تاريخ الرق: كيف برّر الإنسان استرقاق غيره؟

تاريخ الرق: كيف برّر الإنسان استرقاق غيره؟

تاريخ الرق: كيف برّر الإنسان استرقاق غيره؟


18/11/2023

تاريخ البشرية مع العبودية موغل في الظلم والقسوة، وانتهاك الجسد والروح، والإنسانية اليوم في حاجة إلى التخلص من هذا الإرث والتبرؤ من الظلم الذي صنعه الأجداد، وفي محاولتهم لإراحة الضمير الإنساني، صادقت أعضاء الجمعية العامة لفيرجينيا، في 24 شباط (فبراير) 2007، على القرار رقم (728) بالإجماع، الذين يعتذرون فيه للإنسانية لاستخدامهم العبودية، ومما جاء في القرار "أنّنا نشعر ببالغ الأسى بسبب العبودية القسرية للأفارقة واستغلال الأمريكيين الأصليين لهم، ونحن نريد المصالحة بين سكان كل فيرجينيا"، ومعلوم أنّ فيرجينيا كانت أهم مستوطنة إنجليزية مارست العبودية، وكان ميناؤها المشهور، جيمس تاون، يستقبل الأفارقة المسروقين لبيعهم كعبيد في أمريكا.
النزوع البشري لاسترقاق الآخر
يؤكد عبد السلام الترمانيني، في كتابه "الرقّ: ماضيه وحاضره"؛ أنّ هذه الظاهرة البشعة لم تكن من صنع الإنسان المتوحش، إنما هي تجلٍّ من تجليات الإنسان المتحضر! فالجماعات البدائية التي كانت تعيش في العصر الحجري، وتتغذى من الصيد والقنص وجني الثمار الطبيعية، كما يقول، لم تعرف الرقّ، فقد كان يشيع فيها التعاون والمساواة، وتعمل مشتركة في تحصيل غذائها، وإذا ما ندر الغذاء؛ فقد تدفعها غريزة الكفاح من أجل البقاء إلى قتل المستضعفين من أبنائها، الذين لا يقدرون على الحصول على الغذاء، فيقتلون الشيوخ والمرضى، أو يتخلون عنهم، فيموتون من الجوع، وقد يقتلون النساء والأطفال لأنّها أفواه لا نفع منها.

اقرأ أيضاً: في اليوم العالمي لمكافحة الاتجار بالبشر.. تعرف إلى أبرز أشكال العبودية

غلاف كتاب "الرقّ: ماضيه وحاضره" لعبد السلام الترمانيني

إذا كان الله، عز وجل، خلق البشر جميعاً أحراراً؛ فكيف نشأ هذا التوجه لاسترقاق الآخرين؟ يؤكد التاريخ أنّ ذلك كان بالدرجة الأولى بسبب الحروب وما نتج عنها؛ فعندما تطور المجتمع أخذ الإنسان في زراعة الأرض، واستقر فيها، وأصبح له وطن ثابت، فأنشأ المدينة، واختار لها مكاناً على شواطئ الأنهار، ومع تعدد ظهور المدن نشأ بينها تنافس وصراع؛ إمّا لحماية مواردها، أو طلباً لضمّ موارد غيرها إليها، فنشبت الحروب، ونتج عن الحروب قتلى وأسرى، ووفق الاتفاق الضمني صارت قواعد الحرب تقضي بقتل القادة، وأسر الجنود، ولأنّ الجنود في معسكرهم يستهلكون الغذاء فكان يجب تحويلهم إلى طاقة منتجة، فسخروهم في رعي الماشية، أو في صنع الأدوات، أو بناء المعابد والمنازل،.. ما أدى إلى ظهور طبقة مستضعفة من العبيد.

مع ازدياد اعتماد المجتمعات السابقة على العبيد أصبحوا يمثلون قوة اقتصادية قامت حروب لأجلها

في ذلك الوقت الموغل في القدم؛ عُدّت نجاة الأسير من القتل والاكتفاء به عبداً يقوم بالأعمال الشاقة، تقدماً أخلاقياً عظيماً، لكن مع ازدياد اعتماد المجتمع على العبيد، أصبح الحصول على الرقيق قوة اقتصادية في ذاتها، وكثير من الحروب قامت من أجل الحصول على الرقيق فحسب، وبقيام نظام الرقّ في المدينة؛ انقسم اﻟﻤﺠتمع المدني إلى طبقتين: الأولى طبقة الأحرار، والثانية طبقة العبيد، وكثيراً ما ضاق العبيد بوضعهم المزري، وقاموا بثورات على أسيادهم ليتنسمّوا عبير الحرية، لهذا تم سنّ القوانين التي تنظم حياة الرقيق والعبيد.مصادر أخرى للاسترقاق

انقسمت طبقة الأحرار إلى قسمين؛ الأول أغنياء يملكون، والثاني: فقراء لا يملكون، وتحت ضغوط الفقر والجوع والدَّين اضطروا إلى بيع أولادهم فاسترقّهم الأغنياء.

اقرأ أيضاً: أرقام صادمة.. "العبودية العصرية" تجتاح العالم
ومع تطور المجتمعات ارتكبت الجرائم المختلفة، فتم سنّ قوانين تنص على أنّ من يرتكب أفعالاً تخلّ بالنظام الاجتماعي أو السياسي، يتحول إلى عبد يملكه من ارتكب في حقّه الجريمة.
وحين زادت الحاجة إلى الرقيق؛ أضيف للرقّ مصدر آخر؛ هو الرقيق اﻟﻤﺠلوب بالخطف أو الشراء، فقد تآلفت عصابات، في البرّ والبحر، كانت تغير على القوافل أو المراكب التي تحمل المسافرين، أو تغير على جماعات آمنة، فتأسر الرجال وتسبي النساء والأطفال، وتسوقهم إلى مدن بعيدة يباعون فيها، فأُقيمت أسواق خاصة لبيع وشرائهم كما فعل الأمريكيون مع الأفارقة.

موقف الفلاسفة والأديان
يؤكد الأستاذ عبد السلام الترمانيني، في كتابه "الرقّ؛ ماضيه وحاضره"؛ أنّ كثيراً من الفلاسفة القدماء لم يكونوا ضدّ (العبودية)؛ فأفلاطون وأرسطو كانا يؤمنان بضرورة بقاء نظام الرقّ لضمان سلامة المجتمع، وكانا يؤمنان بأنّ العبودية والاسترقاق مباح لغير اليوناني، وأنّ اليوناني أفضل عقلاً من باقي الشعوب، لكن في الوقت نفسه؛ خالفهم الفلاسفة الرواقيون الذين كانوا يرون أنّ الحرية منحة للإنسان، أي إنسان، لا يحقّ لأحد أن يسلبها منه لأيّ سبب.

كثير من الفلاسفة كأفلاطون وأرسطو كانوا يؤمنان بضرورة بقاء نظام الرقّ لضمان سلامة المجتمع

أما الفلاسفة المعاصرون؛ فمنهم من أيّد العبودية صراحة، كهيجل، الذي يرى أنّ استعباد الأوروبيين للأفارقة، وبيعهم بعيداً عن بلدانهم الأصلية، خدمة جليلة لهم؛ لأنّهم انتشلوهم من واقع محلّي شديد القسوة، إلى مجتمع متحضّر يتعلمون فيه الإنسانية؛ لهذا يعارض هيجل القضاء على العبودية بشكل فوري؛ فلا بدّ للعبد أن يصير ناضجاً، ويتعلم الحرية أولاً، ويوافقه الفيلسوف المشهور، توماس هوبز، الذي كان يرى أنّ مرحلة السادة والعبيد هي مرحلة أساسية في الجنس البشري، وأنّها من مقتضيات عصور بشرية أصيلة.
غير أنّ هناك من الفلاسفة من عارض العبودية وتجارتها، مثل جون لوك، الذي أصرّ في الأطروحة الثانية عن الحكومة (1690)؛ أنّ كلّ "البشر" في حالة من الحرية التامّة والمساواة، وأنّه لا يمكن لأحد أن يبيع نفسه للعبودية مقابل المال، حتى لو أراد ذلك.
لم تتعرّض الأديان صراحة لموضوع الرقّ؛ فالكنيسة المسيحية لم تكن تجيز استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، لكنها لم تقف موقفاً حاسماً ضدّ تجارة العبيد، أما الإسلام؛ فقد فتح باباً للتخفف من ظاهرة الاسترقاق وهو "فك الرقبة"؛ أي منح الحرية للعبد، وجعلها أول الكفّارات الملزمة عند ارتكاب بعض الذنوب.
وثيقة لنكولن
انتبهت الإنسانية إلى قبح العبودية وما ينتج عنها من مشكلات اجتماعية، فكان عليها أن تتخلص من هذه الوصمة، وكانت البداية عندما وقّع إبراهام لنكولن وثيقة تحرير العبيد، في الأول من كانون الثاني (يناير) 1863، ومما قاله في هذه الوثيقة: "إذا لم تكن العبودية خطأ، فإنّه ليس هناك شيء خطأ".

اقرأ أيضاً: العبودية الحديثة.. واقع خطير يصعب اجتثاثه
ونشبت الحرب الأهلية الأمريكية على خلفية هذا القرار، فقد كان الأمريكيون الجنوبيون يعتمدون على العبيد في الزراعة التي تحتاج إلى أيدٍ عاملة رخيصة؛ لهذا تمسكوا بنظام العبودية وتجارة العبيد، حرصاً على مصالحهم الاقتصادية، أما الشمال؛ فقد كانت الصناعة هي مصدر اقتصادياته، وحلّ العمال محلّ العبيد، ولم يكونوا في حاجة إلى استعبادهم للعمل، وانتشرت ثقافة تحرير العبيد ومنع الاتجار بهم، وانطلق صراع مرير بين أنصار العبودية وأنصار الحرية، الذين انتصروا في النهاية، حتى أنّ الجمعية العامة للأمم المتحدة تبنت معاهدة القضاء على الاتجار بالبشر، في الثاني من كانون الأول (ديسمبر) 1949.

يؤكد التاريخ أنّ الحروب وما نتج عنها كان بالدرجة الأولى سبب ظهور العبودية

مصر وأول خطوة لوقف تجارة العبيد

يشير الكاتب عماد هلال، في كتابه "أنت حُرٌّ لوجه الله"؛ إلى أنّ الرقّ وتجارته في مصر كان معترفاً بهما من بداية حكم محمد علي، حتى أنّ تجارة العبيد كانت تتم في وكالة مخصصة لذلك، مثل: وكالة السلحدار، أو الجلابة، أو المحروقي، وعندما حكم سعيد باشا أصدر أمراً عالياً، العام 1855، يجرّم الاتجار بالعبيد، لكنّه لم يدخل حيز التنفيذ، لاعتقاد البعض أنّ الشريعة الإسلامية تجيزه، وأنّ هذا منع لأمر من أمور الإسلام.

اقرأ أيضاً: العبودية "لا تزال موجودة في بريطانيا"
وفي حكم الخديوي إسماعيل؛ عقدت معاهدة بين مصر وبريطانيا، في 4 آب (أغسطس) 1877، تهدف إلى محاربة تجارة الرقيق داخل وخارج مصر، وفي حزيران (يونيو) 1880؛ أنشأ الخديوي توفيق "مصلحة إلغاء الرقّ"، واستمرّ تصنيف تجارة الرقّ بأنها عمل غير مشروع يعاقب فاعله.
لكنّ الرقّ اتخذ شكلاً آخر في مصر، كما يقول عبد الوهاب بكر، في كتابه "المجتمع السري للقاهرة"؛ حيث تمت سرقة بعض الفتيات الأوروبيات، وتقديمهنّ إلى سوق البغاء والمتعة، بين عامَي 1913 و1926.
هل انتهت تجارة العبيد؟
لم تختفِ تجارة العبيد، ولم يتوقف استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، كلّ ما في الأمر أنّ شكل العبودية اختلف؛ فبدلاً من الخطف أو الأسر أو البيع؛ أصبحت العبودية هي الإجبار على العمل القسري، أو الزواج القسري، أو بيع واستغلال الأطفال، عبر استخدام العنف أو الخداع أو التهديد، إضافة إلى تجارة الاستغلال الجنسي الذي يعد من أسوأ صور العبودية الجديدة، وما مارسه تنظيم داعش الإرهابي، مثلاً في مناطق سيطرته، يؤكد أنّ هذه النزعة لم تنتهِ بعد.

نشبت الحرب الأهلية الأمريكية إثر قرار لنكولن بتحرير العبيد الذين كان الجنوبيون يعتمدون عليهم في الزراعة

وفي هذا الصدد؛ أعدّت منظمة "ووك فري" العالمية للبحوث، المعنية بمكافحة جميع أشكال العبودية الحديثة؛ مؤشر العبودية العالمي لعام 2018، الذي استعرضَ مؤشرات العبودية الحديثة، شمل التقرير أرقاماً صادمة عن ضحايا العبودية الحديثة، في أكثر من 160 دولة حول العالم، تبيّن منه أنّ أكثر من 40 مليون عبد يعيشون في العالم اليوم، من بينهم 400 ألف في الولايات المتحدة الأمريكية، وحوالي 136 ألفاً آخرين يعيشون في بريطانيا، وتشمل القائمة دولاً مثل موريتانيا وأوزبكستان، وهاييتي، وقطر.
ويخلص المطلع على هذا التقرير أنّ الإنسانية لم تتعلم بعد من أخطاء الماضي؛ فرغم كلّ المحاولات لمحاربة العبودية، وتجريم الاتجار بالبشر، ما يزال الإنسان ينزع إلى استعباد أخيه الإنسان، لكن بتغيير الأساليب فقط.

الصفحة الرئيسية