منير أديب
تظل علاقة "الإخوان المسلمين" بالعنف محل جدل بين المراقبين ومراكز الأبحاث والدراسات وصنّاع القرار في عالمنا العربي، رغم وضوح هذه العلاقة واعتراف "الإخوان" أنفسهم بها، حتى ولو أخذت مسميات مختلفة، كأنّ تُسمي الجماعة هذا العنف بــــ "القوة" أو "الجهاد"؛ فقد ورد في أدبيات الجماعة أن مؤسسها الأول حسن البنا قال في رسالة المؤتمر الخامس في العام 1939: سوف نستخدم القوة العملية حين لا يُجدي غيرها، وهو ما يُفهم منه أن التنظيم يختار استخدام العنف، المقابل اللغوي للقوة التي أشار التنظيم إليها، في الوقت الذي يراه مناسباً.
المؤسس الأول حسن البنا أفرد لذلك حديثاً مطولاً حيث قال: إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية؛ حيث لا يُجدي غيرها، وحيث يثقون بأنهم قد استكملوا عُدة الإيمان والوحدة، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء، وسينذرون بعد ذلك، ثم يُقدمون في كرامة وعزة، ويتحملون النتائج كلها لموقفهم هذا بكل رضا وارتياح.
ويبدو دهاء حسن البنا واضحاً، فالرجل لم يُعلن تدشين النظام الخاص أو الذراع العسكرية للجماعة إلا بعد 10 سنوات من نشأة الجماعة، وحتى يطمئن لقوتها واجتماع النّاس عليها، وهنا فاجأهم وفاجأ السلطات السياسية في مصر آنذاك باستخدامه للعنف، ولعله برر ذلك بخطابه قبل نشأة الجناح العسكري للجماعة بإشارته أنه فعل ذلك بعد أن وثق في استكمال عُدة الإيمان والوحدة، والعجيب أنه ينهي خطابه بالقول، وسوف نتحمل نتائج هذا الموقف بكل رضا وارتياح، وكأنه يعلم ردة فعل الناس والسطلة الأمنية والسياسية على تنظيمه.
إذْ لم ينجح "الإخوان المسلمون" في شيء طيلة عقودهم العشرة الماضية، سوى في خلق حالة الجدل هذه فقد نجحوا؛ فهذه الحالة ساعدت كثيراً في تزييف الواقع والمستقبل معاً، وأدت إلى تأخر فرص مواجهة التنظيم الذي خرج من رحِمه كل تنظيمات العنف والتطرف في ما بعد.
وهنا نستطيع القول: إن التنظيم نجح في العمل والانتشار في عدد من البلدان العربية، التي صدروا فيها خطابهم الدعوي، بينما أخفوا خطابهم الحقيقي الداعم للعنف، وربطوا استخدامهم للعنف بظروف سياسية استثنائية، حتى وقع بعض المثقفين والتنفيذيين والسياسيين في بعض عواصمنا العربية وكذا بعض الباحثين في فخ الفهم الخاطئ لـ"الإخوان"، كما تورط أيضاً رؤساء بعض الدول وبعض القيادات الأمنية في هذا الفهم الملتبس، ولعل هذا أحد أسباب انتشار الإرهاب على نطاق واسع وتمدده بصوره باتت معه المواجهة صعبة وشرسة.
حركة "الإخوان المسلمين" مارست العنف بصوره المختلفة، اللفظي والسلوكي، الفكري والجنائي، ويمكن أن تقرأ هذه الممارسة عبر أدبيات الجماعة الممتده عبر عقود النشأة، وأن تقرأ عكسها للمناسبة أيضاً، وهذا من دهاء التنظيم ومكر قادته، فلم يقتصر عنف "الإخوان" على بدايات النشأة التي شهدت تدشين ذراع عسكرية للجماعة، وإنما على سلوك الجماعة العنيف الذي شهدته الحقب الزمنية المتعاقبة في تاريخ التنظيم.
فيكفي التنظيم أنه ما زال يحيا بالأصوات التي تُدافع عنه من دون أن تعلم عنه الكثير، بما يجعلها تقف على حقيقة علاقته بالعنف، يمكنك أن تستخرج كل شيء من أدبيات التنظيم وأن تفسرها على أكثر من وجه، وهنا هربت الجماعة من وصفها بالعنف، ولكن مع من أخطأوا قراءتها، هذه الطريقة نجحت من خلالها في صد أي استهداف لسنوات طويلة، بل وخلق مصدات موجهة لأي مواجهة لها، صحيح هذه المصدات مزيفه، ولكنها باتت الآن أكثر حصاراً بعد أن أدرك الجميع حقيقتها.
استفادت حركة "الإخوان المسلمين" من تجارب بعض التنظيمات المتطرفة التي قررت استخدام العنف منذ اللحظة الأولى لنشأتها، فواجهها الأمن والنّاس معاً، الأول فكك تنظيمها والثاني فكك فكرتها المؤسسة، هذه التنظيمات أصبحت محاصره ومقيدة بين الأغلال الأمنية وبين مواجهة النّاس لها حتى انزوت تماماً عن المشهد، وهو ما لم ترده "الإخوان" لنفسها.
مارست حركة "الإخوان المسلمين" العنف، ولكن بوجه خفي وبصورة غير مرئية لكثير من النّاس حتى أعمت عنهم حقيقتها وحقيقة علاقتها بالعنف، وتكاسل بعض النّاس في الوصول للحقيقة المجردة عن التنظيم ولم يكشف الباحثون الصورة الواقعية للتنظيم أو تأخروا في ذلك، وهو ما ساعد في حالة الجدل المشار إليها.
الحالة الجدلية التي تعيشها بعض المجتمعات العربية وغير العربية بخصوص علاقة "الإخوان المسلمين" بالعنف، لم تكن عفوية، بل كان مخططاً لها من قبل الجماعة؛ حتى وصلت هذه الحالة لبعض الأنظمة السياسية في منطقتنا العربية، كما أن هذه الحالة ما زالت تعيشها بعض الدول الكبرى التي ضلّت الرؤية الصحيحة أو فضلت مصالحها السياسية عن التعامل مع الحركة وفق التصور الصحيح لها، وعلى كل الأحوال ساعدت هذه الحالة الجدلية في وجود "الإخوان المسلمين" حتى هذه اللحظة ما بين جماعة قوية معترف بوجودها في بعض البلدان، وما بين جماعة تتربع على السلطة في بلدان أخرى؛ وهو ما كان سبباً من أسباب عدم مواجهة بعض الأنظمة السياسية، عربية وغير عربية لها في حقب زمنية مختلفة.
لا قيمة لمواجهة الإرهاب ما لم يكن في القلب منه مواجهة "الإخوان المسلمين"، ويظل دور المجتمع الدولي محدوداً وغير مؤثر في مواجهة الإرهاب، طالما لم تصل هذه المواجهة لقلب التنظيمات المتطرفة، والتي ما زال يخرج من ردائها كل أفكار العنف، والتي مثلت حجر الأساس لأغلب تنظيمات العنف والتطرف في منطقتنا العربية.
كلما تمت مواجهة تنظيم "الإخوان المسلمين" في دولة ما، ظهر بشكل أقوى مما هو عليه في دولة أخرى! من دون معرفة محددة بالأسباب التي أدت لذلك، حتى بات أداةً للاستخدام من قبل بعض الأنظمة السياسية الحاكمة في بعض عواصمنا العربية وغير العربية، باعتبارها أكبر قوة معارضة تضعها هذه الأنظمة في خانة التنظيمات المتمردة ومن هنا كان الاستخدام، وفي ظني أن "الإخوان" استخدموا بعض الأنظمة السياسية في نشر أفكارهم، في إطار علاقة متبادلة قائمة على المصلحة.
المحطات التي استخدم فيها العنف لا تخفى على باحث أو دارس منصف، ولذلك تبدو مهمة إعادة قراءة هذه التنظيمات، قراءة واعية ودقيقة، فلا يمكن مواجهة التنظيمات المتطرفة إلا بعد قراءتها قراءة علمية وبحثية تمكنّا من مواجهتها في النهاية.
مجتمعاتنا العربية في حالة استنفار عام لمواجهة جماعات العنف والتطرف، والمشاركة في تفكيك أفكارها المؤسسة، ولكن لا قيمة لمواجهة تكون رأس حربتها الأنظمة السياسية من دون المجتمع بكافة أطيافه، كما لا قيمة لقراءة ""الإخوان قراءة أحادية بعيداً من أفكار العنف وممارسته لها واعترافه بأنهم دعاة عنف وكراهية.
عن "النهار" العربي