تحديث التصوف وربطه بالواقع يسهمان في مواجهة التشدد

تحديث التصوف وربطه بالواقع يسهمان في مواجهة التشدد

تحديث التصوف وربطه بالواقع يسهمان في مواجهة التشدد


18/11/2024

خالد هدوي

يراهن باحثون ودارسون للتيارات الإسلامية على أن مواجهة التشدد الذي ساد في العقود الماضية لا تتم فقط من خلال مواجهته بصدمات الحداثة لتفكيكه، فهذه معركة نجحت هذه التيارات المتشددة في ربحها، وأن أفضل طريقة للمواجهة هي استدعاء الفكر الصوفي الذي يتحرك من داخل المنظومة الإسلامية وبنفس مدونتها مع اختلاف في التأويل، معتبرين أن الزخم الروحي المتين في التصوف قادر على الحد من غلواء التشدد الفكري في التيارات المقابلة التي حولت الدين إلى واجهة في لعبتها السياسية.

لكن التصوف بذاته يحتاج إلى تحديث حتى يجدد آلياته ويكون قادرا على مواجهة تيارات باتت تستخدم آليات جديدة وتقوم على المراوغة بتبني الشيء ونقيضه مثل لعبة الإسلام الديمقراطي أو نسبة التحديث إلى الدين من بوابة “الإعجاز القرآني”، حيث يتم تطويع الدين يمنة ويسرة لخدمة أجنداتها.

وأعلن بدري المداني، الباحث في الفكر الإسلامي التونسي، وإمام وخطيب مسجد باليرمو الإيطالية، عن تأسيس طريقة تصوّف جديدة تعرف بـ”البدرية المدانية الشاذلية” لنشر التصوف الإسلامي السنّي الصحيح، في خطوة يرى مراقبون أنها  تؤكّد على دور التصوف الإسلامي في نشر المنهج الإسلامي الصحيح وقطع الطريق أمام الأفكار المتشددة التي تحاول بعض التيارات نشرها حول العالم.

وقال بدري المداني شيخ الطريقة البدرية المدانية، إن “الهدف من تدشين هذه الطريقة الصوفية هو إنقاذ التصوّف مما علق به من شبهات جعلته محل الانتقاد، وحتّى نُعيد هذا الركن الثابت في الدين والمقام الإحساني الشريف بعون الله تعالى وهدي سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسار التأصيل الشرعي، والأخلاق الزكيّة وتربية النفوس والأرواح والأذواق”.

وأشار المداني إلى أن “المنتمي إلى طريقتنا يتحلّى بالفطانة والصدق والأمانة والتبليغ عبر سلوكه الأخلاقي القويم ومشاركته في كلّ مكان فيه اجتماع واستماع وانتفاع ثمّ نفع، كما أنه لا زهد ولا انزواء بالمفهوم المتداول في التصوف، فالظهور والاحتكاك بالناس والتحلّي بفاضل الأخلاق في التعامل مع الناس ذلك هو السلوك النبوي، والزهد القلبي هو المطلوب فالنعمة حين تتجلّى يتجلّى عبرها فضل الله المنعم ويتجلّى عبرها الاستغناء عن عطايا الخلق”.

ويقول خبراء إن المداني يحاول بطريقته الترويج لخطاب ديني مغاير للسائد والمتداول، والتصدّي لما اعتمدت عليه التيارات المتطرفة للطعن في التصوف وأهله والتسويق له كبدعة وضلالة. لكن هناك مخاوف من أن يكون هذا التمشي مجرد مزاج شخصي أكثر منه رؤية يمكن أن تجمع حولها مريدين/ أنصارا مقتنعين بها.

وقال كريم شنيبة، المتخصص في الحركات الدينية، إن “التصوّف من أبرز المدارس الفكرية الإسلامية التي استطاعت الاستمرار والتأقلم مع مختلف الحقب والفترات رغم ما عرفه في بداياته من صد ورفض من قبل الكثيرين من أهل العلم الذين صنفوه كبدعة مستحدثة في الإسلام، بينما رأى غيرهم أنه داخل في مسمى الزهد الذي له أصل ومستند شرعي، وقد عرف هذا السجال على مرّ التاريخ فترات دموية، مثل ما تعرض له الحلاج والبسطامي وغيرهم، بل ولحق الاضطهاد حتى مؤلفات المتصوفة وكتبهم من حرق وإتلاف، وفي فترات أخرى كان السجال فكريا”.

وأضاف لـ”العرب”، يمكن القول إن “التصوف ينقسم في الحقيقة إلى قسمين أولهما ما تقدم ذكره من الزهد في الدنيا وملذاتها والتفرغ للطاعات ومداومة الذكر مع السعي الدائم لتزكية النفس من خلال الأذكار والأوراد واجتناب المناهي والمحرمات، والقسم الثاني وهو ما طرأ عليه في تقديري شيء من الانحرافات مثل الاعتقاد في نظرية الحلول والاتحاد وقد شابته كذلك بعض المظاهر التي شوهت صورة التصوف مثل الاعتقاد في القبور ودعاء الأموات، بل وصل الأمر بالبعض إلى بعض مظاهر الشرك، وهذا الأخير هو ما اعتمدت عليه التيارات المتطرفة للطعن في التصوف وأهله والتسويق له كبدعة وضلالة، وقد يلاقي هذا الطرح رواجا لدى البعض خاصة مع غياب جوهر التصوف وبقاء صور مشوهة من مظاهره”.

وتابع شنيبة “أما عن طريقة الدكتور المداني التي أعلن عن إنشائها مؤخرا بإيطاليا فالأمر يحتاج إلى المزيد من التوضيحات من الشيخ بدري لمعرفة ما إذا كان المقصود بها طريقة على المنهاج التقليدي والتي يكون لها شيخ مربي له مرتبة الولاية ويكون لها عهود وأذكار وأوراد ومراتب وتدرجات، أم أن المقصود هو إحياء وإعادة نشر التصوف بمعانيه السامية كبديل لخطاب العنف والتطرف، وفي كلتا الحالتين يمكن اعتبارها محاولة للترويج لخطاب ديني مغاير للسائد والمتداول، خاصة وأن الشيخ المداني ينشط في بلد أوروبي ومع الجاليات المسلمة هناك والأكيد أنه أعلم باحتياجاتهم الروحية أكثر من غيره”.

ويرى متخصصون في الطرق الصوفية، أن طريقة المداني جاءت لتحافظ على الإرث الصوفي الذي ينتمي إليه الرجل، وسط مساعي حقيقية لتنقية الطرق الصوفية من التطبيقات الخاطئة، وقطع الطريق أمام من يسعون إلى إضفاء أبعاد سياسية عليها.

وأفاد حسن بوعبدالله، رئيس اتحاد الطرق الصوفية بتونس وهو أيضا إمام خطيب، بأن “طريقة بدر المداني جاءت للتعريف بالصوفية، وليست لها أطماع سياسية، بل إن الصوفيّة تبرّك ومعرفة وسلوك”.

وقال في تصريح لـ”العرب” إن “الصوفية لا تخرج عن صيغتها الدينية، وهي ذكر ومجاهدة للنفس، وهناك نواة مشتركة بين جميع الطرق الصوفية، والمداني يمثّل تواصلا في إطار طريقة تبرّك للمحافظة على الإرث الصوفي في مدينة قصيبة المديوني (وسط)”.

وأردف حسن بوعبدالله، “لم تعد هناك صوفية واحدة، بل أصبحت متعددة الطرق، وهي طريقة روحانية بالأساس، ونسعى إلى تنقية الطرق الصوفية مما شابها من التطبيقات الخاطئة، وهناك بعض الأشخاص يسعون من خلالها إلى تحقيق مآرب سياسية، لكننا نحافظ على مفهومها الحقيقي”.

ولعبت الطرق الصوفية دورا مهمّا بعد ثورة يناير 2011، من خلال التصدي للفكر المتطرف الذي اجتاح البلاد وجرّ العديد من شبابها إلى بؤر التوتر.

وسبق أن اعتبر بدري المداني في تصريح لـ”العرب” أنه “بعد الثورة واجهت الزوايا والمقامات الدينية المدّ المتطرف سواء السلفي أو غيره وكانت ضحية في بعض الأحيان بعد حرق العديد من هذه الزوايا (على يد متشددين) في محاولة لتخويف أهل الطرق لأنه في جميع الحالات يرون أنهم أناس يعيشون حياة الزهد لكن هناك العديد من القائمين على هذه الزوايا تصدوا لهذا الفكر”.

وأضاف أن “نسبة كبيرة من شيوخ الزوايا ليست لهم أي أهلية علمية، فاقد الشيء لا يعطيه، نحن بحاجة إلى ثورة داخل هذه الزوايا لكي تضطلع بدور أكبر، مثلا في أزمة وباء كورونا لم نسمع بأي مساهمة تقريبا من الزوايا في المجهود الوطني بينما دفع ذلك جمعيات مشبوهة إلى التقدم بمساعدات وغيرها، هناك أيضا جمعيات لا تستحق أن تكون موجودة لكنها موجودة بنشاطها مثل اتحاد علماء المسلمين، الزوايا أمام خيارين: إما التجدد أو الاندثار”.

وتحظى الطرق الصوفية بحاضنة شعبية واسعة في مختلف أنحاء البلاد، بما فيها العاصمة التي يُطلق عليها مصطلح “تونس المحروسة” نظرا إلى حراستها من الأربع جهات شرقا وغربا، شمالا وجنوبا بأربعة أولياء صالحين هم: الولي الصالح محرز ابن خلف الملقب بسلطان المدينة وحاميها الأول، والولي الصالح الثاني أبي الحسن الشاذلي، والثالث الولي الصالح أبي سعيد الباجي الملقب برايس الأبحار حامي تونس من واجهتها البحرية وأخيرا السيدة المنوبيّة وهي سيدة فاضلة.

العرب




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية