تأويل معاني النصّ القرآني في ضوء العلوم الحديثة (2-2)

تأويل معاني النصّ القرآني في ضوء العلوم الحديثة (2-2)


04/04/2022

محاولة القبض على حقيقة نهائية للنصّ لا تؤدّي إلّا إلى القطيعة، التعصب، أحادية الطرف، رفض الحوار، وادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، وهي الأزمة التي وقع فيها تراثنا العربي، وأدّت إلى تكفير البعض لمخالفيهم في تفسير القرآن، زعماً أنّ هناك "المعنى" الذي لا خلاف عليه، وبما أنّ كلّ فرد يتصوّر ما وصل إليه هو المعنى الذي يحمله النصّ، ومن ذلك القرآن الكريم، فصار غيره على خطأ، بل وخارجاً عن الملة في أحيانٍ كثيرة.

لكن مع تطور علوم اللغة والهرمنيوطيقا باتت السيادة للمفهوم الذي يرى لكلّ نصّ عدة قراءات، وبات ذلك علم القراءات في الفلسفة الغربية المعاصرة.

اقرأ أيضاً: تأويل النصوص الدينية بحثاً عن المعاني المختبئة (1-2)

وبعد أن أصبح حقّ الوصول إلى معنى متاحاً لمن لديه مقدّرة على القراءة الحديثة للنص، يظهر تساؤل حول أيّ معنى يُعدّ مقبولاً، وهل جميع المعاني متساوية، وألا يؤدّي ذلك إلى فوضى في المعاني، فبإمكان كلّ أحد ادّعاء أنّه وصل إلى معنى، مما يؤدّي إلى تضارب المعاني حول نصّ واحد، وبالتالي الوقوع في سوء الفهم الذي سعت الهرمنيوطيقا لتلافيه في المقام الأول.

الهرمنيوطيقا وفوضى المعاني

وإذا كانت الهرمنيوطيقا أتاحت المجال أمام الجميع للوصول إلى معنى، ولم يعد احتكار المعنى خاصاً بفئةٍ بعينها، إلا أنّها لم تترك عملية الفهم دون ضابطٍ، فأصبحت لها مبادئ وبديهيات على الباحث القبول بها كي يمكنه الانفتاح على المعنى، فهي ليست منهجاً بخطواتٍ يمكن من خلاله الفهم فقط.

 

اقرأ أيضاً: هل ما زلنا في حاجة إلى الفلسفة؟

ومن تلك البديهيات تنحية وهم الموضوعية، فلا يستطيع المتلقي التخلي عن ذاتيته، حتّى في المناهج الوصفية التي تستخدم في العلوم الطبيعية، فاختيار جداول التصنيف تخضع لفكر الباحث، فكيف بالنصوص والعلوم الإنسانية والسلوك البشري.

الهرمنيوطيقا (علم التأويل) أتاحت المجال أمام الجميع للوصول إلى معنى، ولم يعد احتكار المعنى خاصاً بفئةٍ بعينها

ويرى رودولف كارل بولتمان، في دراسته بعنوان "مسألة الهرمنيوطيقا"؛ أنّه من الاهتمام بالموضوع تنبثق طريقة معينة في طرح الأسئلة، وينبثق هدف في مساءلة النصّ، ومبدأ هرمنيوطيقي معين. ويمكن أن يتطابق هدف المساءلة مع قصد النصّ، وفي هذه الحالة النصّ وسيط مادة الموضوع التي توضع للمساءلة على نحو مباشر. لكنّ الهدف يمكن أن ينمو من الاهتمام بمسائل تظهر في أية ظاهرة ممكنة في الحياة الإنسانية، وطبقاً لذلك تظهر في أيّ نصّ ممكن، وفي هذه الحالة لا يتطابق الهدف من المساءلة مع قصد النصّ، والنص يكون وسيطاً لمادة الموضوع التي توضع للمساءلة على نحو غير مباشر.

من المهم القضاء على وهم امتلاك الحقيقة حول نصّ ما، ولو كان نصاً مقدساً، فالنص مفتوح للأبد، ويعامل الجميع بمساواة، مما يعلمنا أن نتحاور مع الآراء المختلفة

وتبعاً لذلك؛ يصبح الفهم الدائم طبيعة تأويلية، بحكم تجدّد خبرات وأفكار المؤول/ المُفسر القبلية، التي حين تتجدّد وفق النصّ أو التراث، تنتج جديداً، وهكذا في عملية تأويلية لا نهائية. ويقول الفيلسوف جادامير: "النموذج الرئيس لكلّ تفاهم هو الحوار والمحادثة. ونعرف أنّ الحوار مستحيل إذا استحوذ أحد شركاء هذا الحوار وبشكل مطلقٍ على المكانة أو الوضعية الراقية مقارنة مع الآخرين، عندما يزعم مثلاً امتلاك معرفة مسبقة حول الأحكام القبلية التي يصبح فيها الآخر أسيراً"؛ لهذا تستقبل التجربة التأويلية كلّ طموحٍ إلى معرفة مسبّقة بنوع من الشكوكية والارتياب؛ إذ ينبغي أن تستعمل أحكامنا المسبّقة في سياق الفهم نفسه.

تصبح عملية التأويل/ التفسير كالآتي

وهذه الخطوات التالية ليست منهجاً في الهرمنيوطيقا أو التأويل، بل أقرب لإرشادات يجب أن يعتنقها الباحث كي يمارس الهرمنيوطيقا، وهي مبنية على قراءة في إسهامات غادامير وغيره.

 

اقرأ أيضاً: النصوص الدينية لا تقتل.. التأويل الظلامي لها هو المجرم

1- وجود تصوّر قبلي مسبق، ينبغي أن يخضع للمراجعة المستمرة كلّما تقدمنا في اختراق المعنى؛ لأنّ القضية لا تتمثّل في إزالة الفهم المسبّق بل في ركوب خطره، وفي رفعه إلى مستوى الوعي وفي اختباره نقدياً في فهم النصّ. باختصار؛ على المرء في مساءلة النصّ أن يُسلس قياده كي يكون موضع مساءلة من النصّ، وأن يولي دعوى النصّ عنايته، وفق بولتمان.

2- قراءة النصّ بنوع من جوانية الانتظار بخصوص دلالته الدقيقة.

3- كلّ مراجعة لتذهن المعنى واستحضاره المسبق يمكنها أن تتصور استحضاراً جديداً لمعنى جديدٍ.

4- قد تهيّئ عدّة تصوّراتٍ متنافسة إلى تأسيس وحدة المعنى بصورة واضحة.

5- عندما تخفق إرادة الكشف عن حقيقة ما يقال، فإنّنا نسعى إلى فهم النصّ باعتباره رأي الآخر أي وفق طريقة نفسية أو تاريخية.

وتحصل عملية الفهم بتضارب الأفق التاريخي للمتلقّي مع الأفق التاريخي لصدور النصّ، وهذا ما يساعد بدوره على تباين المعاني التي ينتزعها الأفراد من النصّ الواحد، وعلى المؤول أن يدرك النصّ في أفقه التاريخي، دون أن يدّعي الحلول مكان المؤلّف. وعملية التأويل مفتوحة، بالنسبة للباحث الفرد أو الآخرين، وهي دائرة تأويلية/ هرمنيوطيقية، فكلّ معنى يعزّز القدرة على إعادة الفهم، حتّى يصل الباحث إلى معنى يمكن إثبات صحّته من خلال القواعد الهرمنيوطيقية.

 

اقرأ أيضاً: الفلسفة هي الحل

ويتّخذ الفهم بهذا المعنى علاقة ذات بأصولها وجذورها ووعي بماضيه وتاريخه، والعلاقة مع الآخر التي تدفع إلى مساءلة حاضرنا وحضورنا وصياغة أسئلتنا ومشكلاتنا والتنقيب عن أجوبة مناسبة وانتظارات دلالية ملائمة، وفق جادامير.

 

اقرأ أيضاً: الفلسفة الإسلامية: مشروع النسيان والنبذ

وتؤكد الهرمنيوطيقا على أهمية الحوار بين المعاني أو التفسيرات، بانفتاح على الآخر، فمن خلال الحوار تتّسع آفاق المعنى، ويخفت تضارب المعاني. وبشكل مؤكد أعطت الهرمنيوطيقا مكانةً للمُتلقّي في عملية الفهم، وأصبح هو مقياس هذه العملية، فهناك اختلافات معرفية وشخصية وعقلية بين المُتلقّين، تنتج معاني متعدّدة، غير أنّ أقوى هذه المعاني، وأقدرها على الصمود في وجه النقد سيصبح المعنى حتّى ظهور معنى آخر يحاوره وفق قواعد الهرمنيوطيقا، ويتغلّب عليه، ولا يعني ذلك أنّه لا بدّ من معنى واحد، بل ربّما عدة معانٍ تحوز جميعها قوّة هرمنيوطيقية، ويستطيع أصحابها الدفاع عنها.

 

اقرأ أيضاً: يناقش علاقة الأدب بالفلسفة.. صدور عدد جديد من مجلة "ميريت الثقافية"

وتنبع أهمية ما سبق من أنّها تقضي على وهم امتلاك الحقيقة حول نصّ ما، ولو كان نصاً مقدساً، فالنص مفتوح للأبد، ويعامل الجميع بمساواة، مما يعلمنا أن نتحاور مع الآراء المختلفة حول نصّ ما، ونقبل المعاني التي يخرج بها الآخرون، ما دام بإمكانهم تبريرها.

وأما المتلقي أو القارئ فأصبح حراً لأن يقبل المعاني التي يراها مناسبة له، دون التقيد بتفسير واحد أو معنى واحد، خصوصاً إذا دعمته سلطة التراث. فالتراث ذاته هو قراءة لنصوص، يحقّ لكلّ إنسان أن يتعامل معها مباشرةً، بالتفسير والتأويل، مثلما فعل منتجو التراث ذاته.

إشكاليّات الفهم الهرمنيوطيقي للقرآن

وبناءً على ما سبق؛ هل بالإمكان تطبيق فهم هرمنيوطيقي على القرآن الكريم أم هناك حاجة إلى تبيئة ذلك وفق خصوصية القرآن؟

هناك عدّة إشكاليات تظهر هنا، من الممكن تصنيفها تحت القسمة الثلاثية في عملية الفهم (المؤلّف، النصّ، القارئ). ففي الحالة الأولى بالنسبة للقرآن، تكون الذات الإلهية بمثابة المؤلّف، وينتج عن ذلك إشكاليات فرعية هي قصد المؤلّف، وكيفية تحديد القصد من داخل النصّ القرآني، وتعالى هذا القصد عمّا يتّصل بالمؤلف البشري من وجدان وعاطفة وظروف اجتماعية، واستبدال الوعي التاريخي بالمؤلف في النصوص الأدبية بالقصد الرسالي للذات الإلهية، وكيف يؤثر ذلك على رؤيتنا للذات الإلهية كمُنتج للقرآن؟

 

اقرأ أيضاً: لماذا يهاب العرب والمسلمون الفلسفة؟

وهو ما سيؤثر على النصّ ذاته، والقارئ بالتبعية، ومسألة تجلّي القصد الإلهي في اللغة البشرية، والعلاقة بين محدّدات اللغة والقصد الإلهي، أي دورها في تكييف القصد، ودورها لاحقاً في عملية الحُجّية على البشر، ثمّ عملية الفهم.

تؤكد الهرمنيوطيقا على أهمية الحوار بين المعاني أو التفسيرات، بانفتاح على الآخر، فمن خلال الحوار تتّسع آفاق المعنى، ويخفت تضارب المعاني

وفي المُكوّن الثاني للنصّ، تظهر إشكاليات حول كون اتّصال البشر بالنصّ (التبليغ) يختلف عن اتّصال القرّاء بالنصوص (القراءة) التي يكتبها المؤلفون البشر، وأنّ خصوصية التبليغ هي جزءٌ من قصد الذات الإلهية، ومسألة حيوية القرآن كخطاب دائم للنّبي والبشر، ذي مستوى خطابي متعدّد، ويتبع ذلك إشكالية جمع وترتيب المصحف مقابل جمع وترتيب نصّ المؤلّف البشري، ثمّ قضية استقلال النصّ عن ذات المؤلّف، وكيف تُعالج هذه الإشكالية مع خصوصية النصّ القرآني الإلهي.

 

اقرأ أيضاً: خلدون النبواني: الفلسفة اليوم ليست بخير

وتظهر إشكاليات مع الطرف الثالث في عملية الفهم، وهو القارئ/ المُفسّر، ومنها مستويات عملية الفهم، والطبيعة الإلزامية لفهم القرآن على المؤمنين به (المسلمين)، سواء مباشرة أو عبر وسيط (التفاسير)، والخلاف حول الآليات المساعدة في الفهم، من لغوية وتاريخية وعقدية، وكيفية معالجة قبليات القارئ في عملية الفهم.

 

اقرأ أيضاً: أثر الفلسفة في تجديد الفكر الديني

وهناك قضية أخيرة ترتبط بأطراف عملية الفهم الثلاثية، وتنبع من خصوصية النصوص المقدّسة، خصوصاً القرآن الكريم، وهي دور النبي محمد، عليه السلام، في تلقي الرسالة الإلهية، وتبليغها، وتأويلها، وهو دورٌ لا ينبغي النظر إليه سلبياً، بالاقتصار عليه كوسيط، بل هو دور حيوي مؤثّر في الخطاب الإلهي؛ إذ إنّ الخطاب تبدّل وتنزل في مواضع كثيرة لمراعاة أو تعليم أو لوم أو تبيان أمور عدّة لشخص النبي، ما يدعو لبحث ذلك في علاقته بأطراف الفهم الثلاثة.

 

اقرأ أيضاً: كيف عادت السلطة الفلسفة والفلاسفة في التاريخ الإسلامي؟

يجب التأكيد على الحاجة لإعادة تبْيئة المفهوم الحديث للمعنى واللغة في بيئة الدراسات الإسلامية، لمراعاة الإشكاليات السابقة، وما يراه الآخرون من إشكاليات أخرى، والإقرار بما للقرآن من مكانة خاصة، تختلف عن النصوص الأخرى.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية