الإسلام السياسي والحزبية: التأويل الديني بالشيء ونقيضه

الإسلام السياسي والحزبية: التأويل الديني بالشيء ونقيضه

الإسلام السياسي والحزبية: التأويل الديني بالشيء ونقيضه


15/07/2024

 

يتّضح من تجربة الإسلام السياسي، بدايةً بحسن البنا وحتّى الآن؛ أنّ هدفه لم يكن يوماً إزاحة الاستبداد بل تعميقه وزيادة حضوره بعد إلباسه قناع الدين الذي يتم توظيفه، في الغالب، لإقصاء الطرف المعارض، ولو بالتصفية الجسدية، كما يتضح جلياً من موقف الإخوان المسلمين من الأحزاب.

 

يتأرجح موقف حسن البنا بين رفض الحزبية بشكل كامل والإقرار بنجاحها في سياقات محددة

يقدّم حسن البنا في كتابه "الرسائل" رؤيته الجذرية للعلاقة الراسخة بين الدين والسياسة، وهو في حديثه عن السياسة لا يقصد إلا السياسة المطلقة؛ وهي النظر في شؤون الأمة الداخلية والخارجية غير مقيدةٍ بالحزبية بحال؛ إذ يقول: "وعلم الله، أيّها السادة، أنّ الإخوان ما كانوا يوماً من الأيام غير سياسيين، ولن يكونوا يوماً من الأيام غير مسلمين، وما فرقت دعوتهم أبداً بين السياسة والدين، ولن يراهم الناس في ساعة من نهار حزبيين، {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55]، ومن المحال أن يسيروا لغايةٍ غير غايتهم، أو يعملوا لفكرةٍ سوى فكرتهم، أو يتلوّنوا بلونٍ غير الإسلام الحنيف؛ {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138]".
في هذا السياق؛ كان حسن البنا معادياً للفكرة الحزبية (السياسية)، لما رآه من ممارسات الأحزاب المصرية التي فهمت الحزبية – كما أوضح – بشكلٍ خاطئ؛ لأنّه يتحدث عن نجاح الحزبية في سياقات أخرى، مثل: إنجلترا وأمريكا.

يرى البنا أن الحزبية إن نجحت بظروف معينة في بعض البلدان فهي "لا تجوز في مصر أبداً"

وفي الحقيقة؛ يتأرجح موقف حسن البنا بين رفض الحزبية بشكلٍ كاملٍ، عندما يؤكد أنّ الأزمة تكمن في الإفراط في عدد الأحزاب التي تشارك في المشهد السياسي العام، لكنه، في "الرسائل" أيضاً، يؤكّد أنّ الحزبية السياسية "إن جازت في بعض الظروف في بعض البلدان؛ فهي لا تجوز في البلدان كلّها، وهي لا تجوز في مصر أبداً، خاصةً في هذا الوقت الذي نستفتح فيه عهداً جديداً، ونريد أن نبني أمتنا فيه بناءً قوياً يستلزم تعاون الجهود، وتوافر القوى، والانتفاع بكلّ المواهب، والاستقرار الكامل، والتفرغ التامّ لنواحي الإصلاح"، وهنا يظهر الالتباس في الرأي بين القطع بعدم جدواها من خلال سندٍ ديني، والإقرار بنجاحها في سياقات محددة.
لكن يبقى، على العموم، أنّ حديث البنا عن الحزبية (الخاطئة والمسرفة) التي عرفتها مصر، لا ينفي عنه أنّه كان على وعي بضربٍ آخر من الحزبية الإيجابية الآمنة، التي عرفتها المَواطن العريقة للحياة النيابية؛ ولعلّ البنا –تبعاً لذلك– أقام حكمه بأنّ الإسلام لا يقرّ الحزبية على خصوصية الحالة المصرية آنذاك، وبما يعنيه ذلك من أنّ حكمه الديني على الحزبية بأنّها "ليست من الإسلام" تابع للحالة الواقعية التي عرفتها مصر، على نحو يمكن القول فيه: إنّه لو كانت الحالة الحزبية القائمة في مصر مغايرة للحالة التي عاينها البنا، لكان حكمه الديني عليها مغايراً للحكم الذي أصدره بعدم إقرار الإسلام لها.

حينما يصطدم المباركفوري بالواقع يضع "استثناء" يتيح للإسلاميين المشاركة بالانتخابات بأحزابٍ سياسيةٍ وما ذلك إلا ضمانتهم للنجاح

ولما كانت ظاهرة الإسلام السياسي ذات خصوصية إيديولوجية واضحة، فإنّ اختلاف الأقطار وتعاقب الأزمنة لا يلغي أبداً النقاط المشتركة الكبرى التي تجمع كلّ المشتغلين في الحركات الإسلامية في العالم العربي وخارجه، إضافةً إلى مركزية خطاب البنا التي تبرز في استمراره بتبنّي مقولاته، ومثالاً على الحالة الأخيرة؛ كتابات عالم الحديث الهندي صفي الرحمن المباركفوري (1941- 2006)، وتحديداً؛ في كتابه "الإسلام والأحزاب السياسية"؛ إذ يذهب إلى أنّ قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "لا تفيد جواز، أو وجوب، بناء الأحزاب السياسية في المجتمع الإسلامي، (و) حكم الأحزاب السياسية في الإسلام: هو أنّه لا يوجد لها أيّ مجالٍ في الإسلام، ولا يجوز بناؤها وتأسيسها في الشريعة الإسلامية"، كما أنّه "ليس للمسلمين أن يقيموا في بلادهم تلك الأنظمة السياسية التي تُبنى على خوض المعارك الانتخابية من قِبل الأحزاب، (وإنّما يجب عليهم) أن يحكِّموا كتاب الله وسنّة نبيه، ويطبقوا الشريعة الإسلامية الغراء"، لكنّه يعود ليؤكد أنّه في حالة توافر "ظروف معينة ودلالات" تضمن نجاح الإسلاميين وفوزهم في الانتخابات، فإنّه يتعين عليهم أن يسهموا فيها "لينقلوا الحكم من الشرّ إلى الخير".
وإذا كان البنا والمباركفوري يتحدّث الواحد منهما عن موقف الإسلام، أي موقف الدين، من فاعلية سياسية كالممارسة الحزبية داخل إطار العمل السياسي للدولة، فإنّهما يقدمان آراءً قطعيةً في وجوب عدم العمل بهذا النظام، لكنّ المباركفوري يعود، حينما يصطدم بالواقع وقسوته، ليضع "الاستثناء" الذي يتيح للإسلاميين المشاركة في الانتخابات بأحزابٍ سياسيةٍ، وما ذلك الاستثناء إلا ضمانتهم للنجاح! وهنا، يعمل الاستثناء الذي هو تجاوز نسبي لمقولة البنا– بشكلٍ "أداتي" تماماً. 

يؤكد محمد سليم العوا أن الإسلام لا يضيّق نظامه السياسي بالتعددية الحزبية في معارضة حاسمة لمقولات البنا

وفي مرحلة من مراحل المراجعات للتيار الإسلامي، يقول محمد سليم العوا في كتابه "الفقه الإسلامي في طريق التجديد" إنّ "الحقّ أنّ نصوص الإسلام القرآنية والنبوية لا تمنع أن تقوم في المجتمع الإسلامي أحزاب سياسية بحالٍ من الأحوال، فخلاصة الاجتهاد الجديد في هذا الأمر أنّ الإسلام لا يضيّق نظامه السياسي بالتعددية الحزبية"، في معارضة حاسمة لمقولات البنا، ومن ساروا في تأييد خطابه بشكلٍ تسليمي.
لكنّ ما يجمع بين الرأيين المتناقضين، رأي البنا والمباركفوري ورأي العوا؛ هو أنّ الجميع يتحدّث عن رأي الإسلام في قضايا تنتمي لتأسيس حداثي لأنظمة علمانية صِرفة، لكنّ المطلوب على الدوام، في سياقنا العربي، كان ومايزال، تسكين القديم بجانب الحديث، مهما ظهرت التناقضات وحالت دون تكوين رؤية نظرية متماسكة عن نظام الحكم في الدول العربية وعلاقته بالدين.
ودون السعي إلى تعميق النظر في مثل هذه الأمور المهمّة، سيظلّ التأويل الديني ينطق بالشيء ونقيضه، وفي هذه الحالة، ينتفع المتحدّثون باسمه، ويبقى الدين "أداةً" في أيديهم يقومون بتطويعه كما يشتهون.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية