تعتبر الطباعة والنشر من الوسائط الإعلامية المرتبطة بالمجتمعات المنتجة لها؛ حيث تعبّر عن نشاط الحركة الثقافية والفكرية فيها. وقد عرفت أوروبا ظهور الطباعة منذ القرن الخامس عشر، ولكن وصولها إلى البلاد العربية تأخر حتى القرن الثامن عشر، حتّى امتدت إلى فلسطين والأردن في بدايات القرن التاسع عشر.
البدايات.. مطابع دينية
كانت الأسباب التي أدّت لظهور المطابع الأولى في فلسطين دينية بالأساس؛ حيث كانت هذه المطابع معنية بطباعة الكتب الدينية، تأسست أول مطبعة في القدس العام 1830؛ وكانت مطبعة يهودية يملكها نسيم باق، وقد اقتصرت أعمالها على الكتب الدينية باللغة العبرية. ويذكر شاهين مكاريوس، في مقالة بعنوان "المعارف في سورية" المنشور في مجلة المقتطف العام 1883، أنّ مطبوعاتها لاقت رواجاً واسعاً ونجاحاً كبيراً، على الرغم من المنافسة الشديدة التي واجهتها من الناسخين، الذين رفضوا مبدأ الكتابة بأسلوب الطباعة وشهّروا به وطعنوا في دقة نصوصه.
وقد ظلت ملكية الطباعة في فلسطين حتى العام 1846، مقتصرة على اليهود دون غيرهم من أتباع الديانات الأخرى من الفلسطينيين، فقد امتلكوا 5 مطابع من إجمالي عدد المطابع التي كانت قائمة في الديار الشامية والذي كان يبلغ 30 مطبعة مع بداية النصف الثاني للقرن التاسع عشر. وقد أهّلت هذه الملكية الفلسطينيين اليهود للريادة في العمل الصحافي أيضاً في فلسطين؛ حيث صدرت أول صحيفة في القدس العام 1862، وكانت صحيفة عبرية يملكها يحائيل برويل.
وفي العام 1846 أقام الرهبان الفرنسيسكان أول مطبعة مسيحية في القدس العام 1846، وذلك بعد أن استوردوها ومعداتها من النمسا. وكانت باكورة أعمال هذه المطبعة طباعة كتاب "التعليم المسيحي" الذي صدر باللغتين؛ العربية والإيطالية، وقد طبع في هذه المطبعة كتب كثيرة من اختصاصات مختلفة بلغ عددها حتى العام 1883 حوالي 103 كتب، وكانت موضوعات معظمها تتمحور حول القضايا الدينية والمسائل التبشيرية بالدرجة الأولى، ثم حول الموضوعات المدرسية واللغوية والأدبية.
وقد حذا حذو الآباء الفرنسيسكان جماعة من الإنكليز أسسوا مطبعة في القدس العام 1848، وفي العام نفسه أنشأ الأرمن الغريغوريون مطبعة في القدس، وضعوها في ديرهم المجاور لجبل صهيون، وفي العام 1849 أنشأت جمعية القبر المقدس اليونانية مطبعة وضعتها في مقر البطريركية للروم الأرثوذكس في القدس، وأنشئت في القدس العام 1879 مطبعة المرسلين الإنجيلية، وكانت جميع الكتب التي تصدر عن هذه المطابع كتباً دينية.
ويعيد المؤرخون أسباب انتشار المطابع العبرية لهجرة اليهود من أوروبا إلى فلسطين هرباً من الاضطهاد الذي كانوا يتعرضون له في تلك البلدان، واهتمام قيادة الحركة الصهيونية ببعث اللغة العبرية كلغة لليهود من خلال تنشيط الطباعة، وأما مطابع أتباع الديانة المسيحية فتعود أسباب ازدهارها إلى ملكية الكنائس لها، واهتمامها بالكتب الدينية التي لم تر السلطة التركية أيّ خطر عليها من صدورها.
في مواكبة النهضة العربية
نهضت الطباعة العربية في فلسطين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وذلك استجابة موضوعية لاتساع أنشطة النخب المطالبة بالإصلاح، وتبلور رؤيتها للتغييرات المنشودة في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وما نتج عن ذلك من ميلاد الصحافة وتزايد عدد الصحف والمجلات؛ حيث انعكس ذلك بتأسيس عدد من المطابع التجارية في القدس وحيفا ويافا، ثم ازداد نشاط الطباعة في فلسطين إثر الانقلاب العثماني العام 1908 وإعلان الدستور وإطلاق حرية الصحافة.
ظلت المطابع العربية عاجزة عن مواكبة التقدم بسبب الأوضاع السياسية المضطربة أيام الانتداب البريطاني وتدهور الحياة الاقتصادية في فلسطين
ومن هذه المطابع "المطبعة الوطنية" التي أسسها في أواخر القرن التاسع عشر الأديب ألغونس انطون ألونصو، وكانت تطبع مجلة النفائس لصاحبها خليل بيدس، وجريدة الكرمل التي أصدرها نجيب نصار، وكان في مقدمة الصحافيين الذين أنشأوا مطابع خاصة جرجي حبيب حنانيا، الذي كان يطبع في مطبعته جريدة القدس التي أسسها العام 1908، ويطبع فيها أيضاً مجلة الأصمعي لصاحبها حنّا العيسى، وكان لعيسى العيسى وأخيه يوسف داود العيسى مطبعتهما الخاصة في يافا، وكانا يطبعان فيها جريدة فلسطين التي أصدراها العام 1911.
إلا أنّ حركة الطباعة تأثرت سلباً بتوقف أكثر الصحف عن الصدور خلال الحرب العالمية الأولى، فتأخر شأنها، ثم عادت إلى النشاط بعد الحرب، لكن المطابع العربية ظلت غير قادرة على مواكبة التقدم في الطباعة بسبب الأوضاع السياسية المضطربة أيام الانتداب البريطاني، وتدهور الحياة الاقتصادية في فلسطين.
دخول الطباعة إلى شرقي الأردن
عند تأسيس إمارة شرقي الأردن في العام 1921 لم تكن في البلاد أية مطبعة؛ بل كانت الإمارة وسكانها يعتمدون في تأمين حاجياتهم من الكتب والمطبوعات والصحف على استيرادها من البلاد المجاورة، وكانت أول مطبعة في الإمارة هي مطبعة خليل نصر في عمَّان التي أنشئت العام 1922، ثم ظهرت مطبعة الحكومة العام 1925.
ومطبعة خليل نصر تأسست في حيفا العام 1909 بإدارة صاحبها خليل نصر اللبناني الأصل، ولظرف ما نقل مطبعته إلى عمّان العام 1922، بُعيد دخول الأمير عبد الله بن الحسين إليها وتأسيس إمارة شرق الأردن، وقد أطلق عليها مطبعة الأردن، وكان من أهم مطبوعاتها طباعة ونشر صحيفة الأردن، تلاها إنشاء مطبعة الحكومة بعد 3 أعوام في الأردن العام 1925، والتي كانت تقوم بطباعة ما تحتاجه في شؤون إدارة الدولة والحكومة والجيش.
كانت أول مطبعة في إمارة شرقي الأردن هي مطبعة خليل نصر في عمَّان التي أنشئت العام 1922
وقد لعبت مطبعة الأردن مع المطبعة الوطنية -وهي ذاتها المطبعة الأميرية التي باعتها الحكومة لمحمد نوري السمان- دوراً مهماً خلال فترة العشرينيات والثلاثينيات في حركة الطباعة والنشر والثقافة في الأردن، وقد ترافق نشاطهما مع نشأة الصحافة في البلاد؛ حيث طبعت فيهما أولى الصحف الأردنية، كصحيفة "الشريعة" لكمال عباس ومحمود الكرمي، و"جزيرة العرب" لحسام الدين الخطيب، و"صدى العرب" لصالح الصمادي.
ثم ظهرت مطابع أخرى مهمة، منها مطبعة الاستقلال العربي، التي أسسها في عمان جودت شعشاعة في العام 1932؛ حيث ساهمت أيضاً في نشر ثقافة الطباعة والكتب المدرسية والقرطاسية والمطبوعات التجارية لكنها توقفت بعد سنوات ولم تستمر، ومطبعة جمعية عمال المطابع التي أنشئت في العام 1959 في شارع الملك الحسين، وهذه المطبعة أسسها مجموعة من عمال المطابع الأخرى، واتفقوا على أن تكون وقفاً لهم ولورثتهم من بعدهم.