شهدت بدايات العام الجديد، رحيل القائد الوطني، جادو عزّ الدين، أحد الشخصيات السياسية والعسكرية السورية، بعد تسعة عقود ونيف، قضاها بين دمشق والقاهرة، فيما يعدّ موته بمثابة انطفاء آخر لحقبة من التاريخ، وغياب شريط مهمّ في الذاكرة العربية المشتركة، منذ بدأت تتطلع إلى الاستقلال عن الاستعمار الأجنبي، والتخلص من الاستبداد المحلي، ثم مقاومة العدوان الصهيوني، ومواجهته على عدة جبهات.
إرهاصات الاستقلال والوحدة
برز اسم عزّ الدين، الضابط والسياسي السوري، المولود العام 1926، إبان الوحدة بين مصر وسوريا؛ حيث كان قائد الجبهة السورية في الجولان، وقتذاك، كما كان أحد أعضاء الوفد الذي التقى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، بهدف بحث أمر الوحدة وترتيب حدوثها.
اقرأ أيضاً: بيرم: حكاية تونسي تزعّم شعراء العامية في مصر
ينحدر أبو طارق، الذي وافته المنية في القاهرة، في الثاني من كانون الثاني (يناير) العام 2019، من محافظة السويداء، جنوب دمشق، بيد أنّه ولد في قرية رضيمة اللواء جبل العرب؛ حيث كانت ثورة سليمان الأطرش ونضاله المستعر ضدّ الاستعمار الفرنسي في ذروته، فشكّل ذلك السياق التاريخي المهم، العتبة الأولى لعبوره نحو انحيازاته واختياراته في الحياة، وتكوين أفكاره ومبادئه.
كان والده، سعيد عز الدين، أحد الثوار المشاركين في معارك الاستقلال، فاضطر مثل غيره من الثوار إلى الاستقرار في منطقة وادي سرحان، على الحدود الأردنية السعودية؛ حيث تلقى جادو عزّ الدين تعليمه الأول، في منطقة النبك، في الصحراء السعودية، قبل عودته إلى مدرسة التجهيز، أوائل العهد الوطني، بسوريا.
تخرج ضمن أول دفعة للكلية العسكرية بعد الاستقلال وخاض مع "جيش الإنقاذ" عدة معارك داخل فلسطين
يعدّ انتساب عزّ الدين إلى الكلية العسكرية، بعد حصوله على شهادة البكالوريا، في حمص، والتي تخرج منها العام 1947، أحد المظاهر التي توجت مرحلة طويلة من الاستقلال، ونزع فترة الاستعمار عن البلاد؛ حيث دخل الكلية العسكرية في أول دفعة بعد الاستقلال، كما انضمّ إلى "جيش الإنقاذ"، الذي شارك في تلك الفترة من أربعينيات القرن الماضي، في عدة معارك داخل فلسطين، لمواجهة الاحتلال والعدوان الإسرائيلي، إضافة إلى تطوّعه في كتائب المقاومة، والتي شكّلها الضباط السوريّون ضدّ إسرائيل.
بين مصر وسوريا
شغل القائد العسكري والسياسي الراحل، عضوية المجلس العسكري الذي تشكّل بعد انتهاء حكم أديب شيشكلي، في سوريا، وبالتالي، كان أحد أعضاء الوفد الذي شكّله المجلس، برئاسة اللواء عفيف البزري، لزيارة الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، في القاهرة، وبحث سبل إقامة الوحدة بين مصر وسوريا، فيما تولّى عزّ الدين، منصب وزير الأشغال العامة في فترة الوحدة، وبعد الانفصال عاش في القاهرة؛ حيث عمل أثناء إقامته في القاهرة، في عقد الستينيات، في قيادة التنظيم الاشتراكي المصري، مع اللواء "جاسم علوان"، وله مؤلفات وعدة إسهامات فكرية على مستوى السياسة، وتوثيق بعض المعارك التي خاضها وشارك في قيادتها.
وبحسب محمود رياض، السفير المصري في سوريا، خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، من القرن الماضي، فقد توجه وفد عسكري سوري، لمقابلة الرئيس عبد الناصر؛ حيث ضمّ كلاً من، جادو عزّ الدين، مصطفى حمدون، أحمد عبد الكريم، أحمد حنيدي، طعمة العود الله، وأمين الحافظ، وطالبوا بـ"الوحدة الفورية" التي وافق عليها عبد الناصر، بشرط حلّ الأحزاب في سوريا. وتمّ الإعلان عن الوحدة، في شباط (فبراير) عام 1958، بعد التوقيع عليها من قبل الرئيسين شكري القوتلي، وجمال عبد الناصر.
اقرأ أيضاً: ماذا تعرف عن روكس العزيزي؟
ومن جهة أخرى؛ يروي عبد الكريم زهر الدين، القائد العام للجيش في فترة الانفصال في كتابه "مذكراتي عن الانفصال"؛ أنّ المشير (يقصد المشير عبد الحكيم عامر، القائد العام للقوات المسلحة، آنذاك)، كان ينوي تعيين جادو عز الدين قائداً للجيش الأول، خلفاً لعفيف البزري، غير أنّه تراجع عن ذلك كونه درزياً.
الدفاع عن فلسطين.. المعركة الباقية
وحول إحدى المعارك التي شارك فيها عزّ الدين بفلسطين، فإنّه يروي قصّة سقوط مدينة صفد، الواقعة في منطقة الجليل الفلسطينية، ومشاركته في الدفاع عنها، والأخطاء الفادحة التي تسببت في سقوطها: "كنا مجموعة من الضباط، جميعنا برتبة ملازم، ورفاق دورة واحدة، ثم تعينا فور تخرجنا في الكلية العسكرية، في مركز تشكيل وتدريب جيش الإنقاذ، وكان التحاقنا في هذا المركز، في تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1947. وتبع ذلك أن تطوّع معظمنا في وحدات هذا الجيش، ودخل كلّ منا فلسطين ليشترك في العمليات التي كلفت بها وحدته".
عمل أثناء إقامته في القاهرة خلال عقد الستينيات في قيادة التنظيم الاشتراكي المصري
ويضيف؛ أنّه دخل فلسطين ليلة 16 كانون الأول (ديسمبر) العام 1947، مع السرية الأولى من فوج الحسين الأول، بينما عبروا نهر الأردن ليلاً إلى الضفة الغربية، وذلك من مخاضة تقع إلى الجنوب مع جسر المالح، بيد أنه في النصف الثاني من آذار (مارس) العام 1948، تلقت السرية التابعة له، أمراً بالتحرك إلى شمال فلسطين، لتنضم إلى وحدات الإنقاذ الموجودة في منطقة الجليل، وذلك بقيادة المقدم أديب الشيشكلي، ولتنفيذ هذه الحركة من المثلث العربي، في الضفة الغربية إلى شمال فلسطين، كان لا بدّ من العودة إلى شرق الأردن، والتحرك إلى سوريا، فلبنان، ثم الجليل، ذلك بسبب أنّ سهل مرج ابن عامر، الواصل بين شمال فلسطين وجنوبها، يقع بأكمله تحت سيطرة المستعمرات اليهودية، المتحكمة بشبكة الطرق التي تخترقه.
كما أنّ معركة التوافيق أو "الناصرية"، كما سميت في زمن الوحدة بين مصر وسوريا، والتي تقع على الشريط الحدودي بين فلسطين ومنطقة القنيطرة السورية، وقعت أحداثها في شباط (فبراير) العام 1960، بين الجيش السوري، من جهة، بقيادة جادو عز الدين؛ حيث تولى منصب قائد الجبهة السورية، والجنود الإسرائيليين، من جهة أخرى، وسبق هذا التاريخ معركة أولى على الجغرافيا نفسها، وقعت عام 1957، بسبب قيام مجموعات مسلحة إسرائيلية، بحفر قناة للريّ في تلك المنطقة، والتعدي على الأراضي العربية بفلسطين، وبناء مستعمراتهم عليها، والادّعاء بالحصول على أصول ملكية الأراضي من أصحابها، ونجم عن تلك الاشتباكات، وقوع قتلى ومصابين، من الجانب الإسرائيلي، ما اضطرهم إلى تعطيل عمليات الحفر، بعض الوقت، حتى عادت مجدداً، أوائل الستينيات.
اقرأ أيضاً: ما لا تعرفه عن سيرة المفكر الفلسطيني هشام شرابي
وبحسب عز الدين؛ كانت إستراتيجية القيادة العسكرية المشتركة، في الجمهورية العربية المتحدة، تقتضي بمحاصرة إسرائيل، عبر جيشين قويين، من جهتي الشمال والجنوب، بالإضافة إلى رفع التنسيق بين الجيشين، إلى حين المواجهة الحاسمة، وقد أسفرت المعركة عن 250 قتيلاً من الجانب الإسرائيلي، وما يزيد على ضعف هذا العدد من الجرحى، ووقوع طائرة واحدة، فضلاً عن خسائر كبيرة في بناء المستعمرات الإسرائيلية، بينما وقع من الجانب السوري أربعة قتلى وثلاثة جرحى فقط.