"حركة النهضة" وواشنطن... مياه كثيرة جرت تحت الجسر

"حركة النهضة" وواشنطن... مياه كثيرة جرت تحت الجسر


08/08/2021

أحمد نظيف

خريف عام 1991، وقف راشد الغنوشي، مؤسس وزعيم "حركة النهضة" التونسية، في أحد معسكرات الحركة في مدينة أم درمان السودانية خطيباً غاضباً متوعداً الولايات المتحدة الأميركية بالويل والثبور وعظائم الأمور، وملوّحاً بالهجوم على قواتها في جزيرة العرب، في أعقاب الغزو العراقي للكويت. كانت العقيدة الإخوانية التونسية حينذاك مثقلة بشعارات "مناهضة الاستكبار العالمي" ومعجبة بالسياسات التي اجترحها الإمام الخميني في إيران.

خلال ثلاثة عقود من التحول والتبدل، أصبح الغنوشي يقف في المعسكر المقابل. لم يعد الرجل مهتماً بــ"الجهاد ضد الاستكبار الأميركي" بقدر ما أصبح يتوسل قوة هذا "المستكبر" كي ينقذه من مآزقه العديدة. بين لحظة أم درمان العاصفة، واللحظة التي نعيش، جرت مياه كثيرة تحت جسور المنطقة وتحت جسر الحركة الإسلامية التونسية، تلخّص في رمزيتها مسيرة الغنوشي وتحولاته العجيبة.

مناسبة هذا القول ما كشف عنه موقع وزارة العدل الأميركية من أن "حركة النهضة" قد وقعت عقداً جديداً مع إحدى شركات الضغط والعلاقات العامة في واشنطن، في أعقاب الإجراءات التي أقدم عليها الرئيس قيس سعيد في 25 تموز (يوليو) الماضي، من أجل القيام بحملة علاقات عامة لفائدة الغنوشي وحركته، أي "نصرتها" ضد الرئيس سعيد، وقد بدا ذلك جلياً أياماً قليلةً بعد تجميد عمل المجلس النيابي وإقالة الحكومة من خلال نشر مقالات لراشد الغنوشي في بعض الصحف الأميركية لمخاطبة الإدارة الأميركية والرأي العام الأميركي، وكأن الغنوشي لم يعد يهمه جمهوره المتخلي عنه في الداخل، بقدر ما يهمه الموقف الأميركي في إعادة ترجيح موازين القوى لفائدته، والعودة للوضع الذي كانت عليه السلطة قبل 25 تموز 2021. بيد أن الحركة نفت أن تكون قد وقعت أي عقد أو قامت بتحويل أموال نحو الولايات المتحدة، لكأنها تعتقد أن المهتمين بتاريخ الجماعات الإسلامية ونشاطها يجهلون الشبكات الخارجية الداعمة للحركة، التي بقيت نحو عقدين تنشط في الخارج ولديها بنية تحتية لوجستية وتنظيمية هائلة في العواصم الأوروبية وفي أميركا الشمالية، تمكّنها من التواصل مع مثل هذا النوع من الشركات وتحويل الأموال من دون أن يمر ذلك على تونس ومن دون أن تكشفه أجهزة الرقابة المحلية التونسية.

لكن التوجه نحو واشنطن من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، يبدو أنه سيعمق من مشكلات الحركة الإسلاموية التونسية، حيث شرع القضاء التونسي في التحري والتقصي عن مدى صحة وثيقة التعاقد وحقيقتها، والتي يمكن أن تكون دليل إثبات آخر في ملف عقود شركات الضغط المتهمة فيها "حركة النهضة" منذ انتخابات 2019، إذ أعلن القضاء التونسي في وقت سابق عن فتح تحقيق في القطب القضائي الاقتصادي والمالي في حق "حركة النهضة" بتهمة تلقي تمويل خارجي، بعد صدور تقرير دائرة المحاسبات – أعلى هيئة قضائية رقابية – والذي دان "النهضة" بالتمويل الخارجي من خلال عقود شركات الضغط والعلاقات العامة في واشنطن. وإذا أثبت القضاء هذه التهم، فإن "النهضة" تواجه مخاطر وجودية عير مسبوقة، ليس أقلها الخروج النهائي من المشهد السياسي لسنوات. إذ يشير الفصل 163 من الدستور التونسي الجديد إلى أنه: "إذا ثبت لمحكمة المحاسبات أنّ المترشّح أو القائمة قد تحصّلت على تمويل أجنبي لحملتها الانتخابية، فإنّها تحكم بإلزامها بدفع خطية ماليّة تتراوح بين عشرة أضعاف وخمسين ضعفاً لمقدار قيمة التمويل الأجنبي. ويفقد أعضاء القائمة المتمتّعة بالتمويل الأجنبي عضويتهم بمجلس نواب الشعب، ويعاقب المترشّح لرئاسة الجمهورية المتمتّع بالتمويل الأجنبي بالسجن لمدّة خمس سنوات. ويُحرم كل من أُدين بالحصول على تمويل أجنبي لحملته الانتخابية من أعضاء قائمات أو مترشّحين من الترشّح في الانتخابات التشريعية والرئاسية الموالية".

وبالعودة الى العلاقات بين "حركة النهضة" وواشنطن، فإنه يمكن القول إن نوعاً من خيبة الأمل قد أصاب الإسلاميين في تونس، بعد الموقف شبه الحيادي للإدارة الأميركية مما حدث على يد الرئيس قيس سعيد، حيث كانت تقديرات الحركة الإسلاموية تشير إلى أن الموقف الأميركي سيكون أكثر قوة وتشدداً إلى صفهم، لكن ذلك لم يحدث، فيما واصلت السفارة الأميركية تقديم جرعات اللقاح بل زادت من وتيرة المساعدات، على الرغم من الودّ غير الخفي بين الإدارة الديموقراطية والإسلاميين، بخاصة في تونس، الذين فتحوا قنوات اتصال مع السفارة منذ سنوات، قبل حتى عودتهم للنشاط السياسي عام 2011، وقد كشفت وثائق ويكيليكس في العام نفسه عن تفاصيل دقيقة لاجتماعات قيادات الحركة بالدبلوماسيين الأميركيين ومواقفهم.

لم تدّخر إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، خصوصاً وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، وقتذاك، جهداً في دعم وصول "حركة النهضة" إلى السلطة، ودعمها خلال سنوات حكمها القليلة. كانت الفلسفة الأميركية، مدفوعة بملخصات مراكز البحوث في واشنطن، تراهن على أن وصول حركات إسلامية "معتدلة" سيقضي نهائياً على الحركات الإسلامية الجهادية، ما دامت هذه الحركات المعتدلة لا تتبنى سياسات جذرية ضد المواقف والسياسات الأميركية في المنطقة، ولا ضد النموذج الاقتصادي الرأسمالي.

كان هاجس الأمن وترويض الوحش السلفي الجهادي مسيطراً على الأميركيين، واعتقدوا أنه بوصول جماعات إسلامية إلى السلطة سيكون من السهل إعادة إدماج الجهاديين والسلفيين في لعبة السياسة وضبط الأمن. لم تصمد هذه الاعتقادات الأميركية طويلاً أمام الواقع. بضع مئات من الشباب السلفي الجهادي هجموا سيراً على الأقدام وفي صناديق الشاحنات على السفارة الأميركية والمدرسة الأميركية في تونس العاصمة يوم 14 أيلول (سبتمبر) 2012، وأسقطوا كل الحسابات في الماء، بينما كانت "حركة النهضة" على رأس الحكومة حينذاك ولم تحرك ساكناً.

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية