ما يُميّز الفيلسوف جون لوك (١٦٣٢- ١٧٠٤) عن غيره من فلاسفة الغرب، هو عنايته بالتسامح. فقد أصدر الفيلسوف الطبيب ثلاث رسائل عن هذا الموضوع، بعنوان رسالة في التسامح(A letter concerning t toleration) . كانت أولى هذه الرسائل، عندما كان في منفاه بهولندا. وقد صدرت خلواً من اسمه، وباللغة اللاتينية، وذلك عام ١٦٩٢، وترجمها د. عبد الرحمن بدوي عن هذه اللغة، وثمة ترجمة ثانية قامت بها منى أبو سنّة عن الإنجليزية، وصدرت في يونيو سنة ١٦٩٠، أما الثالثة، فقد صدرت في يونيو من عام ١٦٩٢.
اضطر لوك إلى كتابة الرسالتين الثانية والثالثة، جرّاء الهجوم الشديد الذي تعرضت له الرسالة الأولى، ولحرصه على الدفاع بقوة عن أطروحته. ورُبّ سائل يسأل: لماذا عُني لوك بالتسامح الديني، وليس بالتسامح المجرد، العام؟
إنّ هذه العناية تفسّر بالخلاف الطائفي الذي نشأ بين الكاثوليك، والبروتستانت، في تلك الحقبة من تاريخ إنكلترا، وهذا الخلاف يذكرنا بالخلاف المستعر، هذه الأيام، بين الشيعة والسّنة. وأرى أنّ التسامح الذي يذهب إليه لوك، يمكن أنْ يصدق على الخلاف السّني/الشّيعي بخاصة، والديني، بعامة .
إنّ التسامح الديني يستوجب، برأيه، ألا يكون للدولة دين
في تلك الحقبة، ظهرتْ محاكم التفتيش، وكان من ضحاياها بالحرق جان دارك، وجوردانو برونو. إنّه لجدير بالملاحظة أنّ أحداً من الفلاسفة الذين سبقوا لوك، وأيضاً الذين عاصروه، لم يتناول هذا الموضوع، كما أنّ أحداً من الفلاسفة اللاحقين لم يستأثر التّسامح باهتمامه. لذلك، بوسعي القول إنّ لوك هو فيلسوف التسامح بلا منازع، وإنّه رائد هذه المقولة المهمة، و "ليس من حقّ أحد أن يقتحم، باسم الدين، الحقوق المدنية، والأمور الدنيوية"(ص.٧). لذلك، ينبغي ألاّ يحمل فن الحكم "في طياته أية معرفة عن الدين الحق".
إنّ التسامح الديني يستوجب، برأيه، ألا يكون للدولة دين. لماذا؟ لأن "خلاص النفوس من شأن الله وحده. ثم إنّ الله لم يفوض أحداً في أن يفرض على أي إنسان ديناً معيناً". ويزيد لوك، فيقول "إن قوة الدين الحق كامنة في اقتناع العقل، أي كامنة في الإنسان".
إنّ لوك متسامح إزاء الأديان، بما فيها اليهودية، ومتسامح تجاه الوثنية أيضاً، ولكنه ضد التسامح مع الملاحدة
إنّ الموقف الذي يتّسم بالتسامح هو موقف إيجابي للغاية، ويدلّ على أنّ صاحبه طيب السريرة، وذو نزوع إنساني. ألسنا نقول إن "أهل السماح ملاح"؟ وإنّ التسامح يعبر عنه بالسماح والتساهل. وهو في معاجم اللغة العربية، يعني ذلك. إنّ التسامح قد يفهم، بصورة سلبية، بمعنى التنازل عن الحق، أو بمعنى أكثر سلبية بأنه استسلام للباطل، أو بعبارة أخف وطأة غض النظر عنه. وليس نادراً أنْ يوصف المتسامح بأنه ضعيف الشخصية.
كان همّ لوك هو نشر التسامح الديني في الوسط المسيحي، لذلك، كان يوجّه خطابه إلى الكنيسة، وإلى المسيحي. يقول لوك: "إنني أنظر إلى التسامح على أنه العلامة المميزة للكنيسة الحق"(ص.١٩)، ويقول أيضاً: "إذا تجرد المسيحي من المحبة والتواضع وإرادة الخير للبشرية بما فيها من غير المسيحيين، فإنه في هذه الحالة لا يمكن أن يكون مسيحياً حقاً".
إنه يخاطب المسيحي، ولكنه، في الوقت نفسه، يدعوه إلى التعامل مع "غير المسيحيين"، كما يُعامل المسيحيون، ويرفض لوك استخدام "السيف والنار"، العنف، لإجبار الناس على اعتناق عقائد معينة، والانتماء إلى عبادات وطقوس معينة، ويُستنتج من رأي لوك أنّ المسيح يمكن أن يكون قدوة، ذلك لأنه لم يستخدم "كتائب من جنود السماء"(ص.٢٢)، على الرغم من سهولة ذلك بالنسبة إليه. والأهم من ذلك أنّ العهد الجديد والعقل هما مرجعيتا لوك فيما يتصل بالتسامح "بين أولئك الذين يعتقدون عقائد مختلفة في أمور الدين" (ص.٢٣). إن التعويل على العقل يدل على أنّ لوك أراد التوفيق بين العقل والنقل، بين العقل والدين أو النص.
إذا تجرد المسيحي من المحبة والتواضع وإرادة الخير للبشرية بما فيها من غير المسيحيين، فإنه في هذه الحالة لا يمكن أن يكون مسيحياً حقاً
لقد ميّز لوك بدقة، ووضوح، بين مهامّ الحكم أو الدولة، ومهامّ الدين، داعياً إلى" تأسيس الحدود الفاصلة والعادلة بينهما"؟ فللدولة أهداف بوسعي وصفها بأنها دنيوية، بينما هدف الدين هو خلاص النفوس، ورعاية الأرواح، ويجب، برأي لوك، الفصل المطلق بينهما. إنّ سلطة الحاكم المدني تتعلق بالخيرات المدنية، وحسب. "ولا تمت بأية صلة إلى العالم الآخر" (ص27).
ركّز لوك على العقل في كلامه على "الدين الحق"، لماذا؟
باعتقادي لأنه فيلسوف، قبل كل شيء. إنّ لوك يعزز رأيه في دور العقل وأهميته، قائلاً "إنّ تغيير آراء البشر لا يتم إلا من خلال نور الأدلة والبراهين". (ص٢٦)
ومن حقّ المسيحي، برأي لوك، الخروج من الكنيسة، كما انضم إليها، معللاً ذلك بأنه حُرّ، من جهة، وانّ مجتمع الكنيسة "هو فعل حُرّ وتلقائي خالص"، من جهة أخرى (ص ٢٨) إنّ ما يناقض هذا الموقف، الذي يدلّ على تقدير الحرية أيّما تقدير، موقف آخر نقيض الموقف المذكور، وهو يخصّه تحول المسيحي من دينه إلى الإسلام. فلوك يعدّه كافراً ومرتداً. واللافت أنّ لوك ليس ضد الوثنية وعبادة الأصنام. إنّ دعوة لوك إلى حرية الاعتقاد الديني، والأهم من ذلك دعوته إلى التسامح ، لم تحُلْ دون دعوة الحاكم إلى عدم التسامح مع "الآراء المضادة للمجتمع الإنساني أو القواعد الأخلاقية الضرورية للمحافظة على المجتمع المدني"(ص.٥٥). ولعل ما يؤدي إلى فقد مكوّن من مكونات التسامح أنْ يتّخذ لوك الفيلسوف، وهو ليس عالم دين محافظاً، موقفاً سلبياً تجاه الإلحاد. يقول فيلسوف التسامح "لا يمكن التسامح على الإطلاق مع الذين ينكرون وجود الله"(ص ٥٥).
إنّ لوك متسامح إزاء الأديان، بما فيها اليهودية، ومتسامح تجاه الوثنية أيضاً، ولكنه ضد التسامح مع الملاحدة. أليس هذا التسامح ناقصاً؟ إن التسامح لا ينبغي أن يقوم على أي تمييز مهما يكن؛ فالفلسفة تضم أشخاصاً يفكرون على أنحاء مختلفة، وينتمون إلى اتجاهات ومدارس متنوعة، لذلك تمتاز بأنها تعددية، وهي تعددية لا نلحظها في أي علم من العلوم الإنسانية أو الاجتماعية. إنها تتسع للفلاسفة كافة، سواء اختلفوا أم اتفقوا، آمنوا أم ألحدوا، وعالمها مفتوح لكل إنسان يتفلسف، ويطرق باب التفكير الحر . ليس من حق أي فيلسوف أن يحول دون حرية تفكير الآخر. إن المؤمن مدعو إلى الاعتراف بالآخر، بغض النظر عن اتفاقه أو اختلافه معه، كما أنّ الملحد مدعوّ إلى الاعتراف بالآخر، مهما يكن رأيه في هذا الآخر، سواء كان مؤمنا أو شكاكاً أو لا أدرياً.
المصدر: لوك جون (1997)، رسالة في التسامح، ترجمة: منى أبو سنة، تقديم ومراجعة: د. مراد وهبة، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة