ضغوطات الولي الفقيه منذ ١٩٧٩ ولم "ينصهر" مثلما فعل آخرون، حتى أنه لفظ قياديين فيه عندما دعوه إلى الانسجام مع السياسة الإيرانية، وحافظ على مبادئه. لكنه طور عمله عبر السنين وأخذ يتقبل الأفكار الجديدة ويتخلى عن الأساليب القديمة.
لم يسلم الحزب من الانتكاسات السياسية والاختراقات والانشقاقات، كما تصدر قيادته انتهازيون وغير أكفاء في أوقات معينة، خصوصاً بعد الملاحقة الهمجية خلال حكم نظام صدام حسين الذي أصدر قانوناً يعاقب بالإعدام، وبأثر رجعي، كل من انتمى إلى الدعوة أو روج لأفكاره أو سهّل مهمته، وقد خسر الحزب في تلك الفترة معظم قادته وكوادره. كما أنه لم يتحصن من التفاف النفعيين والانتهازيين حوله وانتفاعهم من اسمه ومواقفه، لكنه امتلك الإطار التنظيمي القادر على تجديد نفسه، وما بروز قيادة العبادي في الوقت المناسب إلا دليل واضح على أن الحزب يقبل التكيف مع الظروف وتجديد نفسه وخطابه ضمن الخطوط العامة لمبادئه.
ويلتزم الحزب جانب الليبرالية الدينية، وعادة ما يروج لأفكار المراجع المجددين ابتداء من محمد باقر الصدر، الذي يعتبره مؤسساً، إلى محمد حسين فضل الله، إلى كمال الحيدري، علما أن الحزب لا يتبع مرجعاً دينياً محدداً وأعضاءه احرار في اتباع من يشاؤون. للحزب امتدادات شعبية ونخبوية داخل المجتمع وهو متواصل مع كل الشرائح المجتمعية والجماعات الفكرية والسياسية المختلفة حتى تلك التي تسعى إلى إزالته، وهذا سر قوته، فهو يعرف عن خصومه أكثر مما يعرف عن أصدقائه.
الجماعات السياسية الأخرى، ولا يمكن تسميتها أحزاباً، لا تتمتع بأي من صفات الحزب السياسي، لأنها متمحورة حول شخص أو عائلة، وليس لها توجه سياسي محدد او رؤية مدروسة حول كيفية إدارة البلد وتطويره. قادة هذه "الأحزاب" لا يستطيعون أن يتوحدوا لأن هدفهم الأساس هو الزعامة والمكاسب التي ترافقها، والتوحد سيفقدهم ذلك.
قبل أيام أصدرت مفوضية الانتخابات قائمة بأسماء الأحزاب المسجلة التي ستشترك في الانتخابات المقبلة وعددها ٢٠٤ أحزاب! ونظرة سريعة على أسمائها، ناهيك بعددها، تصيبك بالتشاؤم. أسماء مثل "الداعي" و"برلمان الشعب" و"التيار الوطني العشائري" و"عراق الأرض" و"تجمع القلعة" و "ثأر الله"! لا تنم عن معرفة أو سعي للمصلحة الوطنية. ثم من الذي كلف "ثأر الله" أن يأخذ بثأر الله!
والغريب أنّ "مفوضية الانتخابات" لا تهتم سوى لتقاضي رسم التسجيل، وإلا ما معنى أن تمنح جماعات لا تمتلك مقومات الحزب ولا تحسن حتى اختيار الاسم، ترخيصاً للعمل السياسي؟
ما دامت الساحة السياسية بهذا القدر من التشرذم والضعف فإنها ستبقى غير قادرة على بلورة أحزاب راسخة مبنية على أسس سياسية واقتصادية تتسع للطيف العراقي الواسع، والفائز سيكون الحزب المنظم وصاحب الأفكار والرؤية الإستراتيجية المدروسة. نعم سيفوز حزب الدعوة لأنه الأكثر تنظيماً ووضوحاً وديموقراطية، وربما الأكثر ضماناً لمنع ظهور دكتاتوريات عائلية أو شخصية جديدة.
حميد الكفائي-عن"الحياة"